«حلم البداية»: دراسة هيرمينوطيقية–أسلوبية–رمزية في بنى الرغبة والذاكرة عند آمال صالح:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
– مقدمة:
تقدم قصيدة «حلم البداية» للشاعرة التونسية آمال صالح نموذجاً شعرياً يراوح بين الحلم والنية والذاكرة، وهي نصٌّ يعلن عن فعل امتلاكٍ رمزي للّحظة الأولى، وفي الوقت نفسه يبوح بمآزق الوجود واللغة. هدف هذه الدراسة هو إجراء قراءة نقدية تحليلية موسَّعة تعتمد مناهج الهيرمينوطيقا التأويلية، والتحليل الأسلوبي، والتحليل الرمزي، مع غوص موازٍ في البُنى النفسية للشاعرة، ثم مقارنة صوتها بشواهد شعرية نسوية عربية (فدوى طوقان ونازك الملائكة) لإبراز فرادتها الصوتية والدلالية.
–الإطار النظري والمنهجي
1. الهيرمينوطيقا التأويلية: نتعامل مع النص كحوار أفقين (أفق الشاعرة — أفق القارئ) وفق تصور هرمنيوطيقي غاداميري/ريكووري؛ أي أن المعنى يولد في عملية التفاعل المستمر بين مسبقات القارئ وسيرورة النص.
2. التحليل الأسلوبي: نركز على بنى اللغة، التصوير الحسي، الإيقاع الداخلي والتكرار، وأثرها في تشكيل خبرة التلقي.
3. التحليل الرمزي: نقرأ العلامات (الوردة، الياسمين، الدائرة، الحبر، فيروز…) كشبكة دلالية لا مجرد زينة لغوية.
4. التحليل النفسي التأويلي: نستعين بمفاهيم الذاكرة، الشوق، الرغبة والمرآة النفسية لفهم الضمائر النفسية التي تقود النص.
— قراءة شاملة: عنوان النص ولازمته الدلالية:
العبارة المتكرِّرة «حلم البداية» تعمل كلازمة طقسية؛ هي مرساة نقدية ونغمة عاطفية، تفتح كل مقطع وتعيده إلى مركز الحلم أو البدايات الممكنة. البدايات هنا ليست مجرد زمن بداية خطّي، بل فعل استعادة «نقطة أصلية» أخلاقية/وجدانية تبحث الشاعرة عنها أو تردد نداءها. الحلم يعمل كآلية دفاع نفسية وكاستراتيجية خطابية من أجل استئناف الوجود وإضفاء براءة ممكنة على العلاقة بالآخر.
— التحليل البنيوي والأسلوبي (تفكيك المقاطع):
_ المقطع الأول: «حلم البداية / هي كلمات تتعثر… تخرج من الدائرة».
_ منهجية الشكل: يبدأ النص بصورة لغوية حركية — كلمات «تتعثر» و«تراهن» و«تستبق» — ما يمنح البدايات شكل محاولة تتخبط وتقاوم الجمود.
_ دلالة الحبر والمحبرة: الحبر رمز للكتابة ولقدرة اللغة على الإمساك بالذات؛ وصف الحبر بالغدر يكشف ثنائية: رغبة الكتابة وإخلال الوسيلة ذاتها بحلم التعبير. «المحبرة» كحامل للغة تصبح ساحة خيانة أو عبء.
_ الدائرة: دال رمزي مزدوج؛ دائرة الألفة أو الحلقة المغلقة للعادة، والخروج منها شعار للتمرد على النمط والذاكرة الحبيسة.
_ المقطع الثاني: «هي ابتسامة بريئة… تحلم برائحة الياسمين».
_:البراءة والعتاب: الابتسامة «البريئة» و«تعاتب مرّ الأيام» تخلقان توتراً بين نقاء الرغبة ومرارة التاريخ اليومي. العتاب هنا ليس لوماً قطعياً بل استدعاء لعذوبة مفقودة.
_ الياسمين: علامة حسّية للحنين والمكان المتخيَّل؛ هوارة العطر تعود بالنص إلى ذاكرة مكانية-عاطفية، وتهدِّئ رُوح الحلم.
_ المقطع الثالث: «أننا نرق دوما… نحاذي المستحيل ولا نتعب».
الترقُّب كعمل وجودي: الفعل «نرق» لا يعني مجرد البكاء بل يشير إلى حالة حسّية دقيقة من الانكسار والانتظار.
_ المستحيل كحافز: مواجهته ليست استسلاماً بل فعل إصرار؛ ههنا نصٌ يؤكد أن الحلم هو مقاومة وليس هروباً.
_ المقطع الرابع: «أن نفرح… خلق الفرح لنا»
_ الفرح كمصنع: الفرح يصاغ هنا كفعل إبداعيّ «خلق الفرح لنا»، أي ليس واقعاً جاهزاً بل يُنتَج. هذا تحويل فعلي من حالة سلبية إلى فعل مبادر.
الضحكات تغازل أصواتنا: الصورة تنقل فكرة التعدد الحسي للسرور؛ الضحك ليس حدثاً منفرداً بل علاقة صوتية متبادلة.
_ المقطع الخاتمي: استدعاء فيروز و«ألف ليلة وليلة».
_ الموروث الثقافي: إدخال أغنية فيروز ونصوص من التراث العربي (ألف ليلة وليلة) يفتح مسافة انصهار بين الخاص والجماعي؛ الشاعرة تُرسِّب تجربتها في ذاكرة جماعية مشحونة بالحنين.
_ الشرقية والخيال: الإشارة إلى «الشرقية» ليست مجرد تصنيف جغرافي بل أفق خطابٍ رومانسي/خيالي يختزن رموز الحب والأسطورة.
— التحليل الرمزي: قراءة علامة بعلامة
1. الـ«بداية»: ليست مجرد زمنية، بل استعارة للبكارة الوجدانية وإمكانية إعادة البناء.
2. الحبر/المحبرة: اللغة ووسائطها؛ غدر الحبر يعني خيبة أدوات التعبير، وربما يلمّح إلى تجربة كتابة مُخيبة أو علاقة كلامية أُساءت فيها النوايا.
3. الياسمين/الورد: رموز نقاء ونشوة، لكن «الورد الصارخ بلونه» يشي بحضور مبالغ فيه للمنظر الجمالي، أي جرح بين الرؤية والحقيقة.
4. الدائرة: قيد تاريخي/نمطي يجب كسره.
5. صوت فيروز: قوة ذاكرة موسيقية تربط الفرد بالمجتمع، وتعمل كجسر بين الحلم والحياة اليومية.
—البُنى النفسية: سمات نفسية مستخلصة من النص:
1. الحنين كقوة منظِّمة: الحلم هنا وسيلة تنظيم نفسي للتعامل مع فقدان معطيات الأمان.
2. الطفولة/البراءة كأساس رغبوي: الرغبة في العودة إلى «ابتسامة بريئة» كشكل دفاعي ونبيل ضد قسوة العالم.
3. الإصرار الأنوثي: «نحاذي المستحيل ولا نتعب» تُجسد قدرة فاعلة على المثابرة والصمود، وهي صورة لذات شعرية تسعى للتأسيس.
4. الترميم الرمزي: صناعة الفرح وإعادة التدوير الوجداني (الذاكرة → الحلم → الفعل) تُظهر رغبة علاجية تحول الألم إلى طاقة إبداعية.
—المقارنة مع صوتين نسويين عربيين: فدوى طوقان ونازك الملائكة،
أ. فدوى طوقان.
ملازمة الحنين والمقاومة: مثل آمال صالح، تحضر فدوى ذاكرة وحنين، لكن تبدو فدوى أكثر مباشرة في مطالبتها بالتحرر السياسي والذاكرة الجماعية، حيث يمتزج الحلم بالمرارة الوطنية. آمال صالح أقرب إلى العالم الداخلي الحميمي، بينما طوقان توسع البؤرة إلى السياسي والوجودي.
_؛اللغة: لغة طوقان تحتمل صرامة بيانٍ أقوى، في حين لغة آمال تميل إلى اللين الموسيقي والطيش الانفعالي.
ب. نازك الملائكة:
التجريب والإيقاع: نازك معروفة بكسرها للأوزان وبحثها عن شكل عصري؛ تشترك آمال مع نازك في سعيهما لتحديث التجربة الشعرية، لكن آمال تميل للرمزية الحسية والنوستالجيا أكثر من المغامرة