صباح بريش وبلاغة الحكاية التربوية: مقاربة نقدية في أدب الطفل
فاروق غانم خداج – كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني
- في عالمٍ تتكاثر فيه وسائل التسلية وتتنحّى فيه التربية جانبًا، يظل أدب الطفل الحقيقي عملة نادرة، لا سيّما حين يصدر عن تجربة ميدانية لا عن تصوّر نظري. في هذا السياق، تبرز الكاتبة اللبنانية الدكتورة صباح بريش قرقوط كصوت فريد، يمزج بين رسالتها كمعلمة في الصف، ورؤيتها كأديبة تُدرك أهمية الكلمة الأولى في تشكيل وعي الطفل. لا تكتب قرقوط من أجل الحكاية فحسب، بل من أجل الطفل الذي سيصبح إنسانًا فاعلًا. تكتب بلغته، لا لتدلّله، بل لترافق نموّه، وتغرس في قصصها بذورًا من السلوك، والفهم، والانتباه، تجعل القارئ الصغير يكتشف العالم دون أن يُجرّب وحده كل الأخطاء.
قصص صباح بريش ليست نتاج مخيّلة ترفيّة، بل ثمرة تراكم حيّ لسنوات من المعايشة الصفّية، حيث كانت الكاتبة ترى في كلّ تلميذ عالمًا متكاملًا، لا يحتاج فقط إلى المعرفة، بل إلى اللغة التي تحتضنه، وإلى السرد الذي يرشده. في قصصها، لا نجد الطفولة كما تُرسم في الإعلانات، بل كما تُعاش في المدارس، بين الخطأ والتأديب، بين التردّد والاكتشاف. فـ”بطبوط”، و”أمل”، و”أنا وسيم وذكي”، و”الصفعة” – وغيرها من العناوين – ليست أسماءً لقصص مستقلة، بل ملامح من سيرة تربوية تختبر كل مرة كيف يُبنى الطفل من داخله لا من خارجه. ومن هنا، يمكن القول إنّ أدب صباح بريش لا يهدف إلى تخدير الطفل بالقصص، بل إلى تمكينه من نفسه. إنّها تكتب وفي ذهنها قاعة الصف، لا منصة المسرح، وتخاطب الطفل من موقع المربية التي تعرف وجعه وفضوله لا من موقع الكاتبة التي تملي عليه ما يجب أن يكون.
ما يميز البناء الفني في قصصها هو قدرتها على توظيف حدث بسيط جدًا لإطلاق تحوّل نفسي وتربوي عميق في شخصية الطفل. لا تسعى الكاتبة إلى الإدهاش السردي الخارجي، بل إلى لمس النواة الداخلية في الطفل، حيث تتشكل القيم، وتنمو البصيرة. في قصة “طبول لم يعد شرًّا”، لا ينتهي الغضب بانفجار مؤقت، بل يبدأ منه التحول. الطفل لا يُعاقَب، بل يُفهم. وتتبدل ردّات فعله تدريجيًا، عبر الملاحظة، والحوار، وتبدّل البيئة. القصة ليست محكمة تُصدر حكمًا، بل رحلة وعيٍ تبدأ من داخل الطفل وتنتهي إليه. وكذلك في “بلسم ورجل الثلج”، لا يتوه القارئ في الخيال، بل يستخدمه كبوابة لطرح أسئلة عن الوحدة، والحاجة إلى الطمأنينة، ودور المبادرة الفردية. بلسم ليست فقط شخصية، بل استعارة عن قدرة الطفل على النجاة النفسية، ولو وحيدًا.
هذه القصص تُبنى على منطق التحوّل الداخلي لا على منطق الحدث الخارجي. وهذا ما يجعلها مربية أكثر منها حكواتية. فكل سطر فيها يُمهّد لطفرة في السلوك، وكل نهاية تُبقي للطفل بابًا مفتوحًا للتأمل، بدلًا من تقديم “خلاصة أخلاقية جاهزة”.
وفي عالمٍ يُستبدل فيه خطاب الطفل باللهجات أو باللغات الأجنبية، تأتي صباح بريش لتُعيد الاعتبار إلى اللغة العربية الفصحى، لا بصفتها تراثًا يجب حمايته فحسب، بل كوسيلة قادرة على مخاطبة الطفل ببساطة وصدق. ليست الفصحى عندها فصحى الجفاف المدرسي، بل فصحى الحياة اليومية، التي تنطق بالحنان، وتروي الحكاية دون تكلف أو تجهّم. لقد نجحت الكاتبة في كسر الحاجز النفسي بين الطفل والفصحى، بأن قدّمتها ضمن سياقات مشوّقة، وشخصيات مألوفة، وأحداث قريبة من تجربته. لم تتنازل عن الفصحى باسم “التقريب”، بل جعلتها قريبة بذاتها. الفعل فيها واضح، والجملة موزونة، والمفردة منتقاة بعناية دون تعقيد.
أما الخيال في قصصها، فليس ملاذًا ساذجًا يزوّر العالم، بل أداة رقيقة تُساعد الطفل على رؤيته من زاوية جديدة، وعلى تفعيل قوّته الداخلية حين تغيب الحلول الخارجية. في قصة “بلسم ورجل الثلج”، تتخيّل الطفلة شخصية من الثلج كي تطمئن وتحاور وتبتكر حلًا في عالم خالٍ من الدعم. هذا الخيال، بدل أن يفصل الطفل عن محيطه، يمنحه مهارة النجاة النفسية، ويُعلّمه كيف يتحوّل من مُنتظر إلى فاعل.
ولعل من أبرز المضامين المتكررة في أدب صباح بريش: أولًا، المسؤولية الشخصية، كما في “بطبوط في المستشفى”، حيث يقع الطفل ضحية استهتاره، ليتعلم أن النظام والانتباه لا يُفرضان، بل يُختاران للسلامة. ثانيًا، الثقة بالنفس والقدرة على التغيير، كما في “طبول لم يعد سرًّا”، حيث يُصوّر الغضب لا كعيب دائم، بل كفرصة للفهم وإعادة التكوين. وثالثًا، التكيف والمرونة النفسية، التي تتجلى في “بلسم ورجل الثلج”، حيث يتحول الخيال إلى استراتيجية بقاء، لا إلى وهم.
إن هذه المضامين ليست تعليمات جاهزة، بل حالات إنسانية تندمج بسلاسة في نسيج الحكاية، وتُظهر للطفل أن ما يشعر به ليس غريبًا، وأنه قادر على تجاوزه بذكاء وعاطفة.
أدب صباح بريش لا يُقرأ كحكايات للأطفال فحسب، بل كمشروع تربوي لغوي متكامل، يُعيد للطفل اعتباره ككائن جدير بالخطاب، واللغة، والاحترام. إنها لا تكتب من موقع الأستاذة التي تعظ، ولا من برج الأديبة التي تتعالى، بل من قلب التجربة الصفّية، ومن وجع المعلمة التي ترى في القصة وسيلة شفاء وتكوين معًا.
وفي عالمٍ تتراجع فيه التربية لحساب الترفيه، وتُختزل فيه الطفولة في شاشات صامتة، تقف قرقوط لتُعيد الاعتبار إلى الحكاية. فهي تكتب لتُعلّم دون أن تُملّ، وتُربّي دون أن تُرهب، وتُحدّث الطفل بلغته لا بلغة الكبار المتعالية.
ومن هنا، فإن أدبها يستحق أن يكون جزءًا من المناهج التربوية، وبرامج المطالعة، وخطط التنمية الثقافية للأطفال، لأنه لا يقدّم مجرد قصص، بل يُعدّ الإنسان من داخله: بالوعي، واللغة، والقدرة على التخيّل.
وإننا، إذ نكتب عن صباح بريش، لا نؤرّخ لكاتبة فحسب، بل نُضيء دربًا تربويًا جديرًا بأن يُحتذى، في زمن باتت فيه التربية العميقة فعل مقاومة، واللغة الصادقة نافذة نحو بناء إنسان أكثر اتزانًا وجمالًا.
وبصفتي باحثًا في الأدب والفكر الإنساني، أدعو المؤسسات التعليمية والثقافية إلى إعطاء هذا الأدب مكانته المستحقة في المدارس والجامعات، لا كمواد مطالعة هامشية، بل كجذور تُزرع في الأرض النفسية واللغوية للطفل، لتنمو منها شجرة نضوج نحتاجها جميعًا.