في عالم الألوان والرموز، لا تحتاج المرأة إلى صوتٍ عالٍ كي ُتعبّر عن ذاتها، بل يكفي أن تترك “بصمتها الأنثوية” بريشةٍ تنبض بالحياة. فمن الرباط برزت ريشة الفنانة حسناء الشرتي كصوتٍ ناعم يبوح بحكايات النساء، وهواجس الذات، وذاكرة الأقمشة والبيوت المغربية.
فنانة تشكيلية مغربية استطاعت أن تمزج بين الأصالة والحداثة، بين الدقة الأنثوية وقوة التعبير التجريدي في لوحاتها. هي حسناء الشرتي، التي تؤمن أن الفن ليس فقط وسيلة للتعبير، بل أيضًا أداة للتغيير والتمكين.
ومن هنا، كان لمجلة “أزهار الحرف” هذا الحوار معها، لنقترب من ملامح تجربتها، ونستكشف رؤيتها للفن، والمرأة، والطموح.
حاورتها من مصر: مي خالد
—————————————
1) كيف أثّرت البيئة الثقافية والعائلية على مسيرتك الفنية منذ الطفولة؟
* في البداية، أشكر مجلة أزهار الحرف المصرية ورئيسها ناصر رمضان عبد الحميد، الشاعر الكبير المتميز الذي أغنى المشهد وتاريخ الشعر العربي، على هذه الاستضافة، كما أشكر الصحفية والأستاذة مي خالد.
اسمي حسناء الشرتي، من مواليد 1983 بالرباط، فنانة تشكيلية بالفطرة، أعيش وأعمل في الرباط، المملكة المغربية. أحببت الفنون التشكيلية والفنون الشعبية منذ الطفولة، لأن أبي كان رسامًا وأمي طرازة، وكلاهما وقف إلى جانبي لأكون ما أنا عليه اليوم. كما كانت أختي أيضًا تساعدني في إنجاز بعض الأعمال الفنية التي كان أستاذ التربية الفنية في الإعدادية يطلب مني تنفيذها.
في المدرسة الإعدادية التي كنت أدرس فيها بمدينة الرباط، كنت أحب كثيرًا حصص الفنون الجميلة، لأنها كانت مبرمجة ضمن المقرر الدراسي السنوي، حينئذ كان عمري 13 سنة. وهذه الحصص كانت تشمل التربية الفنية والتربية النسوية، التي تدخل ضمن الفنون الشعبية وتشمل فن الطرز المغربي بكل أنواعه، وكانت فرصة ثمينة لتعلم الخياطة والطرز. كما كانت هناك أيضًا حصص التربية الموسيقية.
كنت أنتظر حصص الفنون الجميلة والفنون الشعبية بفارغ الصبر، وأحبها إلى حد الجنون، وأشعر بسعادة لا تكاد تطاق، وكان ذلك حلمًا جميلاً بالنسبة لي، خاصة في هذه السن المبكرة حيث كنت ما زلت بحاجة إلى اللعب.
وفي هذه المدرسة الإعدادية، اقترحت عليّ أستاذة التربية الفنية أن أنجز أحد أعمالي الفنية على جدران الإعدادية. كان العمل على ورق الرسم، وقد أعجبها كثيرًا كما أعجبني أنا أيضًا. كل هذه البيئة المدرسية والمنزلية، إضافة إلى انضمامي إلى عدة مراسم وورشات، ساعدتني على المضي قدمًا.
2) كيف تحوّل توجّهكِ الفني من فن التطريز، الذي كان البوابة الأولى لتفجير طاقتكِ الفنية منذ الصغر، إلى رسم اللوحات التشكيلية؟ وما الأسباب التي دفعتكِ إلى ذلك؟
* لقد أشرت سابقًا أن فن التطريز يدخل ضمن الفنون الشعبية المغربية الغنية عن التعريف، وهذه الفنون غزيرة ومتنوعة، منها الطرز الرباطي وكذلك الفاسي، اللذان يتميزان بعدة رموز ودلالات وأشكال تنبع من قلب الهوية المغربية وتراث الأجداد.
كنت أعرف جيدًا هذه الفنون الشعبية، لكنني تخصصت وأحببت إنجاز أعمال على القماش باستخدام طرز “الغريزة” باللهجة المغربية، وهكذا أنجزت عدة أعمال فنية بهذه التقنية الجميلة التي كانت تعجبني. كل هذا تعلمته في المدرسة الإعدادية، كما ساعدتني أمي كثيرًا، لأنها كانت “معلمة” أي متقنة لفن الطرز الرباطي، وهو فن رفيع بدقة متناهية.
3) كيف تطوّر مشواركِ الفني منذ بداية الرسم حتى اليوم؟ وما أهم النقاط الفارقة أو التحديات التي واجهتكِ خلال مساركِ الفني؟
* إن مرحلة المدرسة الإعدادية ساعدتني في إنجاز العديد من الأعمال الفنية، كما تعلمت بعض تقنيات الرسم التي كنا نقوم بتقليدها في القسم، وكذلك تلوينها بالأقلام الخشبية والشمعية، أو تركيبها عن طريق فن الكولاج. كل هذا كان مفيدًا بالنسبة لي.
وفي سنة 2020، زمن كوفيد-19، أبصرت ذات يوم علبة ألوان زيتية تباع في أحد المتاجر الكبرى في الرباط، فاقتنيتها. في المنزل، وبحضور والدي، بدأت مزج الألوان. وكان يقول لي رحمه الله: “انطلقي، امزجي… ارسمي يا ابنتي، ارسمي”، وكل هذا منحني ثقة كبيرة.
في هذه المرحلة لم تكن لدي الأدوات الاحترافية اللازمة في مرسمي، فكنت أكتفي بالأدوات المدرسية فقط، وبعد ذلك قررت اقتناء الأدوات الاحترافية، وبدأت إنجاز العديد من الأعمال الفنية، مستخدمة تقنيات مختلفة، وأحيانًا مستغنية عن الفرشاة والريشة لاكتشاف عوالم جديدة ومتعددة. استخدمت الموسى وتقنية المسح والنقش، وكنت أحاول البحث عن الذات، وإيجاد أسلوب يميزني عن غيري، طامحة في وضع قدمي في تاريخ الفن التشكيلي المغربي ولِمَ لا العالمي.
4) دائمًا ما تستخدمين ألوانًا جريئة وتراكيب دقيقة في أعمالكِ، ما الدوافع النفسية أو الفنية وراء ذلك؟
* إن بناء اللوحة مع تركيب أشكالها وتلوينها، كل هذا يأتي عن طريق الإلهام وبشكل تلقائي وفجأة، وبدوافع نفسية قوية أحيانًا، فأجد نفسي أمام اختيارات دقيقة تأخذ مكانها الصحيح في فضاء اللوحة ليكون البناء سليمًا، والألوان مركبة أيضًا بشكل تناغمي يحقق المتعة البصرية للمتلقي.
بعد إنجاز أعمالي الفنية، تفاجئني النتائج حقًا قبل أن تفاجئ المتلقي أو النقاد، خاصة المصريين مثل الناقد المتميز ناصر أحمد سليم، والفنان التشكيلي النحات الذي أعجب بها كثيرًا.
5) لقد شاركتِ في معرض Living 4 Art في الدار البيضاء، بين 18 يناير و14 فبراير 2025. أي لوحة أثارت تفاعلاً لافتًا؟ وما الرسالة التي حملتها؟
* إن اللوحة التي أثارت تفاعلاً لافتًا، أكاد حقًا لا أصدق ما حدث بسبب اندهاش وإعجاب الجمهور بها. كان المتلقي ينظر إلى اللوحة ويتأملها بعمق وإعجاب، وكان الجمهور يذهب ويعود لمشاهدتها مرارًا. اللوحة اسمها: “لوحة النية”، وهي لوحة تجريدية اعتمدت فيها على الألوان المغربية الساخنة، رمز الهوية الوطنية المغربية وتراث الأجداد، وأدخلت كذلك اللون الذهبي، شعار المملكة المغربية الشريفة.
كل هذه العناصر الفنية مع اختيارات الألوان كانت تعبيرًا عن فكرة راودتني: إدخال الفرحة على الشعب المغربي أثناء وصول الفريق الوطني المغربي لكرة القدم إلى نهائيات كأس العالم، وكان ذلك أمرًا استثنائيًا ومشرفًا لجميع الأمة الإفريقية والعربية.
6) كيف كان تفاعل الجمهور، وخاصة النساء، مع لوحاتكِ في معرض “بصمات أنثوية”؟ وهل شعرتِ أن الرسالة وصلت إليهم؟
* كانت هناك لوحة اسمها: “ما بعد”، وهي لوحة معبرة عن إحدى مراحل حياتي، جسّدت فيها فترة صعبة جدًا بعد وفاة والدي رحمه الله، التشكيلي المغربي محمد الشرتي، الذي اشتغل في الظل ورحل عن هذا العالم في الظل، دون أن يتعرف عليه المغاربة، وهذا ما يحدث مع العديد من التشكيليين المغاربة أحيانًا. هذه المرحلة لم أتجاوزها بسهولة، فقد كانت صعبة جدًا، لأن والدي ترك فراغًا كبيرًا وجرحًا غائرًا لكثرة حبي له.
7) ما تقييمكِ لمشاركتكِ في معرض داخل كلية علوم التربية بجامعة محمد الخامس بالرباط؟ وهل لديكِ رغبة في تقديم ورش أو مقررات فنية مستقبلاً داخل الأوساط الأكاديمية؟
* مع كامل الأسف، الأوساط الأكاديمية لا تحسن معاملتها مع الفنانين الرواد الموجودين على الساحة الفنية الوطنية، بل يذهبون إلى ما هو أبعد من ذلك ويستضيفون الفنانين المعروفين عالميًا ويقصّرون في دعم من هم داخل الوطن.
إن مشاركتي في كلية علوم التربية بجامعة محمد الخامس في الرباط، في إطار الملتقى الدولي التاسع للتربية الجمالية تحت شعار: “الفضاء العمومي؛ تربية – فن – ثقافة”، كانت لافتة، لكن مع كامل الأسف لم تستوفِ الشروط المطلوبة لإنجاح هذه التظاهرة الحساسة. لم يُحترم الفن التشكيلي المغربي، خاصة الفنانون التشكيليون الوافدون للمشاركة من خارج الكلية، إذ لم يلقوا حسن الاستقبال والضيافة والكرم، بل تم تهميشهم وكأنهم طلاب الكلية فقط، وهذا أمر مخجل.
كما أن بناية الكلية من حيث التصميم الهندسي لا تتوفر على قاعة معارض أو متحف بالمعنى المتعارف عليه دوليًا، بل كانت مجرد أقسام دراسة تحولت إلى قاعة عرض، وتم عرض اللوحات الفنية بشكل مخجل على الكراسي، وكأن الفنان التشكيلي عاد ليكون طالبًا. ينبغي على الكلية أن تقتني الأعمال الفنية من العارضين التشكيليين، لتأسيس متحف حقيقي يلمس الفن التشكيلي المغربي ويحافظ على ذاكرته.
8) كيف استطعتِ أن توفّقي بين عملكِ المهني كمستشارة في القطاع المصرفي ومساركِ الفني؟
* أنا بالفعل أحب عملي وأتقنه جيدًا، وأعمل في البنك كمدققة حسابات، وهي مهمة صعبة حقًا ومسؤولية كبيرة. هذه المهنة تتطلب مني دائمًا السفر من مقر إلى آخر، ومن بنك إلى بنك آخر في كل المدن المغربية، وهذا ما يجعلني أحمل معي دائمًا في سيارتي أدوات الرسم، لأستغل أوقات الفراغ في ممارسة موهبتي المفضلة: الرسم والتلوين. كما أنني مضطرة أن أرسم لأفرغ وأتنفس عن ذاتي بعد قضاء يوم شاق من العمل في تدقيق الحسابات المصرفية.
9) كثير من الناس لديهم مواهب دفينة لا يعملون بها لأنهم يظنون أن الأوان قد فات. من خلال تجربتكِ، ما الرسالة التي توجهينها لكل من يشعر أن شغفه لا يجد مكانًا وسط مسؤوليات الحياة والعمل؟
* أتأسف حقًا على بعض النساء اللواتي قتلن مواهبهن في سن الطفولة، كما ماتت أحلامهن الجميلة، وأحيانًا تكون ظروف العيش لا تساعد على تحقيق ذلك، أو لأنهن سلكن مسارًا مهنيًا وتخلين عن مواهبهن، فأصبحت مع الأيام دفينة.
وحسب رأيي الشخصي، الفنان الحقيقي يولد ليكون فنانًا في جميع الأجناس الفنية والأدبية، ومهما كانت الظروف لا يرفع الراية البيضاء، بل يستمر حتى نهاية الطريق في مشواره الفني.
10) برأيكِ، كيف تطوّر حضور المرأة في الساحة الفنية التشكيلية في المغرب والوطن العربي؟ وهل ما زالت هناك تحديات تواجه الفنانات؟
* تشهد الساحة الفنية التشكيلية الوطنية داخل المملكة المغربية حضور المرأة وبشكل قوي في قاعات المعارض والملتقيات والمهرجانات الثقافية والفنية.
المرأة المغربية أخذت المشعل، وأصبحت تدرس تاريخ الفن في الجامعات والأكاديميات المغربية، كما حصلت على مراتب متقدمة من العلم والمعرفة من عدة أكاديميات دولية، كجامعة السوربون بباريس.
والمرأة عمومًا، سواء كانت ترسم بالفطرة أو كانت عصامية أو لها تكوين أكاديمي، أراها مميزة وأعطت الكثير للمشهد التشكيلي ولتاريخ الفن الوطني، عن طريق الفنون المشهدية وترسيخ ثقافة الصورة البصرية، لأنها تبلغ رسائل قوية وفعالة.
11) من وجهة نظركِ، إلى أي مدى يستطيع الفن التشكيلي اليوم أن يُعبّر عن واقع المرأة، بل ويُسهم في التأثير على وعي المجتمع ودفعه نحو تغيير واقعها إلى الأفضل؟
* المرأة المغربية عبّرت وبكل حرية عن وجهة نظرها في مختلف الفنون والأجناس الأدبية الأخرى، وكانت حقًا عنصرًا مؤثرًا في المجتمع المغربي.
12) من هو الفنان أو الفنانة التي تعتبرينها قدوتكِ، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي؟
* لقد تأثرت بالعديد من الفنانين التشكيليين العالميين والدوليين، منهم:
Vincent Van Gogh، Jackson Pollock، وPaul Kenton.
أما الأسماء الوطنية فهي: حسن البخاري، محمد زوهر، عبد الله الونصفي.
كل هؤلاء استفدت من تجربتهم الفنية، والبعض منهم ساعدني في تنظيم معارض جماعية، كمحمد زوهر الذي أعتبره بمثابة الأخ الأكبر.
أما أعمال الفنان العالمي Vincent Van Gogh فقد أثرت فيّ كثيرًا أثناء سفري إلى بريطانيا صيف سنة 2015، وكانت هذه الأعمال جد رائعة، إذ عرضت في أحد الأروقة المهمة.
13) أين تجدين الإلهام عندما تشعرين بالضياع الفني؟ وكيف تُعيدين شحن طاقتكِ الإبداعية؟
* إن الإلهام متراكم في وعيي انطلاقًا من المعارض الجماعية التي أشاهد فيها أعمال التشكيليين المغاربة، وكذلك من خلال منصات التواصل الاجتماعي. والهاتف الذي نحمله اليوم يحتوي على كل شيء، فقط عليك اختيار الطريق الذي يعطيك المزيد والمزيد.
14) هل هناك قصة خاصة وراء إحدى لوحاتكِ، ترغبين في مشاركتها معنا؟
* صدق من قال: “وراء أي صورة أو لوحة قصة”. هناك لوحة رسمت فيها شخصيتين نسويتين جالستين، تتأملان وتنظران إلى اللامنتهى، وكنت أقصد بذلك أن أختي هي سندي الوحيد بعد وفاة والدي. لكن اللوحة تجمع بين مرحلتين: مرحلة قبل وفاة أبي، والمرحلة الثانية بعد ذلك.
15) ما هي مشاريعكِ المستقبلية؟ وهل هناك معرض قادم ينتظرنا؟
* مشاريعي المستقبلية عديدة، منها تقديم طلب — إن شاء الله — لتنظيم أول معرض فني لي، لأنني أتوفر على عدد مهم من الأعمال الفنية التي فاقت المئات. وأتمنى أن يكون هذا المعرض من اختيار الفنان التشكيلي المغربي محمد زوهر الذي أثق في مؤهلاته الفنية، لأنه يحسن اختيار الأعمال الفنية، وكذلك وضع عناوين معينة تربطها. كما أطمح لطباعة كتالوج فني يجمع سيرتي الذاتية والفنية مع صور أعمالي، وتنظيم مزيد من المعارض الجماعية في الملتقيات والمهرجانات الهادفة التي تخدم الفن بإخلاص.
16) بعد مشاركاتكِ الناجحة في معارض داخل المغرب، هل تخططين للانتقال بفنكِ إلى المستوى العالمي؟ وكيف تستعدين لتحقيق هذا الحلم؟
* أعمالي الفنية أصبحت معروفة فعلًا داخل وخارج المغرب بفضل وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة، فهي أدوات إعلامية فعّالة في إيصال الرسائل بسرعة فائقة. رغم ذلك، لابد من وضع خريطة طريق للوصول إلى العالمية، ولابد أيضًا من المؤسسات أن تساعد على ذلك، خاصة فيما يخص التنقل والإقامة. يجب أن تساعد الدولة الفنان في نشر ثقافته، ونشر الهوية والثقافة المغربية من خلال الفن.
17) وأخيرًا، ما رأيكِ في الملتقيات الفنية والأدبية، وخصوصًا ما يقدمه ملتقى الشعراء العرب برئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد؟
* إن ملتقى الشعراء العرب، برئاسة الشاعر والناقد الكبير ناصر رمضان عبد الحميد، الذي ناقش وقدم العديد من الأعمال الفنية في كل المجالات — الشعر، القصة، والرواية — هو ملتقى يحتذى به.
هذا الملتقى استطاع أن يجمع بين الأمة العربية والإسلامية في ديوان “مدارات الحب” الذي ضم 235 شاعرًا وشاعرة عربية، يتغنون جميعًا تحت راية المحبة والسلام وثقافة التسامح، وهو ملتقى يشجع الأقلام المتعطشة، والأقلام الشابة الصاعدة.