الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي… نافذتي إلى قضيّة كوسوفو
لم أكن أعلم، حين أهداني الراحل الشاعر محيي الدين صالح ذات أمسية مفتاحًا إلى عوالم لا يعرفها كثيرون، أنني سأدخل من بوابة ذلك المفتاح إلى أفق فكري وثقافي وإنساني باذخ العمق، يحمل اسم الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي.
رجلٌ لم يكن مجرد أستاذ جامعي أو مفكر أو كاتب، بل كان بمثابة سفير للضمير الكوسوفي في مصر والعالم العربي، وصوتًا ناطقًا باسم شعب يعاني بصمت في هامش الجغرافيا وحديث الصراعات الكبرى.
لقاء أول… ونبع لا ينضب
تعرّفت إلى الدكتور بكر إسماعيل فوجدته رجلًا مثقفًا، كريمًا، محبًا لمصر والأزهر، يحمل قلبًا شرقيًا ونفسًا صوفية هادئة. دعاني مع نخبة من الشعراء المصريين إلى ندوة ثقافية أقامها في منزله خلال شهر رمضان، جمعنا فيها على مائدة الإفطار، كما جمعنا على مائدة الفكر والشعر.
ومنذ ذلك اللقاء الأول، أدركت أنني أمام شخصية استثنائية، تجمع بين التواضع الجمّ وثراء فكري قلّ نظيره.
توطّدت علاقتي به سريعًا، فدعوتُه لإلقاء محاضرة في رابطة الأدب الحديث بالقاهرة، التي كان يترأسها آنذاك الشاعر الناقد الراحل محمد علي عبد العال، وقد شارك فيها بكلمة دافئة وروح متوهجة بالعلم والوفاء.
أستاذ في المعرفة والخُلق
لم يكن الدكتور بكر إسماعيل مجرد أكاديمي في جامعة، بل كان ذا حضور فكري وروحي نادر. وبينما كانت قضيّة كوسوفو آنذاك في غياهب النسيان العربي، كان هو يحملها على كتفيه، لا بصخب الشعارات، بل بعمق الكلمة وحرارة الانتماء.
كان يُدرّس اللغة العربية وآدابها في جامعة بريشتينا بكوسوفو، ثم في جامعة الأزهر بالقاهرة، ويكتب في كبريات الدوريات العربية، من بغداد إلى الرباط، ومن دمشق إلى الخرطوم.
وفي كل مرة نتحاور فيها، كنت أكتشف ضآلة معرفتي بتاريخ كوسوفو وسير الألبان المسلمين في طريق الإسلام والهوية.
لم يكن يُحدّثك بخطاب سياسي نمطي، بل كان يُشعرك أن كوسوفو ليست مجرد جغرافيا، بل ضميرًا حيًا وتاريخًا مطمورًا في ركام الإهمال العربي.
حدثنا عن مراد باشا كما لو كان يتحدث عن صلاح الدين الأيوبي، وعن جامع بربرش في بريشتينا كما لو كان يسرد عن الأزهر الشريف، ينتقل من التاريخ إلى الجغرافيا، ومن الفقه إلى الأدب، ومن اللغة إلى الشعر، كمن يحكي عن نفسه، أو يعرض شريطًا من ذكرياته الخاصة، لا مجرد محاضرة عابرة.
قلمٌ موسوعيّ ونَفَس إصلاحي
كان الدكتور بكر إسماعيل يحمل فكرًا إصلاحيًا موسوعيًا، لكنه في الوقت ذاته شديد التمسك بالجذور، متصلًا بالهوية الإسلامية لا عن تكلّف بل عن معرفة أصيلة.
ومن خلال علاقتي به، أهداني عددًا من مؤلفاته التي تدل على عمق اطلاعه، وأناقة بيانه، وروح شرقية عميقة تفهم المزاج العربي الإسلامي كمن هو منه، لا عليه.
من مؤلفاته:
كوسوفو بين الماضي والحاضر
الألبان وأثرهم في الحضارة الإسلامية
شخصيات ألبانية في الذاكرة الإسلامية
الأدب الألباني الحديث في ضوء الثقافة الإسلامية
رحلتي من البلقان إلى الأزهر
أثر العربية في اللغة الألبانية
الإسلام في البلقان بين القرنين العشرين والحادي والعشرين
عبلة الكحلاوي: حياتها وفكرها
الأستاذ الدكتور عبد الحليم عويس ودوره في خدمة قضية كوسوفو
دراسات وكتابات عن أعلام الأزهر الشريف، أمثال:
الدكتور علي جمعة
الشيخ حسنين مخلوف
الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر
لم تقتصر كتاباته على التاريخ أو اللغة، بل غاصت في الفكر الإسلامي، والسير الذاتية، والتراجم الأدبية، مما جعله مؤرخًا ثقافيًا للضمير الألباني، وناقلًا وفيًّا لجراح شعبه إلى ذاكرة العرب والمسلمين.
المثقف الإنسان
ورغم هذا الزخم المعرفي، لم يكن الدكتور بكر منغلقًا في برجه العاجي، بل كان يشارك في الندوات، يزور المجالس الأدبية، يكتب المقالات، ويترجم، ويتواصل مع الجميع، بلغة عربية فصيحة، ممزوجة بلكنة محببة، تضفي على حديثه صدقًا وسحرًا.
كان يحمل همّ أمته، ولا يرى في نفسه لاجئًا أو مغتربًا، بل رسول فكرة، ومبشّرًا بثقافة التلاقي لا التصادم، وبالإسلام الذي يوحّد الشعوب ولا يفرّقها.
أثر لا يُمحى
في السنوات الأخيرة، قلّ تواصلي به بسبب سفره خارج القاهرة، وظروف الحياة، لكنه بقي في وجداني صديقًا من طراز خاص، لا يُنسى.
وإذا كنت قد كتبت عن فلسطين والعراق وسوريا، فما كنت لأكتب عن كوسوفو، لولا أن عرّفني بها هذا الرجل الفذ.
لقد علّمني الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي أن المثقف حين يحمل قضيّته بصدق، يُحدث فرقًا لا تصنعه المؤتمرات ولا تحققه الجيوش.
وكانت صداقتي به درسًا في التواضع، والانتماء، والبذل الثقافي الهادئ، من دون ضجيج.
في النهاية…
الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي ليس مجرد اسمٍ في قائمة أساتذة الجامعات، بل صفحة ناصعة في سجل المثقفين الذين عَبَروا الجغرافيا من أجل الحقيقة، وكتبوا بلغات الغربة عن دفء الشرق.
وإذا نُسيت كوسوفو في أروقة السياسة، فإنها ستظل حيّة في الذاكرة الأدبية بفضل رجالٍ مثل بكر إسماعيل، ممن أحبّوا أوطانهم بحبر القلم لا بحد السيف.
رحم الله الأيام التي جمعتني به، وحفظه الله حيثما كان، فهو شاهد على جراح أمة، وصوت من ضمائرها النبيلة.
___
*ناصر رمضان عبد الحميد
عضو اتحاد كتاب مصر
رئيس ملتقى الشعراء العرب ومجلة أزهار الحرف
