
—
إن رواية “في المطار أخيرًا” للكاتبة والشاعرة لجينة نبهان، رواية جميلة جدًا، تمتاز بلغة سردية شاعرية تصل في جمالها إلى مرتبة العبارات الشعرية، إذ تتماهى هذه اللغة مع جسد الرواية دون إفراط أو تفريط. إنها لغة على القد تمامًا، بلا مبالغات ولا بهرجة لغوية، بل هي اللغة التي تحتاجها الرواية حقًا.
بتكثيف شعري، واختزال عميق، وشفافية، ينساب سرد الرواية بمنولوج لا ينتهي إلا مع نهايتها. فشفافية ورقة الشعر وعباراته الجميلة تغني الرواية، والسرد الذي احتفت به جعلها محملة بطاقة شعرية جميلة، حيث أصبحت اللغة عنصرًا أساسيًا من عناصر بنائها. إنه منولوج داخلي يصف بدقة مشاعر الذات الإنسانية في لحظات التردد والانكسار.
اللغة تتكثف حتى تصبح من نسيج الرواية، تتلاحم مع الأحداث والمواقف والحوارات، وتأتي على مقاسها تمامًا. إنها منولوج عميق لتكسر الذات الإنسانية في بحثها عن ذاتها وعن رغباتها.
الحوار الذي استخدمته لجينة للتعبير عن شخصياتها كان حوارًا متنوعًا، بتنوع شخصياتها وعمقها الفكري وغناها. وقد اعتمدت على عدد من الإسنادات التي نجد لها ما يبررها، حين يكون الحديث عن “نور”، الشخصية المحورية في الرواية.
طرحت الرواية قضايا متعددة ومشكلات مختلفة، منها: اختلاف الطوائف في العلاقات العاطفية، والسجن السياسي، والأزمة السورية والموقف منها، بالإضافة إلى مشكلات فلسفية من خلال ذكر فلسفة ابن رشد. وقد طرحت هذه القضايا عبر أبطال تنوعوا بشكل خدم الرواية.
برزت شخصية “مرام” التي نذرت نفسها للآخرين بعد قصة حب لم تكتمل. ونرى أيضًا شخصية “نضال”، المناضل المحترم والملتزم، والسجين السابق، نقرأ معاناته من خلال حديث وحيد في المطار، لكننا نقرأها أكثر من خلال صمته؛ فللصمت عند لجينة ضجيج أقوى وأكثر تأثيرًا من كل الكلام. فهل هو تعبير عن عدم جدوى الكلام؟ أم أنها تبتدع لغة تليق بالثوار الحقيقيين؟
شخصية أخرى هي “ثائر”، ابن المرحلة اللاحقة من النضال، فنان منسحب من الحياة السياسية، هارب من عبء الكفاح السياسي إلى صومعة الفن، التي استطاع أن يبقى فيها، مجبولًا بالقلق الذي ينهشه من الداخل، وبالخوف، ذاك السلاح الأشد فتكًا، الذي منع الناس من مجرد الالتفات. هو منكب داخل نفسه، نكاد نرى تموجات نفسه البطيئة.
أما “دانيال”، فهي شخصية براغماتية كاذبة ومدعية، يتحدث عن معاناة مفترضة وغير حقيقية، وتصبح هذه المعاناة وسيلة انتهازية للعبور.
الشخصيتان اللتان بقيتا في الظل لكنهما حركتا الحكاية، هما شخصيتا الأب والأم. الأم التي رافقتنا صلواتها ودعواتها ورغبتها المجنونة بأن تعطيه نظرها أو أي جزء من جسدها مقابل حريته. والأب المنسحب من الحياة والوطن، يشعر بخذلان عميق من وطن لم يحتمل رأيًا مخالفًا؛ وطن قاتل وقتيل، كيف تبددت صورته الجميلة في قلوبنا ومخيلتنا!
كما تطالعنا “نور”، الشخصية الجميلة والحيوية والنشيطة، التي تتقاطع في محاور عديدة مع لجينة؛ فكلتاهما محبّتان، متعلقتان بوجع الاعتقال الممض. الاحترام الشديد والحب كانا الشرك الذي كبّل “نور” بعلاقة مؤذية مع شخصية مؤذية ومريضة.
تتمتع كل الشخصيات تقريبًا بثنائية الحب والسياسة، وارتباط العام بالخاص. نلاحظ أيضًا أزمة الثقة بالنخب السورية من خلال بعض الشخصيات الأخرى.
في المقابل، تطالعنا شخصيات بسيطة وطيبة ومسحوقة، مثل شخصية “خالد” وعائلته، والأم الطيبة الصابرة المتعبة، على غرار أمهات سوريا. وهنا نلاحظ لغة المحبة الشفافة التي رسمت بها لجينة هذه الشخصيات.
أما الأحداث، فقد تشكّلت من ثلاثة أحداث سردية رئيسية.
أولها: زيارة السجن، التي تحدثت فيها عن معاناة الأهالي، وتأثير السجن على العائلة، والمعاناة التي تصبغ حياتها، وتكاتف الناس في ظروفهم المتشابهة، وتقاسم الألم والحزن والدموع، كما تقاسموا أجرة الحافلة، وكما يتقاسمون الصبر الذي يُوزع عليهم كخبز يومي.
الحدث الثاني: علاقة الحب بين “نور” و”خالد”. لم تُصوّرها الكاتبة كعلاقة جسدية، رغم جرأة الطرح، بل بقيت في مسارها العاطفي والنفسي، حيث كان العناق ورائحة المحبوب جزءًا مهمًا من جيشان المشاعر الداخلية، غير المفهومة لكليهما. والتعامل مع هذه المشاعر كان صعبًا على امرأة متزوجة من جهة، وعلى رجل لم تمتلك المرأة حيزًا مهمًا من حياته من جهة أخرى. إنها حالة وجدانية، واكتشاف للذات ورغباتها.
أما الحدث الثالث: فكان متعلقًا بـ”ثائر”، وتجلّى في مشهد اللوحات، كيف تتشظى المرايا واللغة والأحلام والآمال، وكيف تتكسر السرديات لتصل إلى حالة من التشظي الرهيب، وفي الوقت نفسه إلى قدر عالٍ من الصوفية وسموّ الإنسان، من خلال لوحات تحمل دلالات بليغة عن الاحترام الشديد والمحبة الخالصة.
الموقف الأخير كان في المطار: سقوط المناضل، وعودة المضطرب، وتمزق “نور” بينهما. هو تقريبًا خلاصة الرواية.
ما الذي ترغب لجينة في إيصاله لنا؟
هل تتوقع انهيار منظومة النضال، والتخفي، والسجن، لصالح صعود منظومة أخرى؟ منظومة الحب والبساطة والرغبة المجنونة بالحياة؟
ربما أرادت، من حيث لا ندري، انتصارًا للحب على أوجاع الماضي وارتباك الحاضر، والبقاء على هذه الأرض رغم الأفق المكفهر والمستقبل الخالي من النزاهة.
هل تريد الحب والبساطة والوطن كموسيقى خلفية للحياة والرواية؟
ربما.
—