عشتار تنحت ظلي: أسطورة الشعر والحياة في تجربة بليغ عبد الله البحراني
مقدمة
بليغ عبد الله البحراني شاعر سعودي ولد في الظهران عام 1977، وهو ليس شاعرًا فحسب، بل مصوّر فوتوغرافي، ومسرحي، وفاعل تربوي وثقافي واجتماعي، ليشكل بذلك شخصية متعددة الأبعاد. هذا التعدد انعكس في تجربته الشعرية، فجاءت نصوصه مشبعة بالرمز والأسطورة، محمّلة بشفافية الوجد، ومتوهجة بالحس الوطني والوجودي.
ديوانه عشتار تنحت ظلي يمثّل ذروة هذا الوعي الشعري، حيث تتجاور فيه ثيمات الحب، والاغتراب، والأسطورة، والوطن، والقصيدة ذاتها، في بناء لغوي وإيقاعي يمزج بين الكلاسيكية والحداثة.
تحليل العنوان
العنوان “عشتار تنحت ظلي” يلخص الرؤية الجمالية للشاعر:
عشتار: رمز الحب والخصب والأنوثة في الميثولوجيا البابلية.
تنحت: فعل إبداعي يوحي بالتشكيل والخلق والبعث.
ظلي: دالّ على الذات الشعرية، وما يتجاوز الواقع إلى منطقة المجاز.
بهذا التركيب، يعلن الشاعر منذ العتبة الأولى أنه يسعى إلى إعادة تشكيل ذاته من خلال الحب/الأنثى/الأسطورة.
يدور الديوان حول عدة
محاور رئيسة :
1- الحب والعشق
الحب هو المحرك الأساس للقصائد. ففي “تحسدك النساء” يقول:
> “تناسلتِ النِّساءُ من القوافي
وأنتِ الشِّعرُ
تحسُدكِ النِّساءُ”.
الحبيبة هنا ليست موضوعًا شعريًا فحسب، بل هي أصل الشعر ومصدره. وفي “كأس من العشق” نقرأ:
> “كأسٌ من العِشْقِ القديمِ معتقٌ
بزجاجتي.. أخفيتُهُ
وحفظتُهُ.. عن أعينِ العذالِ”.
الحب إذن هو خمر الوجود الذي يمد الشاعر بطاقة البوح.
2- الأسطورة والرمز
الرمز الأسطوري يبرز في قصيدة “ليل المسيح” حيث يقول:
> “(عشتارُ)
يا عشقًا تناسلَ في دمي
شعرًا يطبِّب في المساء مواجعي”.
كما يجمع البحراني بين الأسطورة البابلية والمسيحية والإسلامية، موظفًا يعقوب ويوسف والحلاج، لتأكيد بعد معرفي ثقافي يعمّق النص.
3- الاغتراب والوجع الوجودي
في قصيدة “الحزن العتيق” تتجلى صورة الاغتراب:
> “بيتٌ
من الحزنِ العتيقِ مغلَّفٌ
ومسربلٌ
ومسمَّرُ الأبوابِ”.
الحزن هنا ليس عارضًا، بل بيتًا مغلقًا يسكن الذات، في استعارة وجودية مكثفة.
4- الوطن والانتماء
الانتماء للوطن يظهر ممتزجًا بالحب في قصيدة “كأس ويباب”:
> “والعِشقُ ينمو
على أطرافِ خارطتي
رُغْمَ الفِراقِ
أنا أهواكِ يا وطني”.
الحب هنا لا ينفصل عن الأرض، بل يتجسد فيها.
5- الشعر والذات المبدعة
البحراني شاعر واعٍ بذاته الإبداعية، ففي “ضوء أصابعي” يقول:
> “وأنا
مياهُ الشِّعر تملأُ حِنطتي
والناسُ تغرفُ
من مَعينِ عطائي”.
القصيدة تتحول إلى نهر ينهل منه الآخرون، وتصبح الذات متماهية مع الشعر.
الخصائص الفنية للديوان :
1. اللغة: لغة مشبعة بالصور، تتراوح بين الفخامة التراثية والشفافية العاطفية
2. الموسيقى: تنوع إيقاعي واضح، يجمع بين الأوزان الكلاسيكية والموسيقى الداخلية.
3. الصورة الشعرية: قائمة على الانزياح والتكثيف، مع حقول دلالية متكررة (الماء، الضوء، النبيذ، الليل، الورود).
4. التناص: حضور لافت للموروث الأسطوري والديني والفلسفي، من عشتار وإيروس إلى يعقوب ويوسف والحلاج وديكارت.
في النهاية :
يمثل ديوان عشتار تنحت ظلي تجربة شعرية ناضجة، تتقاطع فيها الأسطورة بالحب، والوطن بالوجع، والشعر بالوجود. البحراني يؤكد من خلاله أنه شاعر يكتب من موقع الوعي بالقصيدة بوصفها كيانًا حيًّا يتجاوز التجربة الشخصية إلى فضاء رمزي واسع.
إنه نص يضيف إلى الشعر السعودي والعربي حضورًا يزاوج بين الأصالة والانفتاح، بين محلية التجربة وعالمية الرمز، مما يجعله محطة بارزة في مسار الشعر المعاصر.