في حضرة الكلمة، حيث يلتقي الفكر بالعاطفة، ويختلط وجدان الإنسان بنبض الوطن، نقف اليوم أمام قامة أدبية تُجيد النحت بالحرف، وتكتب كما تُتنفس… صادقة، حرة، وذات موقف.
هي ابنة جبل لبنان… من بلدة كفرسلوان، حملت وجع الأرض وهمّ الإنسان، وصاغته نصوصًا تنبض بالانتماء، وتضيء بوهج التجربة الحقيقية.
هدى مجيد حاطوم، شاعرة وكاتبة لبنانية، تنتمي إلى الكلمة الحرة كما تنتمي الجذور إلى التربة، لا تكتب للتجميل، بل لتقول، لتشهد، ولتكون.
في نصوصها مساحة حوار داخلي عميق، بعيد عن الزيف والتكلّف، مغموس بحرارة الإحساس، وبصدقٍ يجعل الكلمة أقرب إلى مرآة الروح منها إلى حبر الورق. تؤمن أن الأدب موقف ورسالة، وأن الحرف يجب أن يُقال حين يكون له معنى ودور.
حاصلة على إجازة في إدارة الأعمال من الجامعة اللبنانية، وهي مدرّسة لمادة الرياضيات في التعليم الرسمي منذ عام 1982، ولا تزال على رأس عملها، تجمع بين الدقة العلمية ورهافة الشعر، في معادلة إنسانية نادرة.
ناشطة ثقافية فاعلة، وعضو في نادي الكتاب اللبناني وملتقى شعراء العرب، لها حضور لافت في الندوات والأمسيات الأدبية داخل لبنان وعلى المستوى العربي، وتنتظر الساحة الأدبية إصدار ديوانها القادم “صمت الحلم ونبوءة الألم”، بتقديم من الأديب ناصر رمضان عبد الحميد.
اجتماعيًا ونقابيًا، لم تكن بعيدة عن قضايا مجتمعها، فهي من مؤسسي جمعية آل حاطوم في بلدتها، ومن مؤسسي رابطة الأساتذة المتعاقدين في التعليم الأساسي الرسمي، وتشغل فيها منصب المستشارة القانونية.
هي المرأة التي آمنت أن الشعر لا يُكتب من رفاهية، بل من حاجة داخلية للصوت، للحقيقة، وللبقاء.
نُرحب اليوم في مجلتنا مجلة أزهار الحرف بالشاعرة هدى مجيد حاطوم، في حوارٍ نغوص فيه بين الحرف والمعنى، بين التجربة والرسالة، وبين الصمت… ونبوءة الألم.
حاورتها جميلة بندر
————————
1.في البداية، من أين بدأت الرحلة؟ كيف انعكست نشأتك في كفرسلوان – بجمالها الجبلي وهدوئها – على تكوينك الشعري والإنساني؟
_ الرحلة بدأت من رحم الجبل… من كفرسلوان، حيث يختلط الشموخ بالصمت، وتتنفس الروح عبق الأرض والضوء والغيوم. هناك، تعلّمت أن الإنتماء ليس شعارًا، بل وجعًا جميلًا نحمله فينا، وأن الطبيعة أمّ حقيقية للشاعر، تعلّمه الإصغاء لصوت النسيم كما تعلّمه القراءة في وجوه الناس.
نشأتي بين الجبال والوديان، بين دفء العائلة وبساطة الحياة، غرست في داخلي حسّ التأمل، والانتباه للتفاصيل الصغيرة التي تُخفي خلفها حكايات كبيرة. كفرسلوان لم تكن فقط بلدة، بل كانت الحبر الأول في دفتري، والمشهد الأول في عيني، والنبض الأول في قصيدتي.
2.درستِ إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية، بينما اخترتِ الشعر لغة داخلية، والرياضيات مهنة. كيف توازنين بين منطق الأرقام ورقّة الحرف؟
_ في داخلي لا يوجد صراع بين الشعر والرياضيات، بل انسجام خفيّ لا يراه إلا من يعيش اللغتين بصدق. أجد الرياضيات واللغة كلاهما في منطق، وإن اختلف شكلهما. الأرقام لا تقلّ شاعرية حين تُقرأ بالعين الداخلية، كما أن الكلمات تحمل نظامها الخاص إن نحن أنصتنا إليها جيدًا.
الرياضيات تعلّمني أن لكل مسألة حلًا، ولكل مجهول طريقة كشف، وكذلك الشعر… يعيد ترتيب الوجع والأسئلة في صورٍ ومعانٍ تفتح نوافذ جديدة للفهم. أنا أدرّس بعقلي وأكتب بقلبي، لكن العقل والقلب عندي لا يفترقان، بل يتعاونان على صنع المعنى.
3.هل كان خيارك في دراسة الأعمال نابعًا من ميول واقعية، أم كان هناك حلم أدبي مؤجل في تلك المرحلة؟
_ في تلك المرحلة، كانت الحياة تملي شروطها، والمستقبل يُقاس غالبًا بالوظيفة والاستقرار. فكان خيار إدارة الأعمال استجابة لواقع اجتماعي أكثر منه تعبيرًا عن ميول داخلية. أمّا الحلم الأدبي، فقد كان دائمًا مقيمًا في داخلي، يتنفس بصمت، ويكبر مع كل لحظة تأمل، وكل نص كنت أكتبه في الخفاء.
لم يكن مؤجلاً عن ضعف، بل عن وعي بأن لكل حلم أوانه. وجاء الشعر لاحقًا، لا ليعترض الطريق، بل ليكون طريقًا آخر يعبّر عني بالكامل.
4.منذ عام 1982 وأنتِ تمارسين التعليم الرسمي. ما الذي أضافه التعليم لشخصيتك الأدبية؟ وهل وجدتِ الشعر داخل الصف كما وجدته في القصيدة؟ وما الذي أبقاكِ في التعليم كل هذه السنوات؟
_ التعليم ليس وظيفة عادية، بل رسالة. ومنذ أول يوم لي في الصف، شعرت أنني أقف في محراب إنسانيّ نبيل، أقدّم فيه المعرفة، وأزرع بذور الوعي.
التعليم أضاف لي الكثير من الصبر، والقدرة على الإصغاء، وفهم الآخر. كل تلميذ مرّ في حياتي كان قصيدة لم تُكتب، وكل موقف داخل الصف علّمني شيئًا عن نفسي والناس.
ما أبقاني في التعليم هو الإيمان بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الكلمة، من العقول الصغيرة التي نزرع فيها الأمل. أما الشعر، فقد كان دائمًا معي… في دفاتري، على حواف اللوح، وفي نظرات الطلبة حين يلمحون في عينيّ ما لا تقوله المعادلات.
5.في نصوصك، نقرأ ملامح الإنسان، ووجع الوطن، ونبض الحياة. كيف تولدين القصيدة؟ من الوجع، من التأمل، أم من لحظة خاطفة؟
_ القصيدة تولد عندما لا أستطيع الصمت. قد تبدأ من وجع شخصي، من مشهد عابر، من دمعة طفل أو تنهيدة أم، من صرخة وطن، أو حتى من حلمٍ جافاني.
أحيانًا هي لحظة خاطفة، كوميض برق يُشعل داخلي، وأحيانًا تأمّل طويل يعجن الكلمات بالحسّ والذاكرة حتى تستوي قصيدة. لكن دائمًا، دائمًا، القصيدة عندي صادقة… لا أكتبها ترفًا، بل حاجة، كما يتنفس الجريح، وكما تصرخ الحقيقة حين تُحبس.
6.تكتبين النثر كما تكتبين الشعر. أيهما أقرب لك؟ وهل تضعين حدودًا بين الاثنين؟
_ أكتبهما كمن يسير في طريقين مختلفين إلى نفس القلب. الشعر هو انفعالي الأول، نبضي الحادّ حين يضيق الصدر، أما النثر فهو هدوئي العميق حين أحتاج للشرح لا للبوح فقط.
لا أضع حدودًا بينهما، لأنني أؤمن أن الكلمة تختار شكلها كما تختار زمنها. أترك للنص حرّيته أن يُولد كما يريد، فإن جاء شعرًا استقبلته بإيقاعه، وإن جاء نثرًا منحته المساحة ليعبّر دون قيد. كلاهما عندي ابنا وجدان واحد.
7.قلتِ في تعريفك لنفسك إن الكلمة موقف، وإن الأدب رسالة. كيف ترين مسؤولية الشاعر اليوم في ظل ما يعيشه الإنسان العربي من أزمات؟
_ الشاعر الحقيقي لا يكتب من برجٍ عاجيّ. هو مرآة الناس، صوتهم حين يخفت الصوت، وضميرهم حين يُغتال الضمير. في زمن الأزمات، تتضاعف مسؤولية الشاعر: أن يشهد، لا أن يُجمّل، أن يفتح الجرح لا ليؤلم، بل ليعالج.
الأدب ليس زينة، بل موقف. لا أؤمن بالكلمة الحيادية، لأن السكوت في وجه القهر مشاركة فيه. الشاعر مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يكون إنسانًا أولًا، أن يقول “لا” حين يصبح الصمت خيانة.
8.كيف تنظرين إلى الكتابة النسوية؟ وهل ترين أن صوت المرأة الشاعرة بات أكثر حضورًا وتأثيرًا من ذي قبل؟
_ الكتابة النسوية عندي ليست انغلاقًا على همّ المرأة، بل انفتاحًا على العالم من زاوية أنثوية صادقة. نعم، المرأة الشاعرة باتت أكثر حضورًا اليوم، لأنها خرجت من دائرة التجميل والمجاملات، وأصبحت تقول، تصرخ، ترفض، وتكتب بذات الجرأة التي ينزف بها قلبها.
أنا مع الأدب الصادق، لا مع التصنيفات. إن كتبت المرأة عن الوطن فهي لا تقلّ وطنية، وإن كتبت عن الحب لا يعني أنها ضحلة. المهم أن تكتب بصدق، لا لترضى عنّها السلطة الذكورية، بل لتكون صوتها الحقيقي.
9.لكِ حضور نشط على منصات التواصل، وتنشرين فيها نصوصك بانتظام. هل ترين هذه المنصات وسيلةً لتعزيز دور الكلمة، أم أن لها حدودًا أدبية؟
_ هي سيفٌ ذو حدّين. نعم، هذه المنصات فتحت الأبواب أمام الكلمة الحرة، وقرّبت الأدب من الناس، وكسرت احتكار النشر الورقي. لكنها أيضًا أغرقت المشهد بكثير من الضجيج، والكتابة الفارغة من المعنى.
أنا أستخدم هذه المساحة لأقول ما أؤمن به، لا لأتسابق على الإعجابات. أكتب للنخبة الواعية، لا للجمهور العابر. أؤمن أن الكلمة الصادقة تصل، حتى وسط فوضى المواقع، لأن البذرة الجيدة لا تضيّعها الرياح.
10.أنتِ عضو ناشط في نادي الكتاب اللبناني وملتقى شعراء العرب. ما أهمية الانخراط في هذا النوع من الأطر الثقافية؟ وماذا أضافت لك؟
_ هذه الأطر الثقافية بالنسبة لي هي البيت الثاني. فيها ألتقي بمن يشبهني بالهمّ والشغف، ونبادل التجارب ونصقل ذواتنا. الانخراط فيها ليس مجرد نشاط اجتماعي، بل مسؤولية تجاه الأدب وتجاه المبدعين.
لقد أضافت لي الكثير من التبادل المعرفي، والانفتاح على تجارب الآخرين. كل لقاء، كل أمسية، كل حوار، كان نافذة جديدة أطلّ منها على ذاتي وعلى الآخرين. فالأدب لا ينمو في العزلة فقط، بل أيضًا في التفاعل.
11.شاركتِ في العديد من الندوات والأمسيات الأدبية. هل ترين أن الشاعر ما زال قادرًا على التأثير من المنبر كما من الصفحة؟
_ بكل تأكيد، المنبر هو صوت الشاعر الذي يصدح بالحقيقة ويشعل الحماس في النفوس، بينما الصفحة تظل سجلّه الأبدي الذي يتخطى الزمن والمكان. التأثير الحقيقي يتأتّى عندما يلتقي الصوت الحي مع الكلمة المكتوبة، فكل منهما يكمل الآخر.
لكن في زمن السرعة والتشتت، يجب على الشاعر أن يكون أكثر وعيًا وكيفية إيصال رسالته بقوة وصدق، سواء كان على المنبر أو في الصفحة.
12.لكِ نشاط نقابي أيضًا، فأنتِ من مؤسسي رابطة الأساتذة المتعاقدين وتشغلين منصب المستشارة القانونية فيها. ما الذي دفعك إلى هذا النوع من الالتزام؟
_ النضال من أجل حقوق المعلمين هو امتداد لنضالي الإنساني، ورفض للظلم الذي يطال من يعملون على بناء المستقبل. شعرت أن عليّ أن أكون صوتًا لمن لا صوت لهم، وأن أساهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً، لا يترك أحدًا خلف الركب.
هذا الالتزام هو جزء من موقفي الأدبي والإنساني؛ لأن الكلمة إذا لم تكن فعلًا، تظل حبرًا على ورق. النضال حقٌ وشعرٌ في آنٍ واحد.
13.هل تجدين رابطًا بين دفاعك عن حقوق المعلمين وبين التزامك الأدبي؟ وهل الكلمة بالنسبة لك وسيلة نضال اجتماعي؟
_ الكلمة هي أداة النضال الأسمى. عندما ندافع عن الحقوق، نستخدم الكلمات لنشرح، لنحارب، لنُغيّر. الأدب عندي هو ممارسة نضالية أيضًا، لأنه يوقظ الضمائر، ويحرر العقول، ويمنح الأمل.
أنا أرى في دفاعي عن حقوق المعلمين استمرارًا لمساري الشعري، لأن كلاهما ينبع من ذات الحاجة للعدالة والكرامة والحرية. الكلمة، سواء كانت في ندوة شعر أو في قاعة محكمة، هي سلاح الفعل والتغيير.
14.ديوانك الجديد “صمت الحلم ونبوءة الألم” رغم اكتماله، لم يُطبع حتى الآن… ما سبب هذا التأخير؟ وهل هو ترددٌ إبداعي، أم انتظار للوقت المناسب، أم أن هناك عوائق أخرى حالت دون ظهوره للنور؟ ماذا يمكن أن تخبري القارئ عنه؟ وما الذي يختلف فيه عن نصوصك السابقة؟
_ التأخير ليس ترددًا، بل انتظار حكيم لظروف تليق بالديوان وبقراءه. كل ديوان هو كائن حيّ، يحتاج إلى اللحظة التي تتيح له أن ينبض حقًا، وأن يصل بقوة وصدق.
“صمت الحلم ونبوءة الألم” هو رحلة أعمق في الذات والوطن، يجمع بين الصمت الذي يحمله الحلم، والنبوة التي تأتي من الألم المتجدد. هو نصوص تتناول الوجع الإنساني بجرأة أكثر، وبلغة تختزل الألم والكفاح في مشاهد ومواقف.
هذا الديوان يختلف عن السابق لأنه أكثر تماسًا مع الواقع، وأكثر انفتاحًا على التجربة الإنسانية بكل أبعادها، لكنه يبقى دائمًا متجذرًا في أصول الكلمة الحرة التي أؤمن بها.
15.ما رأيك في الملتقيات الشعرية عمومًا؟ وبشكل خاص، كيف تصفين تجربتك كعضو في ملتقى شعراء العرب الذي يرأسه الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد؟
_الملتقيات الشعرية هي فضاءات مهمة لالتقاء الشاعر بغيره، ولحوار الشعور والفكر. فيها نعيش تجارب متباينة، نتعلم من الآخر، ونُثري تجربتنا. هي غذاء الروح الأدبية.
تجربتي في ملتقى شعراء العرب كانت نافذة مشرعة على عوالم شعرية مختلفة، وأكدت لي أهمية الانتماء إلى حقل ثقافي واسع. بفضل قيادة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد، تحولت الملتقيات إلى منصات حقيقية للنقد البنّاء والدعم المتبادل، مما يعزز حضور الشعر العربي في الساحة الأدبية.
————————
حاورتها من لبنان جميلة بندر
عضو بملتقى الشعراء العرب
محررة بمجلة أزهار الحرف.