تحليل وقراءة أدبية بقلم الشاعر الناقد محمد الوداني
في قصيدة “وصيّة فتيل” للشاعر رضا بوقفة، نواجه نصًا شعريًا مشبعًا بالرؤية الفلسفية والرمز الوجودي، حيث تتماهى الذات الشاعرة مع شعلة الشمعة، فتتحول إلى فتيل محترق لا يسأل عن الجدوى، بل يكتفي بالإنارة كفعل خلقيّ سامٍ.
القصيدة تبدأ بجملة مكثفة وموجعة: “سقتني الظلمة وجعًا”، وهي استعارة تكسر التوقع المعتاد للظلمة كحالة سلبية، فتحولها إلى فاعل يسقي الوجع، مما يشي بعلاقة حميمة بين الألم والخلق، بين العتمة والانبعاث. في هذه اللحظة، يولد “فتيل السؤال”، وكأن الصمت هو الوقود الذي يجعل الوجود ذاته موضع تساؤل. يتحول الشاعر إلى “رماد المعاني وصوت الجمال”، مفارقة تشير إلى موت الفكرة النقية وبقاء الأثر، الصوت، الجمال المختنق في رماد الكلمات.
يستحضر الشاعر صورة الشمعة الذائبة، فيقف على رأسها كمن يتماهى مع لحظة فنائه الخاص، لكنه لا يفعل ذلك ضعفًا، بل يهب اللهيب حياة، وكأنه مصدره، لا وقوده فقط. في هذا المشهد، يتحول العطاء إلى فناء، والاحتراق إلى تضحية لا يُلتفت فيها إلى الذات، ما يعكس موقفًا فلسفيًا من الوجود الإبداعي.
في البيت “أنا البذرة المستهلكة في تربة الأمل”، تتجلى صورة الفناء الذي يحمل بذور تجدد. البذرة هنا تحترق وتستهلك في سبيل ولادة أخرى، لكنها أيضًا في “تربة الأمل”، مما يفتح مساحة للرجاء وسط انطفاء الذات.
تستمر الرمزية القوية في قول الشاعر: “ترفرف روحي من نصل الشعاع إلى قمر يحرس الرحيل”. الضوء، وهو نصل قاطع، لا يُقدَّم كمصدر للدفء بل كأداة تجرح، والقمر يحرس الرحيل لا الوصول، مما يوحي بأن كل نور حقيقي يحمل جرحًا، وكل ضوءٍ في القصيدة يواكب الانطفاء، لا التوهج البهيج.
في السؤال الفلسفي: “هل أنا ظل شمعة؟ أم صرخة لهب؟” تتعدد هويات الشاعر، ويتحول إلى سؤالٍ مفتوح لا يبحث عن إجابة بقدر ما يُعمّق الحيرة. صرخة اللهب، رقصة الشهقة، كلها تعبيرات عن لحظة التحوّل بين الحياة والموت، بين الكتابة والاحتراق، بين الذات والصوت.
وفي ختام القصيدة، يقول:
“هكذا أكتبني…
شاعرًا يحترق ليُنير
ولا يسأل العابرين: لمن؟”
هنا تتجلى قمة الرؤية الوجودية للشاعر. هو يحترق بلا حساب، ينير بلا مخاطب محدد، لأن الفعل الإبداعي في ذاته فعل مطلق، لا يُشترط له مقابل، ولا تُطلب له جدوى.
رضا بوقفة في هذا النص لا يكتب مجرد قصيدة، بل يُسائل مصير الشاعر في زمن العتمة، ويضعنا أمام صورة عميقة للذات المبدعة، بوصفها فتيلًا أبديًّا، مشتعلاً في صمت، يحترق كي يُضيء، لا أكثر.
مع تحيات ادارة مجلة غزلان للأدب والشعر والابداع الفني العربي للنشر والتوثيق والقراءة النقدية
وصيّةُ فتيل
سَقَتني الظلمةُ وجعًا
فأوقدتُ صمتي على فتيلِ السؤالْ،
وصِرتُ أنا…
رمادَ المعاني وصوتَ الجمالْ.
وقفتُ على رأسِ شمعةٍ ذائبةٍ
كأنِّي أمنحُ اللهيبَ اشتعالْ،
ألوّحُ للنارِ كي لا تموتَ…
وأنسى احتراقي على مَهَلٍ!
أنا البذرةُ المُستهلَكةُ في تربةِ الأملِ.
ترفرفُ روحي من نَصْلِ الشُّعاعِ
إلى قمرٍ يحرسُ الرحيل،
يا مَن يرى الضوءَ فرحًا
هو لا يعلمُ أن النورَ
دمعةُ شمعٍ تنوحُ في الليلِ الطويل.
هل أنا ظلُّ شمعةٍ؟
أم أنا صرخةُ لهبٍ
يذوبُ ليحيا؟
أم رقصةُ شهقةٍ في لُجّةِ المساءْ؟
هكذا أكتبُني…
شاعرًا يحترقُ لِيُنيرَ
ولا يسألُ العابرينَ: لِمَن؟!
بقلم الشاعر رضا بوقفة شاعر الظل
وادي الكبريت
سوق أهراس
الجزائر
الشعر اللغز الفلسفي