الشاعر أحمد فخر الدين: الشعر بوصفه رسالة وشفاء وتجليًا
(دراسة في أثره الشعري والفكري وتحليل نماذج مختارة من قصائده)
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
[email protected]
المقدمة
في زمنٍ تتنازع فيه الأصوات الشعرية بين الحداثة المتسارعة والحنين إلى الأصالة، يبرز الشاعر المصري أحمد فخر الدين بوصفه صوتًا شعريًا متفرّدًا، يُعيد للشعر العربي المحافظ حضوره الحيوي، ويُزاوج بين الجمال والرسالة، بين الرمز والالتزام، بين الذات والكون. ينتمي فخر الدين إلى مدرسة شعرية تُؤمن بأن الشعر ليس ترفًا لغويًا، بل هو فعلٌ أخلاقي، وصرخة روحية، ونداء إنساني.
هذا المقال يُقدّم دراسة معمّقة لتجربته، من خلال تحليل سيرته الذاتية، وتقييم أثره في الحقول الفكرية، الشعرية، الثقافية، والمؤسساتية، ثم تحليل نماذج مختارة من شعره، تُبرز تنوّع رؤاه، وثراء لغته، وعمق رسالته. ويهدف إلى إبراز القيمة الأدبية والفكرية لتجربته، وتقديمها بوصفها نموذجًا يُحتذى في الشعر العربي المعاصر.
الفصل الأول: المعطيات الأساسية والتكوين العلمي والمهني
أولًا: النشأة والتأثر العائلي
وُلد الشاعر أحمد السيد فخر الدين حسنين عبد الله رزق في العشرين من أكتوبر عام 1973م، في قرية “الدير” التابعة لمدينة “إسنا” بمحافظة الأقصر، جنوب صعيد مصر. هذه النشأة في بيئة ريفية ذات طابع ثقافي وديني عميق، شكّلت البذرة الأولى لتكوينه الشعري، خاصةً في ظل تأثره المبكر بوالده وعمه، وهما من الشعراء المعروفين في الوسط الأدبي المصري.
والده، الشاعر فخر الدين حسنين رزق (1920–2004م)، كان حاصلًا على الشهادة العالمية في تخصص اللغة العربية، وصدر له ديوان “زهر الرياض” عن دار صلاح الدين للطبع والنشر بالإسكندرية عام 1999م. أما عمه، عبد الله حسنين رزق (1913–1963م)، فقد لُقّب بشاعر الإسكندرية، وكان يُلقي قصائده أسبوعيًا في إذاعة الإسكندرية، وله ديوان “نجوى المنى” الصادر عام 1938م، بمقدمة كتبها الشاعر خليل شيبوب، الذي بدوره حظي بمقدمات من أحمد شوقي وخليل مطران.
هذا الإرث الشعري العائلي يُعدّ من أبرز المؤثرات في تكوين أحمد فخر الدين، إذ ورث عنهم الحس اللغوي، والالتزام الأخلاقي، والقدرة على التعبير الشعري الرصين، مما جعله يُطوّر تجربته الخاصة ضمن تيار الشعر المحافظ.
تقييم نقدي: إن نشأة أحمد فخر الدين في بيئة شعرية أصيلة، وتفاعله المبكر مع رموز أدبية داخل أسرته، منحاه عمقًا وجدانيًا ومعرفيًا، يُعدّ أساسًا لتكوينه الشعري المتماسك، ويُفسّر ميله إلى الشعر المحافظ ذي الطابع التربوي والوجداني.
ثانيًا: التكوين الأكاديمي
درس أحمد فخر الدين اللغة الفرنسية وآدابها في كلية الآداب بجامعة المنيا، وتخرج عام 2002م، ثم التحق بكلية التربية بجامعة الأزهر الشريف بالقاهرة، حيث حصل على دبلوم الدراسات العليا. هذا التكوين الأكاديمي المتعدد بين اللغات والعلوم التربوية أتاح له أدوات تحليلية ولغوية متقدمة، انعكست في شعره من خلال التراكيب المحكمة، والتوظيف الرمزي، والانفتاح على ثقافات متعددة.
تقييم نقدي: يُظهر التكوين الأكاديمي للشاعر قدرة على المزج بين الحس الجمالي والوعي التربوي، مما يُضفي على شعره طابعًا تعليميًا وأخلاقيًا، دون أن يُفقده جماليته الفنية. كما أن دراسته للفرنسية تُشير إلى انفتاحه على آفاق شعرية غير عربية، ما يُثري تجربته ويمنحها بعدًا مقارنًا.
ثالثًا: الخبرة العملية
تنقّل أحمد فخر الدين بين مجالات متعددة: بدأ بتدريس اللغة الفرنسية، ثم عمل في إدارة المكاتب الأمامية بفنادق البحر الأحمر، ثم بفنادق شركة “سيليكشن تورز” العائمة، وصولًا إلى تأسيس شركته الخاصة “كرييتيف للصيانة” وتوليه رئاستها.
هذه التجربة المهنية المتنوعة تُظهر شخصية عملية، قادرة على التكيف، وتُعكس في شعره من خلال حضور الإنسان العامل، والهمّ اليومي، والوعي بالتحولات الاجتماعية. كما أن عمله في السياحة أتاح له تفاعلًا ثقافيًا واسعًا، مما يُفسّر انفتاحه على قضايا الأمة والهوية.
تقييم نقدي: الخبرة العملية للشاعر تُضيف إلى تجربته الشعرية بُعدًا واقعيًا ومعرفيًا، وتُعزز من قدرته على التعبير عن الإنسان في مختلف حالاته، دون أن ينفصل عن قضايا الوطن والأمة. كما أن هذه التجربة تُرسّخ صورة الشاعر المثقف العامل، لا المنعزل في برج عاجي.
الفصل الثاني: الانتماء الثقافي والمؤسساتي
أولًا: الجمعيات والأندية الأدبية
يُعدّ الشاعر أحمد فخر الدين من أبرز الشعراء المحافظين الذين انخرطوا في العمل الثقافي المؤسسي، حيث شارك في تأسيس جمعية “واحة أمير الشعراء للشعراء المحافظين” بالقاهرة، وعضو في لجنة الشعر التابعة لها، مما يُشير إلى دوره القيادي في توجيه الحركة الشعرية المحافظة داخل مصر. كما أنه عضو عامل في رابطة الأدب الإسلامي العالمية – مكتب مصر، وهي من أبرز المؤسسات التي تُعنى بالشعر ذي البعد الأخلاقي والديني.
هذا الانتماء لا يُعدّ شكليًا، بل يُعبّر عن التزامه الفكري والجمالي، ويُعزّز من حضوره داخل تيار شعري يُركّز على الهوية، والرسالة، والبعد التربوي.
تقييم نقدي: يُجسّد انخراط أحمد فخر الدين في هذه الجمعيات التزامًا مؤسسيًا يُعزّز من مكانته كشاعر ملتزم، ويُسهم في بناء خطاب شعري جماعي يُقاوم التغريب والسطحية، ويُعيد للشعر العربي المحافظ حضوره الفاعل في المشهد الثقافي.
ثانيًا: الحضور الإعلامي والنشر
نُشرت قصائد أحمد فخر الدين في عدد من المجلات والصحف المصرية والعربية، منها: مجلة رابطة الأدب الإسلامي العالمية، جريدة الديوان الجديد، مجلة زهرة الليلك، جريدة صوت أسوان، جريدة “على باب مصر”، ومجلة الأزهر الشريف الورقية والإلكترونية. كما أُذيعت بعض قصائده في البرنامج الإذاعي الشعري العريق “قطرات الندى” بالإذاعة المصرية، وهو منبر شعري له تاريخ طويل في دعم الشعراء المحافظين.
وقد أُجريت معه حوارات صحفية تناولت تجربته الشعرية، مما يُشير إلى اهتمام الوسط الثقافي بتجربته، ورغبة في توثيقها وتقديمها للجمهور.
تقييم نقدي: يُبرز هذا الحضور الإعلامي قدرة الشاعر على التواصل مع جمهور واسع، ويُعزّز من مكانته كشاعر له صوت مسموع في المشهد الثقافي، دون أن يتنازل عن قيمه الجمالية والفكرية.
ثالثًا: التوثيق الموسوعي
ضمت “موسوعة الشعر المصري الفصيح 1953–2023م” الصادرة عام 2024م عن دار الرضا للنشر والتوزيع بالقاهرة، نبذة من سيرته الشعرية وعددًا من قصائده، إلى جانب إدراجه في معجم البابطين لشعراء العربية في القرنين التاسع عشر والعشرين. هذا التوثيق يُعدّ اعترافًا رسميًا بمكانته الشعرية، ويُؤكّد على استمرارية تأثيره داخل المشهد الشعري العربي.
كما أن إدراج سيرته إلى جانب والده وعمه في الموسوعة يُعزّز من فكرة الامتداد الشعري العائلي، ويُرسّخ صورة الشاعر الوريث والفاعل في آنٍ واحد.
تقييم نقدي: يُمثّل التوثيق الموسوعي للشاعر أحمد فخر الدين تتويجًا لمسيرته الشعرية، ويُعزّز من شرعيته الأكاديمية والثقافية، ويُؤهّله ليكون موضوعًا للدراسات النقدية المقارنة، خاصةً في سياق الشعر المحافظ المعاصر.
الفصل الثالث: الجوائز والتكريمات والتقدير النقدي
أولًا: الجوائز الشعرية
تميّز الشاعر أحمد فخر الدين بحضور لافت في المسابقات الشعرية المحلية والعربية، حيث حصل على عدد من الجوائز التي تُعبّر عن تقدير المؤسسات الثقافية لتجربته الشعرية. من أبرز هذه الجوائز:
• المركز الأول على شعراء الأقصر عن فئة القصيدة الفصحى في مسابقة “بيت الأدباء والشعراء” برعاية جريدة وبرنامج “الجمهور العربي” عام 2018م.
• المركز الأول ووسام الشعر الفصيح في مسابقة “جريدة أضواء العالم” عام 2018م.
• المركز الثاني عن فئة الشعر الفصيح في مسابقة “الوفاء للضاد – هويتنا” عام 2018م.
• المركز الأول وشهادة تقدير من فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف في المسابقة العالمية “مئذنة الأزهر للشعر العربي” في موسمها الثالث عام 2023م.
• قصيدته “بئر السؤال” نالت إعجاب لجنة تحكيم مسابقة “عبد الله بن إدريس الثقافية” برئاسة الأمير تركي الفيصل، وأوصت بطباعتها ضمن ديوان المسابقة.
تقييم نقدي: تُظهر هذه الجوائز أن تجربة أحمد فخر الدين ليست محلية فحسب، بل تحظى باعتراف مؤسسي عربي، وتُؤكد على تميّزه في التعبير عن قضايا الأمة والهوية بلغة شعرية محافظة، رصينة، ومؤثرة.
ثانيًا: التكريمات الثقافية
إلى جانب الجوائز، حظي الشاعر بتكريمات أدبية وشخصية تُعبّر عن تقدير الوسط الثقافي له، منها:
• اختيار قصيدته “هكذا يُغنّي شهيدٌ من غزة” ضمن ديوان “شهداء العزة” المطبوع عام 2024م، بإشراف مؤسسة عبد العزيز البابطين الثقافية.
• تكريم خاص من الشاعر الكبير خالد سعد فيصل، مؤسس جمعية “واحة أمير الشعراء”، الذي أهداه قصيدة في أمسية شعرية عام 2023م.
• إدراج سيرته وقصائده في موسوعة الشعر المصري الفصيح (1953–2023م)، إلى جانب والده وعمه، مما يُعزّز من مكانته الشعرية الوراثية والمؤسسية.
تقييم نقدي: هذه التكريمات تُعزّز من صورة الشاعر كفاعل ثقافي، لا مجرد شاعر فرد، وتُؤكّد على امتداد تأثيره في قضايا الأمة، خاصةً القضية الفلسطينية، التي يُعبّر عنها بلغة وجدانية عالية.
ثالثًا: التقدير النقدي والأدبي
لم تقتصر مكانة أحمد فخر الدين على الجوائز، بل امتدت إلى التقدير النقدي، حيث أُنجزت دراسات نقدية حول بعض قصائده، منها:
• دراسة نقدية من الدكتور سيد فاروق عن قصيدته “يا نفس”، تُبرز البعد التأملي والروحي في شعره.
• شهادات شعرية ونقدية من عدد من الشعراء والنقاد العرب، تُشيد بجمالية تجربته، وعمقها الأخلاقي واللغوي.
تقييم نقدي: يُعدّ هذا التقدير النقدي مؤشرًا على قابلية شعر أحمد فخر الدين للتحليل الأكاديمي، ويُؤهّله ليكون موضوعًا للدراسات المقارنة، خاصةً في سياق الشعر المحافظ ذي البعد التربوي والوجداني.
الفصل الرابع: التحليل الأدبي والنقدي لقصائد مختارة
النموذج الأول: قصيدة “رسالة في مهب الروح”
سَمِعتُكَ..
فانْتَشَى قَلْبِي بِلَحنٍ
يُحَلِّقُ في مَدَاكَ بِلَا جَنَاحِ
ولَمْ يُنْصِت مَدَاكَ لِنبْضِ قلْبٍ
تَثَمَّلَهُ هَوَاكَ بِغَيْرِ راحِ
وما أَصغَى إلى خَفَقَانِ صَدرِي
سِوَى شَوْقٍ
يُكَابِدهُ جُنَاحِي
أَيَا مَنْ طارَ في الوِديَانِ روحًا
يُحَوِّمُ في الغَمَامِ
وفي الرِّيَاحِ
يُؤَجِّجُ في الدُّجَى نَجمِي
و يُخْبِي
ليُسْلِمَنِي المساءُ إلى الصباحِ
ويُؤْوِينِي النهارُ لفَيْء رَوْضٍ
فتَحكِينِي الفَرَاشَةُ للأقَاحِي
كَدَالِيَةٍ
تُمَشِّطُهَا صبَايَا
سَكِرنَ بِكَرمَةِ الخَمْرِ الـمُبَاحِ
يُدَوِّرنَ الكُؤوسَ عَلَى هَوَايَ
ويَسْكُبْنَ الصَّبَابَةَ في جِرَاحِي
ويُرخِينَ الشُّجُونَ بِخِدرِ نايٍ
يَئِنُّ عَلَى الحبيبِ المُسْتَباحِ
أَمَا يَكْفِيكَ ما أفْنَيْتَ مِنِّي
وما تَذْرُوا رِيَاحُكَ مِنْ بِطَاحِي
وما أَرْسَلْتَ مِنْ خَيْلٍ ولَيْلٍ
وبِيدٍ ظامئاتٍ للقَرَاحِ
فَدَعنِي مِنْ مَدَى الأَحبَابِ أَدنُو
ولا تُكْثِر عَلَيَّ مِنَ النَّوَاحِي
وَذَرنِي فِي السُّرَى أَحْدُو ظَلَامِي
لِوَجْهِ الضَّوْءِ فِي أُفْقِ البَرَاح
تُعدّ قصيدة “رسالة في مهب الروح” نموذجًا متقدمًا للشعر الغزلي الصوفي في تجربة أحمد فخر الدين، حيث تتداخل فيها عناصر الحب، الشوق، والبحث الروحي، ضمن بنية لغوية متأنّقة، وصور شعرية متداخلة، تُحاكي الذات في لحظات انكشافها وانجذابها نحو المطلق.
1. البنية الموضوعية
يفتتح الشاعر القصيدة بنداء وجداني يعبّر عن لحظة سماعٍ تتحوّل إلى نشوة روحية، فيقول:
“سمعتك.. فانْتَشى قلبي بلحنٍ يُحلّق في مداك بلا جناح”
هذا الاستهلال يُجسّد لحظة التجلّي، حيث يتحوّل الصوت إلى طاقة وجدانية تُحرّك القلب والروح، وتُدخلهما في فضاء من التوق والتأمل.
2. الرموز الشعرية
تتنوّع الرموز في القصيدة، وتُبنى شبكة دلالية تُحاكي التجربة الصوفية:
الدلالة الشعرية الرمز
النقاء، الانسجام مع الطبيعة، البراءة الروحية الفراشة والأقاحي
النشوة الروحية، الذوبان في المعشوق، التجاوز الحسي الدالية والخمر
الحنين، الحزن، التعبير عن الشجن الداخلي الناي
الاضطراب، الترحال، التوتر الشعوري والبحث عن الذات الليل والخيل والرياح
هذه الرموز تُشكّل فضاءً شعريًا يتجاوز الواقع، ويُحاكي تجربة الانعتاق الروحي، حيث يتحوّل الحب إلى وسيلة للسمو والتطهّر.
3. الموسيقى الداخلية
تعتمد القصيدة على تكرار المفردات ذات الشحنة العاطفية، مثل: “الشوق”، “الهوى”، “الرياح”، “النواح”، مما يُضفي على النص إيقاعًا داخليًا متواترًا، يُعزّز من تدفّق الصور، ويُحاكي انسياب الروح في فضاء التجربة.
4. جدلية الحضور والغياب
يتجلّى في القصيدة صراعٌ بين الحضور المتخيّل والغياب الواقعي، حيث يظلّ الشاعر أسيرًا لصوتٍ يسمعه، لكنه لا يلقى تجاوبًا منه، مما يُولّد توترًا شعوريًا يُغذّي النص بالصور والانفعالات.
5. البعد الصوفي
يتجلّى البعد الصوفي في القصيدة من خلال:
• التحليق نحو “الأفق” و”الضوء”.
• رموز الخمرة والناي والفراشة كأدوات للذوبان الروحي.
• استخدام الليل والنجوم كفضاء للبحث عن المطلق.
تقييم نقدي: تُجسّد هذه القصيدة تجربة شعرية متكاملة، تُعيد صياغة الحب بوصفه حالة وجودية، وتُحوّل العاطفة إلى وسيلة للارتقاء الروحي، مما يجعلها نموذجًا راقيًا للشعر الغزلي الصوفي في الأدب العربي المعاصر.
النموذج الثاني: قصيدة “قل للحروف”
قُلْ للحروفِ
ستلقاكُـنَّ مِصيدتي
هذا يراعي وهذا نبضُ أوردتي
أَلقَى طيوفَ الكَرَى
باتت مؤرَّقةً
لَـمْ يَغْفُ جَفْنٌ لها
إلا بهدهَدَتي
وهذه دارتي
تشتاق أغنيةً
تجتاحُ بحرَ الهوى
في ظلِّ أشرعتي
وجنتي عبَقٌ
كلُّ الزهور بها
فَلْتَرشُفِي عسَلًا
ينسالُ مِن شفتي
ولْتَسْلُـكِي سُبُلي
في مهجتي ذُلُـلًا
حتى أُبَلْسِمَ للعافِينَ أَشرِبتي
لو كنتُ أقرأُ صوتَ الصمتِ
متَّكِئًا على الجرَاحِ
لَـمَا آكلتِ مِنسَأتي
فَلْتُسْلِمِي
إنَّهُ آتيكِ بسملةٌ
وَلْتَحْسِبِي لجَّةً
في صرحِ قافيتي
تُجسّد قصيدة “قل للحروف” تحولًا نوعيًا في تجربة أحمد فخر الدين، حيث ينتقل من التعبير العاطفي إلى التأمل الفلسفي والرمزي، مستثمرًا طاقة الحرف واللغة بوصفهما كيانًا وجوديًا وروحيًا. تنتمي القصيدة إلى تيار الشعر الرمزي الحديث، مع امتدادات صوفية واضحة، تجعلها نصًا مفتوحًا على الذات والكون والقداسة.
1. الحرف كرمز أنطولوجي
يفتتح الشاعر القصيدة بخطاب موجّه إلى الحروف، فيقول:
“قل للحروف ستلقاكنّ مصيدتي / هذا يراعي وهذا نبض أوردتي”
هذا الاستهلال يُحوّل الحروف إلى كائنات حيّة، ويُعيد تعريف العلاقة بين الذات واللغة، حيث تصبح الحروف امتدادًا للهوية، والكتابة فعلًا وجوديًا يُحاكي النبض والكينونة.
2. البنية الدرامية: من الأرق إلى السكينة
يتطوّر النص من حالة الأرق والقلق إلى لحظة الطمأنينة، عبر فعل “الهدهدة”، مما يُجسّد جدلية المعاناة والخلاص، ويُحاكي المسار الصوفي من الحجاب إلى الكشف، ومن الألم إلى الصفاء.
3. الرموز المكانية والدلالية
الدلالة الشعرية الرمز
الذات الداخلية، موطن الحنين والبحث عن المعنى الدار
الهوى اللامتناهي، الغيب، الانفتاح على المطلق البحر
البهجة المثالية، بلاغة القول، الصفاء الروحي الجنة
القداسة، افتتاح الوجود الشعري، المعراج الرمزي البسملة
هذه الرموز تُشكّل فضاءً شعريًا يُحاكي الذات في رحلتها نحو المطلق، ويُعيد صياغة العلاقة بين الداخل والخارج، بين الفردي والكوني.
4. التجربة الصوفية
يتجلّى البعد الصوفي في قوله:
«لو كنت أقرأ صوت الصمت متكئًا على الجراح»
هنا يُوظّف الشاعر مفارقة عرفانية تجمع بين الصوت والصمت، ويجعل الجراح مصدرًا للمعرفة، مما يُحاكي التجربة الصوفية في إدراك المعنى عبر الألم، والانكشاف عبر التناقض.
5. المقدّس في بنية النص
في ختام القصيدة، يقول:
“فلتسلمي إنه آتيك بسملة / ولتحسبي لجّةً في صرح قافيتي”
يتحوّل الشعر إلى فعل مقدّس، حيث تُفتتح القصيدة بالبسملة، وتُبنى القافية كصرحٍ رمزي، مما يُضفي على النص طابعًا دينيًا – روحيًا، يُحاكي المعراج الصوفي، ويُعيد تعريف الشعر بوصفه عبادة جمالية.
تقييم نقدي: تُقدّم قصيدة “قل للحروف” تجربة شعرية فلسفية – رمزية، تُعيد صياغة العلاقة بين اللغة والوجود، وتُحوّل الحرف إلى مرآة للروح. إنها قصيدة تُجسّد نضجًا شعريًا وفكريًا، وتُعدّ إضافة نوعية في مسيرة أحمد فخر الدين، تُؤهّله ليكون من أبرز شعراء الرمزية الصوفية في الشعر العربي المعاصر.
النموذج الثالث: تحليل نقدي أدبي لقصيدة “ميقاتُ النورِ”
“ميقاتُ النورِ”
أَلقَيْتُ في حَرَمِ الهوَى أَلواحِي
وَأَرَقتُ في حَاناتهِ أقداحِي
………………………
حتى نهاية القصيدة
لَوْ مَا وَجَدتُ سَعَادَتِي فِي دَربِكُمْ
فَلَقَد شَقِيتُ بِغُدوَتِي وَرَوَاحِي
بين ميقات الشعر وميقات النور
في قصيدة “ميقاتُ النورِ”، ينهض الشاعر أحمد فخر الدين من تخوم الذات إلى تخوم التجلي، ومن حانات الهوى إلى أروقة النبوة، في رحلة شعرية تتقاطع فيها الرؤى الصوفية، والوجد العاطفي، والهمّ القومي، ضمن بنية لغوية مشحونة بالرمز، والإيقاع، والتكثيف الدلالي. هذه القصيدة ليست مجرد نظم، بل هي صلاة شعرية، ومأتم جمالي، وصرخة وجودية، تتوسل النور في زمن الظلمة، وتستدعي الرحمة في زمن الجراح.
التحليل النقدي الأدبي
1. البنية الشعورية والروحية
تنفتح القصيدة على مشهد وجداني عميق: “ألقيتُ في حرم الهوى ألواحي / وأرقتُ في حاناتهِ أقداحي”، حيث يعلن الشاعر عن انخراطه الكلي في تجربة الحب، لا بوصفها علاقة، بل بوصفها عبادة وطقسًا وجوديًا.
يتكرر حضور “النور” كرمز للتجلي الإلهي، والصفاء الروحي، والنبوة، في مقابل “الظلمة” التي ترمز للتيه، والخذلان، والاغتراب.
2. اللغة والبلاغة
تتسم القصيدة بلغة عالية، مشحونة بالصور المركبة، والاستعارات الممتدة، مثل: “شظّت سماوات المجاز بأضلعي / زخّات حبٍّ في الحبيب بواحِ”، حيث تتداخل المجازية مع الجسدية والروحية.
التراكيب البلاغية تتنوع بين الطباق (صباح / دجى)، والجناس (راح / صبابة / كأسي)، والتورية، مما يمنح النص كثافة موسيقية ودلالية.
3. الرمزية الصوفية
يحضر البعد الصوفي في مفردات مثل: اللوح، الميقات، المجاز، الصلاة، الدم، النبي، القبة الخضراء، طابة، طيب، الفتاح، وكلها تشير إلى رحلة روحية نحو المطلق.
يتماهى الشاعر مع العاشق الإلهي، الذي “يرشف الغيم الكليم ليكتب السطر الأخير بأول الألواح”، في إشارة إلى الكتابة بوحي النور، لا بوحي الذات.
4. البعد القومي والإنساني
في القسم الأخير، تتحول القصيدة إلى مرثية لغزة، وصلاح الدين، والبلاد المنكوبة، حيث يقول: “فوقي سماءُ اللهِ يسفك غيمُها / أحزانَ غزةَ ثرّةِ الأجراحِ”، مما يضفي على النص بعدًا إنسانيًا مقاومًا.
الشاعر لا يكتفي بالرثاء، بل يتوسل الخلاص عبر الشعر، والدعاء، والرجاء، فيقول: “خذني لأورقَ في مداكَ قصائدًا / يمحو جناها ما جناهُ جناحي”.
5. المديح النبوي كذروة التجلي
يختم الشاعر قصيدته بمديح نبوي فريد، لا يتوسل التقليد، بل يبتكر رؤيته الخاصة، حيث يقول: “منْ ذا الذي يدنو لمرفأِ قدركمْ / مستهديًا بسرابهِ اللمّاحِ؟!”
المديح هنا ليس تكرارًا، بل انكشافًا، حيث يعجز الشعر عن وصف الجمال النبوي، ويقف أمامه خاشعًا، كما في قوله: “يقفُ المديحُ أمامَ حسنكَ عاجزًا / عن وصفِ بدرِ تمامهِ الوضّاحِ”
الخاتمة: الشعر كفعل خلاص
قصيدة “ميقاتُ النورِ” ليست مجرد نص شعري، بل هي وثيقة وجدانية، وصرخة روحية، ومخطوطة نورانية، تنتمي إلى الشعر الذي يُكتب بالدمع، ويُتلى بالحنين، ويُصلّى عليه في محراب الجراح. إنها قصيدة تتجاوز الزمان والمكان، لتصبح فعلًا من أفعال الخلاص، ونداءً من نداءات القلب الباحث عن النور في زمن التيه. وفي هذا السياق، يحق لها أن تتصدر أي مجموعة شعرية تُعنى بالشعر بوصفه رسالة، وشفاء، وتجليًا.
النموذج الرابع: قصيدة “نفح الطيب”
وَنَاحِتُ الصَّخْرِ يُبْقِي الصَّخْرُ مَا وَسَمَا
وَنَاقِشُ الرَّمْلِ يَمْحُو الـمَوجُ مَا رَسَمَـا
وَلَابِسُ البِرِّ ، فَالأَزْمَانُ تُلْبِسُهُ
ثَوْبَ الخُلُودِ .. فَلَنْ يُنْسَى وَإِنْ أَرِمَا
وَصَانِعُ الخَيْرِ.. فَالأَلْطَافُ تُؤْنِسُهُ
بَيْنَ القَضَائَيْنِ .. مَا يُمْحَى وَمَا حُتِمَا
وَحَامِلُ المِسْكِ .. نَفْحُ الطِّيبِ يَنْشُرُهُ
عِطْراً نَدِيًّا بغَيْرِ الحُبِّ مَا نَسَمَا
وَذَاكِرُ اللَّهِ.. فالرَّحمٰنُ يَذْكُرُهُ
فِيمَنْ أَحَبَّ ، وَمَنْ نَجَّى ، وَمَنْ رَحِمَا
وَطَاهِرُ القَلْبِ .. لَا كَيْدًا وَلَا حَسَدًا
يَدِينُ بِالحُبِّ إِنْ أَبْدَاهُ أَوْ كَتَمَا
وَوَاصِلُ الرَّحِمِ الرَّحمٰنُ يَرْحَمُهُ
مَا دَامَ فِي وَصْلِهَا بِالحُبِّ مُلْتَحِمَا
وَرَاحِمُ النَّاسِ .. هَمُّ النَّاسِ يَشْغَلُهُ
كَأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَرْحَامِهِمْ رَحِمَا
يُجَنِّدُ العَرَقَ المُضْنَى لِرَاحَتِهِمْ
وَيَبْذُلُ النَّفْسَ بَيْنَ البَاذِلِينَ دَمَا
أَقَامَهُ اللَّهُ فِي الحَاجَاتِ .. غَايَتُهُ
وَجْهُ الكَرِيمِ وَلَا يَرْجُو لَهُمْ كَرَمَا
يُحِبُّهِ اللَّهُ وَالأَمْلَاكُ تَغْبِطُهُ
يَشِيدُهُ الذِّكْرُ فِي آثَارِهِمْ هَرَمَا
يُجِيبُهُ اللَّهُ إِنْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ يَدًا
وَلَا يرُدُّ لَهُ سُؤْلًا وَلَا قَسَمَا
تُجسّد قصيدة “نفح الطيب” البُعد الأخلاقي–الديني في تجربة أحمد فخر الدين، حيث يُعيد الشاعر صياغة القيم الإنسانية في قالب شعري رفيع، يُزاوج بين الجمال والرسالة، ويُقدّم صورة الإنسان الكامل الذي يخلّد أثره كما يخلّد الطيب عبيره.
1. العنوان والدلالة الرمزية
يحمل العنوان “نفح الطيب” شحنة رمزية تُحيل إلى الأثر المعنوي الذي يظل حاضرًا رغم غياب صاحبه، مما يُمهّد لقراءة القصيدة بوصفها احتفاءً بالقيم الخالدة.
2. الإيقاع والروي
اعتماد الشاعر على رويّ الميم المفتوح يمنح النص انسجامًا صوتيًا يُحاكي امتداد الأثر الطيب، ويُعزّز من حضور المعاني الروحية في بنية القصيدة.
3. ثنائية البقاء والفناء
من خلال المقارنة بين “ناحت الصخر” و”ناقش الرمل”، يُؤسّس الشاعر معيارًا أخلاقيًا يُفرّق بين الأثر العابر والأثر الخالد، ويُرسّخ فكرة أن الفضيلة وحدها هي التي تبقى.
4. سلّم الفضائل
يعرض النص مجموعة من القيم المتصاعدة: البر، الخير، الذكر، الطهارة، صلة الرحم، الرحمة، الإيثار، مما يُشكّل رؤية نسقية للإنسان المثالي في التصوّر الإسلامي–الصوفي.
5. الصور البلاغية
تتنوّع الصور بين الحسي والمجرد، مثل: “نفح الطيب”، “الذكر يشيده هرمًا”، “يبذل النفس دما”، مما يُضفي على النص طابعًا دراميًا وإنسانيًا يُعزّز من رسالته التربوية.
6. البعد الصوفي
في المقاطع الختامية، يتحوّل النص إلى خطاب صوفي، حيث تتجلّى العلاقة المباشرة مع الله، ويُصبح العطاء طريقًا للخلود، والذكر وسيلة للارتقاء.
تقييم نقدي: تُقدّم “نفح الطيب” نموذجًا راقيًا للشعر القيمي، وتُجسّد قدرة أحمد فخر الدين على تحويل الفضيلة إلى صورة شعرية، والعطاء إلى أثر خالد، مما يجعلها قصيدة تربوية–روحية بامتياز، تصلح أن تكون مرجعًا في الأدب الأخلاقي المعاصر.
الخاتمة
يمثّل الشاعر أحمد فخر الدين نموذجًا فريدًا في الشعر العربي المعاصر، حيث تتقاطع في تجربته عناصر الشعر المحافظ، والرمزية الصوفية، والهمّ الإنساني، ضمن بنية لغوية مشحونة بالصور، والإيقاع، والالتزام الأخلاقي. لقد أظهر هذا المقال، عبر فصوله الأربعة، أن تجربة أحمد فخر الدين ليست مجرد إنتاج شعري، بل هي مشروع ثقافي متكامل، يُعيد للشعر وظيفته التربوية، الروحية، والوجدانية، ويُجسّد التزامًا عميقًا بقضايا الإنسان، والهوية، والذاكرة.
من خلال تحليل سيرته الذاتية، وانتمائه المؤسسي، وتكريماته النقدية، ثم دراسة نماذج من شعره، تبيّن أن أحمد فخر الدين يكتب من قلب التجربة، لا من هامشها، ويُعيد صياغة العلاقة بين اللغة والوجود، بين الحرف والروح، وبين الشعر والنبوة. قصائده ليست مجرد نظم، بل هي صلاة، ومأتم، وصرخة، ونداء، تُحاكي الذات في لحظات انكشافها، وتُحاكي الأمة في لحظات جراحها.
إن قصائد مثل “رسالة في مهب الروح”، “قل للحروف”، و”ميقات النور”، تُجسّد هذا التنوّع، وتُبرز قدرة الشاعر على المزج بين الغزل، الرمز، والمديح، دون أن يفقد لغته الشعرية المتأنّقة، أو رؤيته الأخلاقية المتماسكة.
وبناءً على هذا، يُوصي المقال بضرورة إدراج تجربة أحمد فخر الدين ضمن مشاريع التوثيق الموسوعي، والدراسات النقدية المقارنة، خاصةً في سياق الشعر المحافظ، والشعر الصوفي المعاصر، لما تحمله من طاقة وجدانية، ورؤية فكرية، وقيمة جمالية، تُؤهّلها لتكون مرجعًا في دراسة الشعر العربي الحديث.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
[email protected]