- *جغرافيا الغياب: قراءة ألغام الحنين تأمّل في شذرة للشاعر: هيثم عبد الله الأكرومي*
في قلب الغياب، حيث تتقاطع خطوط الجغرافيا، تلتقي خرائط الحرب بالعاطفة، في ظلّ واقعٍ مأزوم، يكتب الشاعر “هيثم الأكرومي” عن حدودٍ لا يمكن عبورها إلّا بالسقوط.
أيُّ غيابٍ هذا،
يأتي مشيًا على خرائطَ ممزّقة،
ويجلس بثقله في قلبٍ يُتقن الحنين،
كأنّه يحفر في اللحم حدودًا،
ويزرع في الذاكرة أسلاكًا شائكة؟
هنا، لا زمن يمرّ… إلّا ويترك تحت جلده لغمًا.
وهذا النصّ —
هو الكينونة حين تتكسّر،
هو الوطن حين يُنفى إلى الداخل،
هو الحبيبة وقد صارت مسافةً لا تُقاس،
ويدًا تلوّح من وراء الغيم، ولا تصل.
في هذه الشذرة، يكمن عالمٌ كامل من الألم،
يطرح الشاعر تجربة الغياب التي تحفر في الذات نقوشَ الحدود، تتكثّف فيها إشكاليّات المسافة، والفقد، والانفصال عن المعنى.
“كما تُقاس الحدود بين دولتين” —
يبدأ النص بإسقاط ثقيل، يشبه خطّ النار،
فالغائب هو الآخر الذي تحوّل إلى وطنٍ مسلوب، إلى أرضٍ سُرقت مفاتيحها،
وإلى جغرافيا عاطفية محرّمة.
والغياب، جدارٌ مشدودٌ من المسافات،
مُلغَّمٌ بالممنوع، لا يُعبر بسهولة،
ولا تُمحى تضاريسه بالنداء أو البكاء.
يستعير هيثم الأكرومي مفردات الجغرافيا السياسيّة ليرسم تضاريس الفقد،
فالعلاقة مع الغائب ليست حنينًا فقط،
إنّها ساحة نزاع، وأرضٌ مفصولة، مرصودة بالأسلاك، ملغّمة بذكرياتٍ غير قابلة للتفكيك.
فغياب الحبيب، في هذا السياق،
يُقاس بمساحة الألم، بثقل الحذر،
وبمقدار ما يُنزَع من ألغامٍ مزروعةٍ في دروب الحنين.
ثمّ يجيء الاعتراف الموجع: “لكنّني أسقط”.
كأنّ الشاعر أراد أن يُخضع الغياب لمنطق القياس، أن يسيطر عليه، أن يطوّقه كما تُرسم الخرائط. لكنّ الفقد ليس ترسيمًا،
ولا معبرًا حدوديًّا يمكن عبوره بجواز حضور.
فالسقوط هنا، انهيار داخلي، انكسار أمام محاولة إدراك ما لا يُدرك، كأنّه يهوي في فراغ الذات، حين تكتشف أنّ الحنين لا يعترف بالخرائط، وأنّ الغياب لا يترجَم بلغة القياس.
“وأنا أحاول نزع الألغام” —
فعل المقاومة، مشهد الشاعر وهو يحفر في أرض ذاكرته، يحاول أن يعيد الطريق،
أن يطهّر القلب من الفخاخ القديمة.
فالألغام هنا معنويّة،
زرعتها تفاصيل صغيرة:
نظرات، أماكن، كلمات، وكلّ محاولة لخلعها
تؤدّي إلى انفجار جديد.
النص إذًا تأمّل وجوديّ في هشاشة المعنى،
وفي سعي الإنسان لإضفاء منطقٍ على الألم،
كأنّ الشاعر يحاول أن يضع الغياب في صندوق، أن يرتّبه، أن يحدّه، لكنّه يكتشف في النهاية أنّه هو نفسه من يسكن ذلك الصندوق، وأنّ الحدود ليست هناك…
إنّما في داخله، تتحرّك كألغام الذاكرة.
رغم طابعه العاطفيّ،ينتمي هذا النص إلى فضاء الصراع، ما يمنحه بُعدًا سرّيًا يتجاوز الحب الشخصيّ، ليلامس فكرة الانفصال الأكبر، عن الآخر، عن الذات، وعن المعنى.
في قلب هذا النص، يتردّد سؤال لا يُنطَق:
هل يُمكن أن نمشي نحو مَن نحبّ من دون أن نُصاب؟
هل يمرّ الحبّ من دون أن يزرع فينا ألغامه؟
تبدو الإجابة معلّقة، كغمامةٍ فوق حقولٍ مفخّخة، والشاعر يمضي… يحاول نزع الألغام، رغم أنّ قلبه يعرف النتيجة.
ربّما في هذه المحاولة ذاتها، في هذا السقوط تحديدًا، يكمن معنى الحب،
ويولد الشعر.
وهكذا، يبقى الغياب حقلًا لا يُروى إلّا بالدمع،
والقلب يمشي حافيًا، باحثًا عن طريقٍ لم تزرعه الذاكرة بالانفجار. ربّما السقوط،
هو الصيغة الوحيدة للعبور، وربّما من نحبّ،
هو من يترك فينا الألغام، ثم يمضي، ليتأمّل من بعيدٍ كيف نكتب، وننزف،
ونظلّ نحبّ.
__
النص:
كما تُقاسُ الحدودُ بين دولتين
أَقيسُ غيابَك
لكنني أسقطُ
وأنا أحاولُ نَزعَ الألغام
** * * * * * * * * *
[هيثم عبدالله الأكرومي]