د. سارة مرزوق الأزوري
أناقة الفكر قبل أناقة الشكل
قد يلمع الثوب على الجسد كما يلمع الطلاء على الجدار، فيخدع العين لحظة ويستعير إعجابًا عابرًا، لكن سرعان ما ينطفئ البريق حين يتكلّم صاحبه أو يتصرّف. هناك، يتبيّن الفارق الجوهري: بين من يملك زينة العقل ومن يكتفي بزينة القماش. إن أناقة الشكل أشبه بزهرة في كأس ماء؛ جميلة، لكنها سريعة الذبول، بينما أناقة الفكر شجرة تضرب جذورها في التربة، وتظلّ تمنح ظلّها وثمرها مهما تعاقبت الفصول.
هذه الأناقة ليست رفاهية ثانوية، بل هي ما يمنح للإنسان قيمته. فهي التي تجعله رفيقًا مريحًا، ومخاطَبًا يبعث الطمأنينة، وصوتًا حين يُسمع يُنصت إليه. وقد يُولد المرء وفيه بذرة من هذا الرقيّ، شيء من الرهافة يجعله أكثر ميلًا للتهذيب وحسن المعاملة. غير أن البذرة وحدها لا تكفي. لا بدّ لها من ماء التجربة، ومن شمس الصحبة الطيبة، ومن هواء القراءة والمعرفة. عندها فقط تتحول الموهبة الغامضة إلى سلوك واضح، إلى بصمة فكرية لا تخطئها الأرواح.
ومن يتأمل وجوه الناس يُدرك أن الأناقة الفكرية ليست للجميع. فكم من مُتعلّم يحمل شهادات عُليا، لكنه إذا تحدّث فضحته قسوة اللسان أو ضيق الأفق. وكم من إنسان بسيط التعليم، لكنه يفيض بلباقة وكرم معنى، حتى يدهشك عمق حكمته وسعة صدره. فالمسألة ليست في تراكم المعارف، بل في طريقة تحويلها إلى سلوك: أن تتحدث بلطف، أن تستمع بصدق، أن تُعارض باحترام، وأن تترك للآخرين متسعًا ليكونوا كما هم.
وإذا لم يُرزق أحدهم هذه الأناقة منذ البداية، فما زال الطريق أمامه مفتوحًا. يكفي أن يبدأ بترويض نفسه على الإصغاء، أن يدرّب لسانه على الكلمة المهذبة، وأن يتعلّم فنّ الصمت الذي يمنح للفكرة وقتًا لتنضج قبل أن تُقال. ويكفي أن يجاور أصحاب السجايا الرفيعة، لأن الأرواح تتهذّب بالمعايشة كما يتهذّب الطبع بالمراس. عندها يكتشف أن الأناقة ليست موروثًا جامدًا، بل سعيًا مستمرًا لتجميل الداخل، حتى يشرق أثره على الخارج.
قد يقال إن الملبس يعرّفنا أولًا إلى الناس، وهذا صحيح. لكن الفكر هو الذي يُبقي الصلة حيّة أو يقطعها. الثوب يثير الفضول، أما الكلمة فتزرع الاحترام. القماش يُبهج العين، أما الفكرة فتُسكّن القلب أو تُشعل فيه نفورًا. ولعل أجمل ما في الأناقة الفكرية أنها لا تبلى مع الزمن؛ بل إن صاحبها كلما تقدّم به العمر ازداد بهاءً، لأن نضج التجربة يضاعف رقيّه، بينما الثياب لا تزيد مع السنين إلا بُلى.
إن العالم الذي نعيشه اليوم غارق في صورٍ متجددة وأزياء متغيرة، حتى ليخيّل إلينا أن القيمة كلها في المظهر. غير أن الزمن، في النهاية، لا يُبقي سوى على ما لا يُشترى: على الفكرة الرفيقة، واللسان العادل، والنظرة الرحيمة. هذه هي الزينة التي تُخلّد الإنسان في ذاكرة من عرفوه، لا لأنهم رأوه أنيق الثياب، بل لأنه كان أنيق الروح، مهيب الحضور، لا يحتاج إلى بهرجة كي يُقنع، ولا إلى زخرف كي يُحبّ.