أحاديث السراديب
قصة قصيرة
بقلم هناء ميكو
لم يكن ينوي أن يشتري شيئا من السوق ذلك المساء ، ولا حتى أن يدخل .
كان يهرب ، فحسب من ضجيج العالم، من ثقل النهارات المتكررة. من صوته الداخلي الذي فقد ملامحه .
ساقته قدماه إلى هناك كما لو أن الأرض قررت أن تنقده من نفسه .
سوق( لَغْزَلْ ) لم يكن مجرد أكشاك وألوان ولاخيوط وأقمشة، ولا حتى صوف وحرير .
كان السوق مدينة من خيال تنام بين خصلات الضوء،
تحرسه ملائكة الرحمان ، تسكنه أرواح بائعة الكبريت ، وأشكال كلود فيالا الرخوة ، وأقنعة دوستويفسكي من قاعات محاكمه النفسية ، و بين الزحام لمحها
ضحكة …
كانت تتقافز بين لفائف الألوان. تراقص العشوائية بخفة مجنونة
لم يتكلم ، فقط ابتسم كأن ذاكرته أزاحت عنها غبار الأيام لتفرش عطرها أمام تلك اللحظة
تقدمت نحوه بخفة العارفات ، وقالت ، وهي تشير إلى سطح إحدى البنايات القديمة المطلة على السوق.
يالا القداسة
ورود من بستان رامبرانت ، تتبسم في وجه الزمن وتبعت فيه الخفق.
قالت ضاحكة
ماذا قلت لك على مقبرة السطح
الخيوط تشابكت حتى فقدت قدرتها على غزل فتات الخبز، فكيف بنسيج الفكر
ضحك ليس لأنه فهم ، لأنه وجد في جنونها منطقا بشبهه.
هي التي كانت تحمل فانوس الإبداع في يد ، وتربت على رأس الحنش الهارب باليد الأخرى …
كانت كل شيء ينهار من جديد في لحظة .
وهو المتيم. اكتفى بأن يردد في كل فجر :
لو لم أكن وردته ، لأزهرت في بستانك ..ياتيرس .
رمقته بعينين تبتسمان ، وهمست :
تليق بك زهرة العمر …دير عقلك. راه الحب النبيل كيكون هبيل شوية
ومنذ ذلك المساء صار يعود إلى السوق دون موعد، فقط ليقتفي أثر ضحتكها التي ترد الروح ، لعلها تظهر بين طيات الخيوط ، أو خلف قناع قديم
لكنها لم تعد
غادرت إلى غير رجعة
في الليالي التي ، كان يتسلل إلى السطح، حيث مقبرة الخيوط يجلس هناك طويلا، يحدثها في داخله ، كأنما السراديب المفتوحة في صدره لا تعرف الصمت .
من أين خرجت لي هاته المخلوقة
ويمينها يحمل مفتاح به من السحر مايجعله غازيا دون استئذان
لم يجب
ترك قلبه يهتز بإيقاع تلك الضحكة…. ويديه ترتعشان من مداد القصيد
لم يكن يحتاج مناسبة ليكتب ، ولا عيدا ليغني ، كان هو العيد نفسه، حين ينصهر المداد فوق بياضه.
وهي كانت الأمومة الأدبية التي تهمس له، من بعيد
اكتبني….
فكتب
لا للرياء ، لا للعرض، لا للاستهلاك،
بل لأنه ، كلما تذكرها ، أحبل بالمعاني .