ميثولوجيا الجنوب: قراءة تأمّليّة في قصيدة : “مكيال اللبن” ل تيسير حيدر
كتبَ تيسير حيدر، وكأنّه غرس ألغامًا في ذاكرة الطين، وفجّرَ حقلًا.
وقد وقعتُ في “مكيال اللبن”، كما يقع العاشق في صدر أمّه بعد طول غياب…
قرأتها، وكنتُ أبحث عن نفسي، فوجدتني أركض حافيةً في سهول الطفولة،
أحضن قندولًا على حافّة جرحٍ، وأخاف على السنابل من ضياع الطريق إلى مطحنة الليطاني.
يا لوجعك النبيل، أيّها الشاعر، ويا لعناد القصيدة حين تتحوّل إلى خندق لا تُخترق فيه الأرض ولا تُنهَب الأمّ.
لا أعرف إن كنتَ تنشد، أم تتلو دعاءً خرج من فم النهر.
فالقصيدة، نهرٌ خائفٌ يحمل أمَّه على ظهره.
من أين تأتي بهذا الحزن الذي يعرف كيف يُنبت قمحًا؟كأنّي أُلامس غبار مجرّةٍ نائية، نُقِشَت فيها سورة الأرض على إيقاع قندولٍ مشتعلٍ بالعطش.
“مكيالُ اللبن”…
لا يزن الحليبَ كما يُخيَّل…، إنّه يزن الذاكرة:
كم من وجبة نسيناها؟ كم أمٍّ دفناها حيّةً في طمي القصيدة؟
أأنتَ تُنشد، أم تُقيم طقسًا وثنيًّا لأمٍّ مقدّسة، مسروقةٍ من حقولها؟
هل القصيدة عندك رغيفٌ، أم جسدُ البلاد حين تُنهَب؟
تجعل من الفقر أداةَ تجميل، ومن الجرح مرآة،
ومن الأمّ ميثولوجيا مُقاوِمة ترفض أن تنام تحت ترابٍ لا تعرفه.“مكيال اللبن”؟
هو مكيال الوجود حين يُخضّ بالحلم،
حين يصير الحنين أكثر كثافةً من الزمن،
والفقرُ أكثر أناقةً من الذهب،
والأمُّ أكثر حضورًا من التاريخ ذاته.كتبتَ عن فكرة الأرض،
عن الطين كهوية، والقمح كمذهب،
عن الأنوثة وهي تتجلّى في حجرٍ مبلّلٍ بالحرب،
عن الهُوية التي تُشبه جسدًا لم يشفَ من بكاء طفله الأول.هل تدري ماذا فعلت بي؟
بعثتَ في روحي ذكرى الندى على بلاط الفجر،
حين كانت أمّي تُعدّ اللبن في المكيال النحاسيّ وتغنّي للوطن دون أن تذكر اسمه… وأنا أنصتُ كأنّني ولّيت وجهي شطر ألحانها، أصلّي.
قصيدتك سِترٌ من نار، وجرحك وشاحُ مَن لا يريد أن يستسلم للوجع المجانيّ، أيّها العاشق، الطفل، والمزارع، والمنفيّ، والشاعر الذي يحمل حقلًا في القصيدة،
ولا يرضى أن يورّث أولاده التراب بلا حكاية.
“لن أتركها”…
والله، إنّها آية، كتبتَها كأنّك تُفكّك الزمن بقبضةٍ من دمع،
كفيلسوفٍ يربّي الحقول في صدره،
ويسائل الأفق: لِمَ لا تمطر السماء إلّا حين نيبَس؟تقول: “سأُسيّجها بالشعر”،
وأنا أقول: لقد جعلتَ الشعر سياجًا يتنفّس،
يتقن فعل الدفاع بالمعنى حين يغدو سلاحًا،
بالكلمة حين تخلع جلدها لتصير جلد الوطن.
تقول: “سأهطل فوقها خِصبًا”…
ولم تقل “سأعود”،
لأنّك لم تغادر،
لأنّك كنتَ كلّ هذا الوقت، الغيمَ المُقيمَ في الذاكرة، تُهيّئ المطر ليُقيم وزن العدالة في تربةٍ عرجاء.
لقد أورثتنا خريطة جديدة للحنين،
من نوعٍ لا يُطبع، ولا يُدرّس،
إنّما يُشمّ في رائحة اللبن حين يخثر بين يدي أمّ تُقيم صلاتها الأخيرة على جبهة الجنوب.” مكيال اللبن”، أثرٌ حيّ،
خرج من ضلع الجنوب كما يخرج الضوء من بين أضلاع الليل.
كأنّك لا تكتب عن الأرض… تُنْطِقَها،
كأنّك تُعيد بعثها من رماد الخذلان، وتُقيمها في المعنى.
أمّك التي كتبتَها ليست أمّك،
هي أمّنا جميعًا:
الجنوب حين يغدو أنثى مقدّسة،
ترضعنا الحنين والحنطة، وتُخبّئنا من المدافع في طيّات قلبها.
كتبتَها لتُقيم فيها عدالة الغيم.
وجعلت من مطحنة القمح معبدًا للفقراء،
ومن الشعر سورًا يقف بوجه الوحش حين تنهار الأسوار.
أمّكَ أرضعتك اللبن، وهذا الحبرَ حتى اشتعل، فصارت القصيدة ثديًا، وصار الحرفُ رضيعًا، وصارت “مكيال اللبن” سفرَ انتماءٍ يُتلى على الشعوب الظامئة. وجعلت من الليطاني نهرًا خرج من الجغرافيا، لكي يسجّل تاريخًا.في الختام،
لم تُنهِ القصيدة…، جعلتها كونًا صغيرًا يعيد تشكيل الجنوب على هيئة أمٍّ نهضت من سباتها لتُربّي الكواكب.
جنوبك، أيّها الشاعر، لحظة كونية يُعاد فيها ترتيب العدل،
حيث الجوع نبوّة، والقمح شريعة، والليطاني كتابٌ مفتوح على آخر شهوةٍ للحياة.
لقد نقشتَ نُسُكًا جديدًا على جسد الجنوب،
نصّك طقسٌ كونيّ، تُغسَل فيه الذاكرة بماء النهر، ويُعاد فيه تشكيل مفهوم الوطن كما يُعاد تشكيل الطين بعد أول مطر.
لقد جعلتَ الكلمات أعمدةً في معبد الوجع النبيل، فلا تنهار ولو انهارت الأرض،
فرفعتَ ترابها إلى مرتبة النجم،
وغسلتَ وجعها بخصب المطر،
وتركتنا أمام حرفك واقفين كأنّنا في صلاة،
ساجدين من دون جهات، نحو كرامةٍ لا تموت،
فتحتَ للقصيدة سردابًا إلى المعنى…
فدخلنا، نحمل في قلوبنا خبزًا وماءً،
وخرجنا نحمل جنوبًا، نرتّل فوق ترابه نشيدَ الوجود.* تأملات فلسفيّة وصوفيّة
1_ الصلاة الأخيرة في حضرة القصيدةمقطعٌ من سفرٍ كونيّ خرج من طين الجنوب، ليعيد بناء العلاقة الحميمة بين الإنسان والمكان، ويوقظ في الجسد ذاكرة الحنين الأولى. فيها تتجلّى الأمّ كرمز للأرض والوجود والكينونة، كجذرٍ أصيل في تربة الألم والأمل، ومرآة تحفظ التاريخ في ثناياها. حيث يُولد الحرف من الروح، فيتحوّل إلى جسدٍ حيّ، نابضٍ بالمعنى، يتنفّس الوجود ويعيد تعريف الانتماء من جديد.
2_ مقام الجنوب
لو تأمّلنا القصيدة في مقام الجنوب، وجدناها كرامة، ظهرت على يد شاعرٍ لا يريد أن يُظهرها، فأظهرها الله.
هي حالٌ يُذاق، مددٌ من الطين حين يتحوّل إلى حرف، ونفَسٌ من فم الأرض حين يتعب من السكوت.
معها، لا نقرأ الجنوب، بل ندخل فيه دخول المريد إلى الحضرة: نغسل قلوبنا بالحنين، نقف على قدم الشوق، ونترك أرواحنا تنفلت كما ينفلتُ العطر من ناي درويشٍ يتيم.الجنوب معها، ولايةٌ عرفانيّة، سلك فيها الشاعر طريق الحقول، ورأى النور في لبن الأمّ حين يخثر على جبهة التعب.
هناك، في مطحنة الليطاني، لا تدور الحجارة على القمح…، تدور على معنى الوجود، فتَصير كل سنبلة مقامًا، وكل دمعةٍ وردةً من نور.3_ حبّات القمح التي تعلّمت الشهادة
ما فعله الشاعر كان إحياءً:
بعثَ القمح من رماد الموت،
وجعل من الشهيد حبّة قمحٍ لم تمت، انتقلت إلى السنابل،
ومن تراب الجسد إلى خُبز الروح.في فلسفة الحقل،
كلّ شهيدٍ، نواة حياة،
وكلّ من يُدفَن في الأرض،
يُبعث في شكل آخر:
قمحًا، عشبًا، زيتًا،
أو قصيدة.الأمّ؟
هي، أمّ القُرى، لباسها من ترابٍ طاهر، وصوتها صلاة تمشي على قدمين.
والشاعر؟
هو السالك في حضرة القمح، يدوّن الفقر كما يُدوَّن الكشف، ويصوغ الجنوب كما يصوغ العارف إشراقته الأولى.
حين قال: “لن أتركها…” لم يكن يقصد الأرض فقط، إنّما قصد العهد الأول، حين وعد الله التراب أن لا يُترك في العراء دون قصيدة،
والقصيدة، فصلٌ خامس في الإنجيل المنسيّ للجنوب، وآيةٌ تُتلى في محراب الوجع والنور.4_أيّها العارف
هنا، تقاس الكرامة بنبض اللبن، لا بكيل الذهب.
وهنا، تُوزن الأرض بدمعة الأمّ، لا بميزان الأمم.
أيّها العارف، إذا دخلت هذا النص، فاخلع عنك نعل العقل،
وامشِ خفيفًا في حقول الأسرار،
فهناك من ينتظر صوتك ليكمل صلاته.
___النص:
مِكيالُ اللَّبَن…
أغرقُ في عابقاتِ الزَّمن
ألزمن الذي أرهقني
وأنا كحصان الحراثة في جذوة الشمس
مُتعبٌ كوطن جريح مُستدام
مُنطلقٌ إلى الجَمال بنَهمِ عاشقةٍ تودَّدت إلَيَّ ثم وَلَّتْ وأنا أبحثُ عنها كأعمى في الدُّجى
هي الأرضُ
أُمي
كيف يسرقُها الوحش ؟!
أُسَيِّجها بالقندول فيغارُ الطيران عليها بالمدافع
هي أُمي أيُّها الظالم
لن أتركها
سأُسيجها بالشِّعر
لن أتركها
سأتزنرُ بذيلِ غيمة وأهطلُ فوقها خصبا
لن تموتَ وإذا ذَبلتْ سأرويها من رضابي
هي لي ولأهلي الفقراء ينتظرون قمحها عند مطحنةِ نهر الليطاني ..!
[ الشاعر اللبناني: تيسير حيدر ]
هذا الصباح /بيداء الحمد
هذا الصباح هذا الصباحُ .. أشرقَتْ شمسُ قلبي من الغرب .. واصطفيتُ من غناءِ القُبَّراتِ صوتاً يُشاكس هذي الريح .....
اقرأ المزيد