محمد زوهر… الريشةُ العصاميةُ تبني آفاقًا فنية
في زاوية هادئة من مدينة الخميسات، ووسط الألوان التي تهمس بأسرار الطفولة والحلم، نجد اسمًا يخطو خطواته بثبات منذ عقود في سماء الفن التشكيلي المغربي. الفنان محمد زوهر، الذي بدأ رحلته مبكرًا حاملاً شغفًا لا يُقاس، وموهبة عصامية نضجت عبر الزمن، منذ أن حصل على جائزة القناة الأولى المغربية في سن صغيرة، وأصبحت لوحاته تُزيّن أغلفة المجلات وتُعرض في المحافل الوطنية والدولية، وصولًا إلى إدارة النشر في مجلة “فضاء المرأة”. ولا يزال يحمل ريشته كأنها رسالة لا مجرد أداة.
ومن هنا كان لـ”مجلة أزهار الحرف” هذا الحوار معه، لنُبحر في ذكرياته واختياراته وتأملاته حول الفن والحياة.
حاورته من مصر: مي خالد
—
1. كيف كانت بدايتك الأولى مع الرسم؟ وهل تتذكر أول لوحة رسمتها وأثّرت فيك؟
ج1: في البداية أشكر الأستاذ ناصر عبد الحميد، رئيس مجلة “أزهار الحرف” والناقد والشاعر المتميز في المشهد الثقافي المصري والعربي، على كتاباته المتواصلة في مجال النقد وكتابة القصائد الشعرية، وعلى مساهمته في إثراء الخزانة المصرية والعربية بعدة إصدارات قيمة ناهزت الثمانين إصدارًا. كما أشكر الصحفية المتميزة الأستاذة مي خالد على هذا الحوار الشيق وهذه الالتفاتة الطيبة التي تنبش في ذاكرة وتاريخ محمد زوهر مع الفن.
أنا من مواليد 1961 في مدينة الخميسات، حيث أعيش وأعمل حتى اليوم. تكويني الفني عصامي بالكامل، ونظمت العديد من المعارض الفردية والجماعية منذ سنة 1981 حتى 2025. بدأت علاقتي بالرسم منذ الطفولة، وتحديدًا في سنة 1977 عندما كنت أدرس في المرحلة الابتدائية. لم أُكمل دراستي رغم حصولي على مراتب أولى، حيث اضطررت لترك الدراسة لأسباب عائلية، وبدأت العمل في مقهى لإعالة نفسي ووالدتي.
كنت أهوى حصة الرسم في المدرسة كثيرًا، وكانت الأفلام المصرية مصدر إلهام، خصوصًا فيلمًا أثّر بي حيث كان البطل رسّامًا نال شهرة واسعة بسبب لوحة أنجزها. في المقهى الذي عملت فيه، كانت هناك لوحة طبيعة حية على الجدار، جذبتني بشدة وأثارت فضولي.
بدأت أرسم دون توقف، باستخدام الأقلام الخشبية وعلى الكرتون الذي أجمعه من القمامة. كانت مجلة “فنون عراقية” والسينما مدرستي الثانية. أول لوحة أثّرت بي كانت بعنوان “المراهق” سنة 1981، أنجزتها بعد قراءتي لكتاب “المراهق” لابن حزم، وفازت بإعجاب الحضور، بل وبيعت في أول معرض لي بسعر 250 درهم، ما منحني ثقة كبيرة بنفسي.
—
2. هل كان لعائلتك أو لمحيطك الثقافي دور في تشجيعك على مواصلة هذا الطريق؟
ج2: نعم، تلقيت دعمًا كبيرًا من خالتي “ملكة محوت”، التي تعيش في فرنسا حاليًا. كانت أول من علّق إحدى لوحاتي على جدار غرفتها، ما منحني دفعة قوية للاستمرار. كما أن ظهوري في التلفزة ومعرضي الأول عام 1981 ساهما في تشجيعي ودعمي نفسيًا وفنيًا.
—
3. حصلت على جائزة القناة الأولى المغربية وأنت شاب، كيف أثّر هذا الفوز المبكر في وعيك الفني ومسارك الشخصي؟
ج3: كان فوزي بجائزة القناة الأولى في برنامج “مواهب” الذي أشرف عليه عبد اللطيف الفيلالي، نقطة تحول مهمة في حياتي. أصبحت معروفًا في مدينتي بل وفي المغرب كله، وفرحت والدتي والمحيطون بي كثيرًا، مما منحني دفعة قوية نحو البحث والتطور، لا سيما عبر القراءة والاطلاع على مجلة “فنون عراقية”.
—
4. درست تاريخ الفن في وقت لاحق، بعد رحلة طويلة مع الإبداع، فما الذي أضافه لك هذا التكوين الأكاديمي؟
ج4: دراسة تاريخ الفن عام 2007 أضافت لي الكثير، خصوصًا فيما يتعلق بالمدارس الفنية مثل التعبيرية والسريالية والكلاسيكية. لكن أكثر ما أثّر فيَّ هو تعرّفي على قواعد المنظور (Perspective) وخط الأفق ونقطة التلاشي، وهي مفاهيم ساعدتني كثيرًا في تطوير أعمالي.
—
5. تصف نفسك بـ”العصامي”، فما الذي يعنيه لك هذا التوصيف؟ وهل ترى أن التكوين الذاتي يمنح الفنان حرية أم يفرض عليه تحديات أكبر؟
ج5: كثيرون يدّعون العصامية دون أن يدركوا معناها الحقيقي. أن تكون عصاميًا يعني أن تمتلك أدواتك وتعرف تاريخ الفن وقواعده، وأن تطوّر أسلوبك وتُضيف شيئًا جديدًا للمشهد الفني. العصامية مسؤولية كبيرة، وهي تحتاج إلى احتكاك دائم بالمعارض وتجارب الرواد والثقافة التشكيلية.
—
6. كيف تقيّم تجربتك مع نوادي القراءة والثقافة، خصوصًا مع جمعية النهضة منذ ثمانينيات القرن الماضي؟
ج6: كانت جمعية النهضة رائدة، ومن خلالها انخرطت في نادي المطالعة، حيث قرأت كتبًا مهمة في علم النفس، والفلسفة، والرواية. كانت هذه التجربة مصدر إلهام وسندًا لتطوري الفكري والفني.
—
7. شاركت في معارض فردية وأخرى جماعية، ما الفرق بين التجربتين فنيًا وإنسانيًا؟ وأيهما أقرب إلى نفسك؟
ج7: لكل تجربة خصوصيتها. المعارض الجماعية تسمح بتبادل التجارب والاطلاع على مدارس مختلفة، أما المعارض الفردية فهي اختبار لمدى حضور الفنان وتأثيره، وتمنحني مساحة للتعبير عن ذاتي بشكل أوسع.
—
8. ما المعرض الذي لا تنساه أبدًا؟ وما الذي جعله مميزًا في ذاكرتك؟
ج8: معرضي الأول سنة 1981 يبقى محفورًا في ذاكرتي، وكذلك معرض 1995 الذي أشرف عليه عامل صاحب الجلالة، حيث تم عرض وبيع ثلاث لوحات من أعمالي. كانت لحظات مؤثرة حقًا.
—
9. كيف ترى موقع الفن التشكيلي المغربي اليوم محليًا وعربيًا؟ وهل تشعر أنه نال ما يستحق من اهتمام ورعاية؟
ج9: الفن التشكيلي المغربي ترك بصمة عالمية بفضل الرواد، لكنه لا يزال يعاني من نقص الدعم المؤسسي. الفنان يُترك بمفرده لتنظيم معارضه، وهذا لا يليق بالمشهد الفني. نحتاج إلى دعم حقيقي وشامل.
—
10. هل ترى أن الريشة المغربية استطاعت أن تعبّر عن الإنسان المغربي بهمومه وتاريخه وثقافته؟
ج10: نعم، استطاع الفنانون المغاربة التعبير عن قضايا الإنسان المغربي والعربي، بدءًا من القضايا الاجتماعية إلى النضال الوطني والهوية الثقافية، وقد ظهرت هذه التعبيرات في النسيج، والنحت، والخزف، والرسم.
—
11. كفنان، هل هناك مدارس فنية عالمية أثّرت فيك؟ وأي الفنانين تتابع أعمالهم بشغف؟
ج11: تأثرت بعدة مدارس، منها الفن الفطري المغربي المعاصر. أتابع أعمال العديد من الفنانين، لكنني أسعى لتجاوز التأثر نحو الابتكار، وأرفض التقليد لأنني أؤمن أن الإبداع الحقيقي هو التجاوز.
—
12. كيف تنظر إلى تجربة استخدام أعمالك في أغلفة المجلات مثل “دراسات بيداغوجية”؟ وهل تؤمن بتقاطع الفنون البصرية مع الوسائط الثقافية؟
ج12: أعتبر استخدام لوحاتي في المجلات شرفًا كبيرًا. الفنون المشهدية عنصر أساسي في نقل الرسائل، وتكاملها مع الكلمة المكتوبة يمنح تعبيرًا أعمق وأثرًا أقوى.
—
13. حصلت على ميدالية ذهبية وعدة جوائز في عام واحد، كيف تنظر إلى دور الجوائز في مسيرة الفنان؟
ج13: الجوائز بمثابة اعتراف بجهود الفنان، خصوصًا حين تتجاهله المؤسسات الرسمية. الجوائز التي حصلت عليها، ومنها الميدالية الذهبية ودرع الفنان المتميز، كانت دعمًا مهمًا خلال أزمة كورونا، وأعادت لي الأمل.
—
14. ما التحديات التي واجهتك كفنان نشأ خارج المؤسسات الرسمية والأكاديمية؟ وكيف تغلبت عليها؟
ج14: التحديات كانت كبيرة، في ظل غياب ثقافة الصورة. لكن بالإصرار والمثابرة استطعت اكتساب احترام المجتمع، رغم الصعوبات. علينا أن نُعين الرجل المناسب في المكان المناسب حتى ننهض بالفنون.
—
15. ما المسؤولية التي تشعر بها الآن في منصبك كمدير تحرير ونشر لمجلة “فضاء المرأة”؟
ج15: مسؤولية كبيرة. عملت على تجديد المجلة وفتح صفحاتها للفنون والأدب، وأؤمن أن المرأة والرجل هما المجتمع، ويجب أن يُدعما معًا في كل المجالات لتحقيق التماسك الاجتماعي.
—
16. ما رؤيتك للمرأة كقضية في الفن؟ وهل كانت حاضرة كرمز أو موضوع في لوحاتك؟
ج16: المرأة جزء لا يتجزأ من مجتمعاتنا، وقد جسّدتها كثيرًا في أعمالي. أحيانًا يظهر حزني في ملامحها دون أن أدري، لكنها دائمًا حاضرة باحترام وجمال في لوحاتي، وأراها رمزًا للوجدان والذاكرة.
—
17. هل مررت بفترات جفاف إبداعي؟ وكيف تعاملت معها؟
ج17: نعم، مررت بمحطات تأمل وتساؤل. لكن تلك الفترات منحتني مزيدًا من الإصرار، وذكّرتني بأول لوحة بيعت، وبأحلام الطفولة، فعُدت للرسم بقوة، مواصلًا رسالتي رغم كل الصعوبات.
—
18. ما رأيك في الملتقيات الأدبية والفنية، وخصوصًا ما يقدّمه ملتقى الشعراء العرب برئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد؟
ج18: ما يقدّمه ملتقى الشعراء العرب بقيادة الأستاذ ناصر رمضان عبد الحميد، عمل خارق ومميز. “مدارات الحب” مشروع رائع يجمع الأصوات الشعرية العربية، وينشد السلام، ويؤكد دور الفن في توحيد الشعوب.
—
19. أخيرًا، ما الحلم الذي لا يزال يسكنك كفنان؟ وكيف تحب أن يتذكرك الجمهور والوسط الثقافي المغربي؟
ج19: أحلم بنهضة فنية وثقافية شاملة في المغرب، تُنصف الفنان وتُكرّم الإبداع. أحب أن يتذكرني الجمهور من خلال لوحاتي، وأن يكون لي مكان في المتاحف، مثل الفنانين في الدول المتقدمة. فالإبداع هو ما يبقى بعد الرحيل.
***
حاورته من مصر
مي خالد
محررة بمجلة أزهار الحرف