الغضب واللعبة السردية في رواية خديعة الخديعة لياسين الغماري
علي لفتة سعيد
رواية (خديعة الخديعة) للروائي التونسي الشاب ياسين الغماري، والصادرة عن دار الدراويش، تجعل المتلقّي والقارئ يُسابقان الفكرة للإمساك بالخيوط. القارئ يريد التمتّع، والمتلقّي يحتاج إلى التفكير بتلك العلامات الدالّة على الوجود المرتبك في الحياة.
هذه الرواية تنتمي إلى الأدب الغاضب؛ الغضب من كلّ شيء، فيما تحوّلات التنبيه والتقرّب والمناورة بين الشخصيّات والراوي، وبين الراوي والروائي، وبين الجهات جميعها وفكرة الرواية، وبين فكرة الرواية في مبناها وحكايتها ومتنها.
فاعليّة العنوان وأبواب الرواية
بدءًا من العنوان، وما تلاه من عتبات أو مدخلات أو أبواب الدخول إلى مدينة الرواية. ولأنّ العنوان فيه تأكيد التأكيد (خديعة الخديعة)، فإنّ الأمر يوجّه بالتنبيه والتنويه، بل وحتى التحذير، فهو – أي العنوان – له دلالة مُركّبة، ويمكن تأمّله من عدّة زوايا: فهو خديعة ظاهريّة، وهو خديعة تُخفي ما وراء التأكيد، أو أنّ له علاقة بالغضب الذي انبنت عليه الرواية، والتي تأثّثت من خلال الأبواب الأولى التي سبقت المتن الحكائي.
وربما هو خدعة للواقع الذي أرادنا أن ننخدع فيه من خلال القبضة السياسيّة، وربما هو يريد السخرية، فكلّ شيءٍ مُكرّرٌ في الحياة، حتى القبضة والطلقة والمسيرة باتجاه النهايات. وربما هو عنوان بلاغي، الهدف منه لفت الانتباه إلى ما سيأتي من المحتوى، فتتحوّل الخديعة وتأكيدها إلى غاية، لذا يصبح العنوان سؤالًا مُبطّنًا، وعلى المتلقّي البحث عن الإجابة: من خدع من؟ وهل نحن ضحيّة الخديعة أم شركاؤها؟
ولهذا فإنّ العنوان منذ البدء يُعبّر عن التواء الحقيقة، وارتباك المعرفة، وتكرار الكذب بمكرٍ جديد. إنّه يُعلن منذ البداية أن القارئ مُقبل على نصٍّ يُشكّك في ما يبدو بديهيًّا، ويستدعي الحذر من السطح، لأنّ الخداع هنا ليس واحدًا، بل مُتسلسلٌ ومُتراكب.
العنوان هو البوّابة الكبرى، فيما هناك أبوابٌ أُخرى / عتبات لفهم التأويل الأوّلي الذي سيتمّ الإمساك به من خلال ترقّب التفسير الدلالي لما وُضع كعتبات.
أمّا الأبواب الفرعيّة، فقد أراد بها التنبيه الأوّلي، وهو تنبيهٌ غاضب، وفيه من الخوف أكثرُ ممّا فيه من التبرير لما سيأتي، لأنّ فيه ما هو واقعي ضمن التنويه:
“هذه الرواية هي محض خيال، أيُّ تشابهٍ مع الواقع فهو محضُ صدفة، ولكنّ الأحداث التي تدور بالمدرسة حقيقيّة، عشتُها أنا شخصيًّا. أُهدي هذه الرواية إلى زملاء دراستي الذين أصبحوا الآن نساءً ورجالًا.”
إذن، هي واقعيّة الأحداث، خياليّة التنفيذ والوقائع.
ثمّ يأتي الباب الثاني الذي لم يكن تبريرًا، بل توكيدًا لما يريد طرحه من أفكار في الرواية، حيث يختار مقولات من ثلاث شخصيّات مشهورة: أفلاطون، أحلام مستغانمي، ونيكوس كازانتزاكيس، وهي مقولات أقرب إلى السياسة منها إلى مقولات الحِكم، كونها تتّصل بالشخصيّات التي تتحوّل إلى شرّيرة حين تصل إلى الحكم، وما يتبعه من ظلم وثمن لا يُدفَع، وحين تكون السلطة ذاتها خادعة من خلال القلوب مع الناس والقنابل عليهم، فضلًا عن مقولة التربية على الخوف حين يُسمّى هذا الخوف حياة.
ولهذا، فإنّ الدليل الأوّلي هو مفاتيح سياسيّة، والدلالة هي السياسة، والمدلول هو السلطة.
وربّما هذه الأبواب تصادف كلّ من يقرأ الرواية ويكتب عنها، كلّ من يريد الكتابة، كونها مفاتيح حلّ لُغز الخديعة التي يريد المنتج/الروائي أن يتوصّل إليها من خلال العلاقة بين الحكاية والفكرة.
اللغة ولعبة السرد
تمتاز الرواية بفاعليّة اللغة السرديّة التي تُعطي ثوب الرواية مقاسها الذي تعتدّ به. فهي لغةٌ مُتابعة، وراصدة، وفاعلة، وراكضة بهدوء، للوصول بالمتن إلى إعطاء الملح الحكائي، فهي تتراوح بين التجريب في الفكرة، والانتقال عبر اللغة من خلال خاصيّتَي المتخيّل من الواقع والواقع الذي يُصبح متخيّلًا. فتتداخل عمليّة تيّار الوعي والهذيان الذي يُبديه الراوي، باعتبار أنّ الرواية أُنبِتَت بطريقة الغائب المُتابِع لكلِّ شيءٍ حول الشخصيّات، وهو ما جعل اللغة هي المهاد الأوّل للمستويين الإخباري والتصويري. مستويان يتابعان بعضهما بدءًا من الاستهلال، الذي دخل مباشرة في العلاقة بين الداخل والخارج للشخصيّة الرئيسة.
فاللعبة تبدأ من يوم (الخميس)، والمكان هو البيت/المطبخ، والشخصيّة أنثى/امرأة “رنين”، وهو استهلال مشهدي دراماتيكي، تصويري، يربط أمس/الأربعاء، بـ اليوم/الخميس:
“يوم الخميس لم تشهد «رنين» تعبًا من قبل، بكمّ ما تُحسّه الآن عندما تعذّر عليها الحصول على ما تصبو إليه. غطّست قطع البطاطس المشروخة في المقلاة فوق الموقد. وقد كانت حانية الظهر وساهية العينين. بدت المقلاة لها أضيق ممّا كانت تعتقد. حرّكت الملعقة الخشبيّة بتؤدة. في زاوية الحوض اليُسرى تكدّست – منذ مساء أمسٍ – كومة من الأطباق والملاعق، من سلّة يطفح منها الأكل الفاسد.”
لتستمرّ الحكاية بتفاعل متنها مع المبنى السردي، الذي يتوّج بالفكرة وتنقّلاتها في المستويين الدرامي/الصراع، والقصدي/الغاية والتأويل.
إنّ اللغة لا تحكمها البلاغة أو الشاعريّة، ولا تتّكئ على البساطة، بل هي لغةٌ مرنة تُعطي الوصفيّات أهميّة كبيرة، وتُراقب الأفعال بطريقة مَن يُعطي المفاتيح، لذلك فهي تُتابع “الصغيرات” في المبنى، وتنساق وراء “الكبيرات” في المتن، لتُعطي – أي اللغة – مفعول الاجتهاد لدى المنتج/الروائي، كونه يريد التعبير عن خلاصة الصراع الإنساني في وجوده وسط سلطة، أو وجود السلطة وتأثيرها على الإنسان، بدلالة الأبواب الأولى التي سبقت الفصل الأوّل، حيث تعدّدت الفصول إلى 12 فصلًا مرقّمًا بلا عناوين، وكأنّها – أي الفصول – عمليّة تتابعيّة للزمن من جهة، وانتقالية مرنة للشخصيّات ووقائعها.
فالروائي ترك راويه يُعطي الجانب النفسي الجوّاني مهمّة التفاعل بين الحدث والحادثة، وبين المتن والمبنى، وبين الصراع وتفاعله:
“تحوّل بصره عنها واستدار إلى الجانب الآخر مُنصاعًا. يمشي أبعد فأبعد بحركاتٍ موزونة. لبثت مُتخشّبة في مكانها، قابضةً بمقبض الباب على ذلك الشكل المُخيِّب. ولم يعد في مجال البصر.” (ص9)
المعالجة الدراميّة
تنساق الرواية إلى هدفية المعالجة الدراميّة، سواء تلك المتعلّقة بالرفض السياسي، أو الكبت الاجتماعي، أو المنطقة الوسطى بين العلاقات بين الشخوص.
خاصةً وأنّ الزمن هو اللاعب الآخر الذي له الإمكانيّة في إعطاء فاعليّة للمكان ومتغيّراته. لكنّ المتحوّل بين هذه المستويات هو الوصول إلى المستوى الفلسفي، الذي يُعطيه فاعليّة الوجود، وهو السؤال الذي يترتّب من خلال أكثر من طريقة إنتاجيّة:
أوّلًا: من خلال الحوار الذي يُراد منه الاستباق لوضع الإجابة لتكون هي الدليل، أو تكون هي المدلول:
“ألم أُحذّركِ من فتح الباب للغرباء؟
يُحتدّ بنظرها عنها. “ومن آخر لديه دراية غيركِ؟”
“سأفقدُ صوابي منكِ.” (ص10)
ثانيًا: من خلال التداعي مع الذات أو الهذيان الذي تأخذه الشخصيّة، فيُعطي عمليّة قطع أفق التوقّع:
“ولمّا ينتهي يمقتُ نفسه. ويبكي لماذا فعل هذا؟ يُعيدها تشرُد دمًا من حيث وجدها. وشريط هزّاته الشبقيّة يتبعه.” (ص29)
أو من خلال الاستدراك للراوي الذي يُنيب عن الشخصيّة، والعكس صحيح:
“لا تجد فيه عزاء. هل كانت واضحةً فيما تقوله؟ حول الاقتراب منها أكثر ومُراضاتها بضمّة حميمة وسميكة. لا يشعر بأيّ حرج. أعرضت عنه مُهتاجة وغير واثقة. كيف أمكنها أن تفعل به ذلك بحقّ إله السماء؟ لا يرى دافعًا من صنيعها.” (ص88)
وهذه كلّها تأتي بهدف الوصول إلى طُرُق الأبواب الانفعاليّة، التي تمنح المتن الحكائي أهميّة المكوث في الداخل النفسي، سواء المتعلّق بالجنس، أو السياسة، أو الصراع الوجودي/الحياتي.
إنّ المعالجة الدراميّة لا تنبني على أساس التفاعل بين الشخصيّة وحياتها وأفكارها فحسب، بل من خلال توليد محرّكات البحث عن فواعل إدانة للحياة، بكلّ ما فيها من أسباب الوقوع في الساديّة. وبالنتيجة، فإنّ الرواية تُعطي أنّ كلّ ما حدث هو مجرّد خديعة، وإن كانت واقعيّة، ومؤكّدة في تقنيّة الخديعة، لتكون مُثبتة وإن كانت مخياليّة.
إنّها رواية الواقع من منظور نفسي، ورواية الخيال من منظور فلسفي، ورواية الغضب من منظور سياسي، ورواية التفاعل مع الذات من منظور اجتماعي. لذا، كانت اللعبة تقود البناء، وكانت الأحداث تقود الحكاية، وكان الروائي يريد فكّ شفرات الفكرة، حتى أنّ النهاية كانت هي اللحظة التي تنفخ فيها المستويات الدراميّة مفعول تفاعلها، وهي تتوسّجد للغة الطبيعيّة، واللغة الفاعلة، المصوّرة للدواخل، والمنفجرة في الكثير من الأحيان من الإحالات التأويليّة المُنيبة عن الداخل السيكولوجي:
“زعيقٌ مُفجع لا طريق له. علت ابتسامة «ريماس» تتجسّم إلى أفعى جائشة، تطرح السُّمَّ في وجه مَن يقف في واجهتها. تصفعها بأعين حاقدة وناقمة. شخرت كـالخنزير المُدلّل.”
ويمكن القول إنّ الرواية، بوصفها عملًا ينتمي إلى الأدب الغاضب، تتقاطع فيها السياسة مع الوجود الشخصي والنفسي للإنسان. تتناول الرواية، عبر بنيةٍ لغويةٍ مرِنةٍ ومتماسكة، أبعادًا من الخِداع المُتكرِّر الذي يتلبّس الحياة، ويُعيد مساءلة البديهيّ والظاهر. ولهذا، فإنّ الرواية تبدأ بفاعلية العنوان وتعدُّد دلالاته، وتُفكّك بنية السرد من خلال لغتها، ومعالجتها الدرامية، وتوظيفها لتقنيات تيّار الوعي والهذيان والتداعي.
وعلى الرغم من أنها تبدو خيالية كما ورد في المقدّمة، فإنّها بدت واقعيةً، كونها تسير بخطى تأويليّة نحو الفلسفة، والجنس، والسياسة، والاجتماع، لتُنتج نصًّا مركَّبًا يُربك القارئ ويستفزّ وعيه. خاصةً أنّ الرواية لا تُسلِّم أجوبتها بسهولة، بل تترك المتلقّي يلهث خلف فكّ شفرات الخديعة، بين واقعٍ يُعاد إنتاجه، وخيالٍ يلامس فُوّهة الحقيقة..