- البنية الشعرية بين الغياب والحنين: قراءة في ديوان تنهيدة في ذاكرة المعنى لمريم شمس الدين
مقدمة
مريم شمس الدين شاعرة لبنانية من مدينة صور، مدينة البحر والتاريخ والجمال، تنتمي إلى وطن الأرز الذي منح الإنسانية أصواتًا شعرية خلّدت الإبداع في سماء الثقافة العربية. تمتاز بقدرتها على المحافظة على الإيقاع الخليلي الأصيل والبحور الشعرية بمهارة فائقة، فجاء لفظها سلسًا ينساب كالماءِ، ومعناها قريبٌ للعقل والوجدان، دون أن يخلو من عمق دلالي يلح في النفس.
وقد انضمّت مؤخرًا إلى ملتقى الشعراء العرب، وأسهمت معنا في موسوعة مدارات الحب، كما تشارك في مجلة أزهار الحرف، مؤكدة حضورها الشعري الراسخ بين الأصوات العربية الجديدة.
وإلى جانب فرادتها الإبداعية، فهي قريبة نسبًا من الشاعر اللبناني الكبير محمد علي شمس الدين، أحد أبرز وجوه الشعر الحديث في العالم العربي، وهو ما يضيف إلى حضورها بُعدًا رمزيًا وثقافيًا يعمّق جذور انتمائها إلى تراث شعري راسخ، خصوصًا وأننا استضفناه سابقًا وحاورناه في مجلة أزهار الحرف ونشرنا له الكثير من نصوصه في حياته
وقابلته في دار الأوبرا بالقاهرة وخصصتُ له دراسة في أحد كتبي بعد وفاته*
إن شعر مريم شمس الدين ينهل من نبعٍ عربي صافٍ، ويستمد من روح لبنان، بلد الأرز والجمال، طاقةً تجعل القصيدة عندها مساحة لقاء بين الوجدان والرمز، بين الإيقاع والموقف، وبين الحنين الذي لا ينطفئ، والأمل الذي يتجدد.
يشكّل ديوان “تنهيدة في ذاكرة المعنى” للشاعرة مريم شمس الدين تجربة شعرية تنبني على جدلية الغياب والحضور، والحنين والمنفى، حيث تتداخل الذاكرة الفردية مع الهمّ الجمعي، ويتحوّل الحزن الشخصي إلى طاقة رمزية تفتح النص على أفق إنساني أرحب. ومن خلال مطالعة الديوان يمكن تلمّس ملامح التجربة الشعرية التي قامت على صور مكثفة، وإيقاع داخلي متوتر، وحقول دلالية مهيمنة كالليل، البحر، الغياب، والذاكرة.
العنوان “تنهيدة في ذاكرة المعنى” يتأسس على ثنائية:
التنهيدة: فعل جسدي/نفسي يحيل إلى الألم والبوح.
ذاكرة المعنى: تركيب يوحي بأن المعنى ذاته يمتلك ذاكرة تحفظ التجربة الإنسانية.
إذن، العنوان يجمع بين الوجدان والمعرفة، بين البعد الانفعالي والبعد الدلالي، ليكشف أن الكتابة عند الشاعرة ليست مجرّد زخرفة لفظية، بل بحث عن الخلاص عبر اللغة.
يدور الديوان حول عدة محاور:
أو ما يسمى بالمحاور الدلالية في الديوان
1. الحزن والغياب
يتصدّر هذا المحور الديوان، حيث يتحول الموت والفقد إلى لغة شعرية مكثفة:
> “يا دامعَ الموت في جلباب ضحكته / اكتم محاجرك الغنّاء في السُقْم”
> “شحوبٌ يجوبُ الآنَ أوطانه الغرقى / ولا يملكُ البحرَ المسمّى ولا الأفْقا”
النصوص الدالة: موت ساهر، الغامض من الحزن، وطن بتوقيت الظلام، المثوى الأخير، رجفة الذاكرة، عزلة، نجوى الفراغ، ليل على شفة السين، ما نسيه الظمأ
2. الحنين والذاكرة
الذاكرة في الديوان ليست مجرد استدعاء للماضي، بل فعل مقاومة للنسيان، وانتماء إلى جذور ثقافية وشعرية:
> “نسيتُ نفسي وراء الشعر ألمحها / ظلًّا بظلٍّ، وفتوى الجوع تنساني”
> “ورحت أفتح للسيّاب نافذة / يطلُّ منها على أوجاعِ لبنان”
> “ورحت أقرأ عن جبران أغنية / كأنها لؤلؤ من وحي سلطان”
النصوص الدالة: حنين، رجفة الذاكرة، سفر، ما فعله الضياع، حديث الماء، قيامة الجدول، على باب الشمس، الفصول في ندائها المضني.
3. الحب والمنفى الداخلي
الحب في الديوان يتخذ بُعدًا وجوديًا أكثر منه عاطفيًا، إذ يقترن بالقلق والغربة:
> “أحتاج ذاكرة ترتاح في سفري / حيث الجهات تصلّي نبض نقصاني”
> “به رغبةٌ أن يلبَسَ البحرُ صوتَهُ / لينجو وقد عرّى النداءَ من الغرقى”
النصوص الدالة: رسالة إلى الحبيب، عطفا على الغربة الأولى، ما بين نارين، قلق، تعويذة الحلم، وصايا الحوس، سهر شغوف، تنهيدة في ذاكرة المعنى.
4. الشعر كخلاص
الشاعرة تجعل من الشعر وسيلة لتجاوز العجز والأسى، ومجالًا للبحث عن معنى جديد:
> “أحتاج أجوبة لغيث الأسئلةْ / كل الدروب إلى الغيوم مبللةْ”
> “إن أمطرتْ لغة الحنين بداخلي / هطلتْ مسافات اليراع مدللةْ”
النصوص الدالة: رسائل الشعر، روح تشرق من جهة الأسئلة، الشاعر، تسبيحة الفطرة، تغريدة الورد، تفاؤل، الياء والنون في سيرة الورد.
ومن المحاور ننتقل إلى البنية الفنية
للديوان :
1. اللغة: يهيمن عليها التشخيص والاستعارة الكثيفة (المعنى له ذاكرة، الموت يرتدي جلبابًا، البحر يلبس صوتًا).
2. الإيقاع: يعتمد على التوازي التركيبي، والتكرار (أحتاج، نسيت، رحت)، مما يخلق موسيقى داخلية متوترة.
3. الرمز: تتكرر مفردات الماء (البحر، الموج، الشاطئ)، والليل (العتمة، الغروب، القمر)، والحنين (التنهيدة، الذاكرة، الغربة)، لتشكّل شبكة من العلامات المترابطة.
في النهاية :
إن ديوان “تنهيدة في ذاكرة المعنى” لمريم شمس الدين ينفتح على أسئلة الوجود والغياب، ويجعل من التجربة الفردية فضاءً للتعبير عن قلق إنساني شامل. تتوزع نصوصه بين الحزن والحنين والحب والشعر، وتربطها بنية رمزية ولغوية موحّدة، تجعل من الديوان عملًا شعريًا متماسكًا، يقوم على تحويل الألم إلى معنى، والغياب إلى حضور شعري لا يُمحى.
___
*محمد علي شمس الدين (1942–2022): وُلد في بيت ياحون (جنوب لبنان) وتوفّي في عربصاليم. شاعر لبناني بارز، من رواد الحداثة الشعرية منذ السبعينيات.
من دواوينه: قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا، أميرال الطيور، غرباء في مكانهم، منازل النرد، إضافة إلى أعماله الكاملة التي صدرت في جزأين، ودواوين أخرى مثل يحرث في آبار وغيوم في الضواحي.