ألفت جميل السيد علي: أختي الكبرى وملاذ أيامي الصعبة
عرفت في حياتي نساء كثيرات، لكن قلّ أن تلتقي بامرأة تحمل في قلبها ما تحمله ألفت جميل السيد علي من محبة وكرم وصدق. اسمها “ألفت” لم يكن مجرد حروف، بل كان هوية كاملة؛ فهي الألفة والأنس والمودة، ومن اسمها أخذت نصيبها الأوفى.
تعرفت إليها أول مرة في صالون الأستاذة سلوى المراسي، وكانت تلك الأيام تسبق ثورة يناير بوقت قصير. بدت لي منذ اللحظة الأولى مختلفة؛ لم تكن مجرد مصممة أزياء بارعة الذوق وحساسة الروح، بل كانت سيدة فاضلة وكريمة معطاءة، ترى الآخرين بعين الأخوة لا بعين الغريب.
ثم توالت اللقاءات في نادي النصر، وهناك اكتشفت وجهها الإنساني أكثر. لم تكن تأتي بمفردها فقط، بل كانت دائمًا تحمل معها ما يكفي من الطعام، ليس لها وحدها، بل لخمسة أشخاص أو أكثر، وتصر على أن أشاركها. كنت أرى في عطاءها ما يتجاوز المائدة، كانت تشعر بي كأني أخوها الأصغر، وتصر أن أكون شريكًا لها فيما عندها.
جاءت ثورة يناير وانقلبت حياتي رأسًا على عقب كما يقال، وكنت في تلك الفترة أمر بظروف عصيبة، ماديًا ومعنويًا، أثقلتني الهموم وأرهقتني الأيام. وكنت أبحث عن شقة صغيرة للإيجار، بيت يأويني ولا يرهقني، ولم يكن معي من المال شيء. لم أطلب منها مالًا، لكنني بحكم الأخوة صارحتها بما أمرّ به، فإذا بها تفاجئني بقولها الحاسم:
“لا تقلق… الشقة موجودة.”
قالتها وكأنها تحمل مفاتيح النجاة. وأردفت أن لديها شقة في المقطم لا تحتاجها، وستعطيني إياها بالمبلغ الذي أستطيع دفعه، أيًا كان، حتى لو كان زهيدًا. لم يكن هذا موقف كرم عابر، بل كان إنقاذًا حقيقيًا لحياتي في تلك اللحظة.
وذات يوم، جاءت لزيارتي في شقتي، فوجدتها خاوية على عروشها إلا من بعض الأثاث البسيط وسرير للنوم. لم أطلب منها شيئًا، لكنها نهضت على الفور، وعادت من شقتها القريبة في المقطم تحمل غسالة وفرشًا وأشياء أخرى. يومها شعرت أنني لم أعد وحدي في مواجهة قسوة الحياة؛ لقد منحتني إحساس الأخوة والطمأنينة، وكانت بالنسبة لي أختي الكبرى التي لم تلدها أمي.
لم تبقَ الأيام على حالها. فكما حملت في طياتها العسر، أهدتني بعد حين من اليُسر. عدت إلى عملي وتحسنت ظروفي، ونلت نصيبي من ميراث والدي، فاشتريت شقة جديدة وبدأت حياتي تعود إلى مسارها الطبيعي. ومع ذلك، لم أنسَ يومًا فضل ألفت جميل السيد علي، فقد كانت سندًا حقيقيًا لي حين عجز الجميع، وأملًا يضيء عتمة وقتٍ كدت أفقد فيه نفسي.
ثم جاء يوم الرحيل، ورحلت ألفت الطيبة عن عالمنا، في 10/2022 شعرت حينها أن جزءًا من حياتي قد انطفأ، وأنني فقدت أختي الكبرى التي لم تلدها أمي. كنت أردد في نفسي أن رحيلها لا يعني غيابها، فذكراها تعيش في كل تفصيل من ملامح حياتي، وفي كل لحظة ضعف تجاوزتها بفضلها.
وفي إحدى الرحلات إلى شرم الشيخ، جمعتني المصادفة بأخيها الأستاذ وجيه، الرجل الأنيق الجنتلمان، الذي كنت قد تعرفت إليه من قبل في إحدى ندوات صالون المراسي. وكانت هي نفسها قد حدثتني عنه؛ عن سنواته في إيطاليا، وزواجه هناك، ثم استقراره أخيرًا في القاهرة.
عندما التقيته هذه المرة، لم أملك إلا أن أطلب منه صورة لها، صورة تبقي ملامحها حاضرة في ذاكرتي كما كان دفؤها حاضرًا في حياتي. فأوفى طلبي عن طيب خاطر، ولم يكن طلبي إلا لأفي بوعدي لنفسي أن أكتب عنها، ولو بالكلمة، أقل القليل مما تستحقه.
اليوم وأنا أتذكرها وأتأمل اسمها، “ألفت”، أجد أنه لم يكن مجرد مصادفة لغوية، بل كان نبوءة حياتها. لقد كانت الألفة بعينها، المودة في أبهى صورها، الصداقة التي تتحول إلى أخوة، والكرم الذي يصبح ملاذًا للمحتاج. كان اسمها قدرها، وسيرتها شاهدًا على صدق الاسم والمعنى.
في النهاية: قد تمر الأيام، ونظن أننا تجاوزنا المحن، لكن حين نعود بالذاكرة، ندرك أن وقوف أشخاص بعينهم إلى جوارنا كان هو الفارق بين الانكسار والنجاة. بالنسبة لي، كانت ألفت جميل السيد علي هي ذلك الفارق.
كانت رحمة سخرها الله لي في وقت عصيب، وكانت سببًا في أن أجد سقفًا يظلني وأمانًا يحميني، حتى عبرت إلى برّ الأمان.
ولولا أن الله سخرها لي في ذلك الوقت، ربما لم أكن أنا الآن الكاتب والشاعر، وما أنا فيه من نعم يعود إليها.