
سنوات على رحيل جعفر عبد السلام .. الذي جعل من القانون الدولي لغة للدفاع عن الأمة
بقلم: الأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل الكوسوفي
تمرُّ بنا في هذه الأيام ذكرى رحيل عَلَمٍ من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، ورائدٍ من رواد التجديد في الدراسات القانونية الإسلامية، الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام (1941–2018م)، الذي رحل عن دنيانا في 11 يونيو 2018م، تاركًا وراءه إرثًا علميًا ضخمًا، ومشروعًا فكريًا حيويًا، وسيرةً عطرةً تزدان بها صفحات التاريخ الإسلامي الحديث.
لقد كان الراحل ـ رحمه الله ـ نموذجًا فريدًا للعالم الموسوعي الذي جمع بين تبحُّره في علوم الشريعة وإلمامه الواسع بالقانون الدولي، فكان جسرًا بين الأصالة والمعاصرة، وبين الثوابت الإسلامية ومتطلبات العصر. وقد تميزت مسيرته بالعطاء المتواصل في خدمة الأمة، سواء من خلال مؤلفاته الرصينة التي أسهمت في إثراء المكتبة الإسلامية والقانونية، أو عبر مواقفه المشهودة في الدفاع عن قضايا المسلمين في المحافل الدولية، أو بإدارته الحكيمة لرابطة الجامعات الإسلامية التي حوَّلها تحت قيادته إلى منبرٍ عالمي للفكر الإسلامي المستنير.
وفي هذه الذكرى السابعة لرحيله، نحاول أن نسلط الضوء على أبرز محطات حياته وإسهاماته الفكرية والمؤسسية، عسى أن تكون سيرته نبراسًا للأجيال القادمة، ودافعًا للمفكرين والباحثين لمواصلة مسيرته في خدمة الإسلام والمسلمين.
الفكر الإسلامي وقضايا العصر
إن للفكر الإسلامي دورًا مؤثرًا وفعالًا في التعبير عن قضايا العصر وما يستجد فيه من أحداثٍ لخدمة الأمة الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وذلك لأن الفكر هو الوعاء الحضاري الذي تصب فيه الأمة كل معطياتها الثقافية والاجتماعية. ولذلك، كان بقاء الفكر مرهونًا باعتزاز أهله والقائمين على نشره، إذ إن الفكر هو مقياس تقدم الأمة، وتخلُّفه أو سطحيته يعدان دليلًا أكيدًا على انحدارها ووقوفها على حافة الهاوية.
ويمثل الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام ـ نائب رئيس جامعة الأزهر الأسبق ـ النموذج المبهر لتقدم الفكر ورقيه، فهو رمزٌ للعلم والفكر والحضارة والرفعة. ذلك العالم العلامة الذي أتقن البحث في المنقول والمعقول، فضلًا عن كونه مفكرًا مثقفًا من الطراز الأول، استأثر بحب الجماهير الإسلامية العريضة، وملأ قلوبهم بعمله وفكره ومنهجيته وأسلوبه القويم. فهو علمٌ من أعلام الفكر، ورمزٌ من رموز القانون، بل إنه يُعتبر بحقٍ من رواد تجديد الفكر الإسلامي.
مسيرته العلمية والعملية
يُعد الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام من أفاضل العلماء وخيرة الكتاب المسلمين، الذين تمكّنوا من التصدي للقضايا الفكرية المهمة، وتناولوها بالنظر الدقيق والمعالجات المتميزة. وقد حظيت أعماله الجامعية باهتمام المثقفين والباحثين، نظرًا لما تمتاز به من عمقٍ وأصالة.
وتدرج فضيلته في المناصب الأكاديمية والإدارية على أعلى المستويات، حيث شغل منصب مدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، كما كان عضوًا في العديد من المؤسسات والجمعيات العلمية محليًا ودوليًا. وشارك في عشرات الندوات والمؤتمرات العلمية، وأثْرَى الساحة الفكرية بجهوده وأبحاثه في الخبرات الدولية.
ويُعد الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام في طليعة العلماء والمفكرين الذين أخذوا من كل فنٍ بحظٍ وافر. فمؤلفاته كثيرة، وأبحاثه عديدة، وذلك بفضل عقليته الجبارة وموهبته الفذة. فقد ألّف كتبًا مفيدةً، وكتب أبحاثًا نادرةً، وسطر مقالاتٍ محكمةً متقنة. وتحمل كتاباته دلالةً باهرةً على جودة تصرفه، وحسن نظره، وتمام فهمه. وكان ـ رحمه الله ـ في كل ما يكتبه مجددًا مبتكرًا، يبحث في الموضوعات المهمة بمنهجيةٍ دقيقة.
إرثٌ يُدرَس ويُحَفَّظ
لم تكن مسيرة الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام مجرد محطاتٍ أكاديميةٍ عابرة، بل مشروعًا فكريًا متكاملًا ألهم العديد من الباحثين لدراسته وتحليله. وفي هذا الصدد، يأتي كتاب “المفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام وجهوده في خدمة الإسلام” للأستاذ الدكتور/ بكر إسماعيل الكوسوفي، ليكون:
“مرجعًا شاملاً يقدم دراسةً متأنيةً دقيقةً وعميقة، تكشف عن شخصيةٍ فذة استطاعت أن تؤثر في الدراسات الشرعية والقانونية على المستويين المحلي والدولي… دراسة تغوص في أعماق فكر مجددٍ جمع بين التراث الإسلامي ومتطلبات العصر الحديث.”
يُبرز هذا العمل البحثي ـ الذي يعد أحد أهم المراجع عن حياة الراحل ـ كيف حوّل الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام النظرية الفقهية إلى أدوات عملية لخدمة الأمة، خاصة في مجال القانون الدولي والدفاع عن قضايا المسلمين عالميًا.
ومن بين مؤلفاته:
- “الوجيز في القانون الدولي العام”
- “النظم الدبلوماسية والقنصلية”
- “قضية فلسطين أمام القانون الدولي”
- “معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية على ضوء أحكام القانون الدولي”
- “قواعد العلاقات الدولية في القانون الدولي والشريعة الإسلامية”
إنجازاته المؤسسية
ومن صفحات النور في حياته العظيمة، اختياره أمينًا عامًا لرابطة الجامعات الإسلامية، فضلًا عن كونه نائبًا لرئيس جامعة الأزهر، وأستاذًا فيها.
ولما كان الإسلام يواجه أعتى أساليب التشويه لحقائقه وحضارته في عصرنا الحاضر، تحركت المؤسسات المعنية للدفاع عنه وتوضيح صورته، وكانت رابطة الجامعات الإسلامية في طليعتها. وقد نشطت الرابطة ـ بفضل جهود أمينها العام ـ لمواجهة الحملات الشرسة التي يشنها الغرب ضد الإسلام والمسلمين، حيث أقامت المؤتمرات والندوات، وعقدت جلسات النقاش حول هذه القضايا.
وفي الكتاب السنوي للرابطة (1424هـ – 2003م)، قال الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام بعد أن بيّن أهداف الرابطة وأنشطتها:
“ونحن عازمون ـ بعون الله وتوفيقه ـ أن نستحث الخطى، وأن نضاعف الجهد لخدمة أمتنا الإسلامية، التي نرجو أن يكون حاضرها أفضل، وغدها أكثر إشراقًا إن شاء الله. ندعو الله أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم.”
فقد استطاع فضيلته أن يجعل من الرابطة منبرًا ثقافيًا أصيلًا، ومنصةً لتحفيز الشباب على الإنجاز وصنع الحضارة.
جهوده في الدفاع عن قضايا المسلمين
من أبرز إنجازاته:
- تقوية التجمع العربي الإسلامي في الغرب: من خلال بيان الآليات التي يجب أن تتبعها المنظمات والجامعات الإسلامية والجاليات المقيمة هناك.
- تشكيل هيئة للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين في الخارج: حيث دعا إلى تجمّعٍ من كبار المحامين والمستشارين القانونيين في مصر لتكوين هيئةٍ تتبنى هذه القضايا.
- التصدي لمؤامرات تشويه الإسلام: بكشف محاولات الغرب في تقديم الإسلام كعدوٍ بديلٍ بعد سقوط الشيوعية، فضلًا عن فضح المؤامرات الصهيونية.
تجديد الفكر الإسلامي
كان الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام من أبرز الداعين إلى تجديد الفكر الإسلامي، حيث شارك في ثلاثة مؤتمرات كبرى حول هذه القضية:
- الأول في القاهرة.
- الثاني في المغرب.
- الثالث في الأردن.
وأكد على أهمية مواكبة التطورات الحديثة، ودور الجامعات الإسلامية في نشر الثقافة الإسلامية ومواجهة التحديات المعاصرة.
مجموعة مختارة من أقوال الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام، تعكس فكره العميق ورؤيته المبتكرة في الفقه الإسلامي والقانون الدولي وقضايا الأمة:
1- حول القانون الدولي والدفاع عن الأمة
“جعلتُ من القانون الدولي لغةً للدفاع عن الأمة، لأن الحق لا يُنتزع إلا بلسان القانون، والعدل لا يتحقق إلا بمواجهة القوة بالحكمة.”
“لا يكفي أن نكون أصحاب حق، بل يجب أن نكون أصحاب حجة، والقانون الدولي هو سلاحنا في معركة الوجود والحضارة.”
2- حول تجديد الفكر الإسلامي
“التجديد ليس خروجًا عن التراث، بل هو فهمٌ عميقٌ له، ثم إعادة صياغته لمواجهة تحديات العصر.”
“الفقه الإسلامي ليس نصوصًا جامدة، بل هو روحٌ متجددة تُحيي النص ليلبي حاجات الواقع.”
3- حول وحدة الأمة
“لو أنصف المسلمون أنفسهم، لاستطاعوا أن يجعلوا من اختلافهم قوةً، لا سببًا للفرقة والضعف.”
“التشرذم هو المرض العضال الذي ينخر في جسد الأمة، والشفاء يبدأ بالوعي ثم الوحدة.”
4- حول التعليم والجامعات الإسلامية
“الجامعات الإسلامية ليست أماكن لتدريس الماضي فقط، بل يجب أن تكون مناراتٍ تُضيء طريق المستقبل.”
“لا نهضةَ لأمةٍ تهمل علماءها، ولا مستقبلَ لشبابٍ يُحرم من التعليم الأصيل.”
5- حول القضية الفلسطينية والعدالة
“فلسطين ليست مجرد أرض، إنها قضية عدلٍ وإيمان، ومن خانها فقد خان دينه وأمته.”
“الصمت على الظلم مشاركةٌ فيه، والدفاع عن فلسطين دفاعٌ عن كرامة الأمة كلها.”
6- حول الحوار الحضاري
“الحوار مع الآخر لا يعني التنازل عن الثوابت، بل يعني إيصال صوت الحق بمنطق العقل والاحترام.”
“العنف ليس من الإسلام في شيء، وحضارتنا بُنيت على الحكمة والعدل، لا على القوة العمياء.”
7- حول الأخلاق والعلم
“العالم الحقيقي هو من يجمع بين عمق العلم وسماحة الأخلاق، فالعلم بلا خلق كالشجر بلا ثمر.”
“أعظم ما يتركه العالم ليس كتبه فقط، بل الأجيال التي ربّاها على القيم والمبادئ.”
رحمه الله رحمةً واسعة
بهذه السيرة العطرة، وإنجازات هذا العالم الجليل، نستذكر الأستاذ الدكتور/ جعفر عبد السلام ليس فقط كعالمٍ وباحثٍ، بل كرجلٍ حوَّل العلم إلى عمل، والفكر إلى مشروعٍ حضاريٍّ يخدم الأمة في كل مكان. لقد كان بحقٍّ نموذجًا للعالم الرباني الذي جمع بين عمق العلم وسمو الأخلاق، وبين الأصالة الفقهية والرؤية المستقبلية.
وفي ذكرى رحيله السابعة، نرفع أكف الضراعة إلى المولى عز وجل أن يتقبله في عباده الصالحين، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدَّم من علمٍ نافعٍ وعملٍ صالحٍ.
اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واجعل عمله في ميزان حسناته.