تجليات الوجود والكتابة: قراءة نقدية في خمس قصائد للشاعرة فيتوره عثماني
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
ملخص
تتناول هذه الدراسة خمس قصائد للشاعرة الكوسوفية المعاصرة فيتوره عثماني، وهي: “الأفكار”، “الكتابات”، “مراحل الحياة”، “النهاية”، و”وأكتب”. تسلط القراءة الضوء على الثيمات المشتركة بين القصائد، مثل الصراع الداخلي، دور الكتابة كوسيلة للتعبير والتحرر، والعلاقة بين اللغة والوجود. تعتمد القصائد لغة بسيطة لكنها عميقة، تحمل أبعادًا وجودية ونفسية، وتقدم رؤيةً إنسانيةً تتجاوز المحلي إلى العالمي. يهدف هذا التحليل إلى كشف الطبقات الدلالية والفلسفية في نصوص عثماني، وتقديمها كنموذج متميز في الشعر الألباني الحديث.
مقدمة
تشكل تجربة الشاعرة فيتوره عثماني واحدة من التجارب الشعرية الأكثر صدقًا وعمقًا في المشهد الأدبي الألباني المعاصر. تمتلك عثماني قدرة نادرة على تحويل المشاعر اليومية والأفكار العميقة إلى نصوص شعرية مكثفة، تحمل في طياتها أسئلة وجودية وإنسانية. القصائد الخمس المختارة لهذا التحليل تعكس رحلةً داخليةً للشاعرة مع الذات، والكلمة، والوجود.
في قصيدة “الأفكار”، تتحول الكتابة إلى فعلٍ علاجي، حيث تصبح الورقة ملاذًا للأفكار المتدفقة. أما “الكتابات”، فتناقش ثنائية الصمت والتعبير، وتطرح سؤالًا جوهريًا عن قدرة الكلمة على البقاء رغم قيودها. وتأتي “مراحل الحياة” لترسم ملامح الرحلة الإنسانية بصعوباتها وصمودها، بينما تتأمل “النهاية” فكرة الزوال وما يبقى من أثر. وأخيرًا، تأتي قصيدة “وأكتب” لتختتم هذه الرحلة بدور الكتابة كفعلٍ منقذٍ ومحرر.
هذه القصائد لا تنتمي إلى سياق ثقافي محض، بل تتجاوزه إلى آفاق إنسانية واسعة، مما يجعلها جديرة بالدراسة والنقد في سياق أكاديمي عربي وعالمي.
١) “الأفكار”
حين تفيض أفكاري
أُسقطها في كتاباتي.
وحين أُلقيها على الورق،
يرتاح عقلي.
حتى وإن كانت
بلا أيّ قيمة للآخرين،
أفعل ذلك لأني أشعر بالحاجة للتعبير،
ويبدو لي ذلك أمرًا طبيعيًا للغاية.
والعجيب أنني لا أفتقر إلى الحروف،
ولا أنسى أن أكتب المشاعر.
يدي تكتب الكلمات،
وقد تبدو يدًا غريبة!
تحليل أدبي نقدي لقصيدة “الأفكار” للشاعرة فيتوره عثماني
مقدمة
في الشعر الألباني المعاصر، بدأت تأخذ حيزًا متزايدًا تلك القصائد التي تعبّر عن التأمل الذاتي والغوص في أعماق النفس، حيث يصبح التفكير مادةً شعريةً، والبوح الداخلي شكلاً من أشكال التحرّر الروحي. تمثل قصيدة “الأفكار” للشاعرة فيتوره عثماني نموذجًا لهذا الاتجاه، إذ تكشف عن تجربة شعورية صادقة، وعلاقة حميمة بين الكاتبة وكلماتها، وتؤسس لعلاقة علاجية بين الفكرة والكتابة.
التحليل النقدي
منذ البيت الأول:
“حين تفيض أفكاري
أرميها على الورق”
نلج مباشرةً إلى عمق الحالة النفسية التي تمر بها الشاعرة. إنّ الفكرة هنا ليست مجرد خاطرة عابرة، بل هي طاقة داخلية تبحث عن منفذ، والكتابة تصبح ذلك الممر الذي تعبر من خلاله هذه الطاقات إلى الخارج. هذا الفيض الفكري الذي لا يُحتمل يجد في الورقة خلاصًا، وفي القلم صديقًا مخلصًا.
ثم تقول:
“حين أرميها على الورق
ترتاح أفكاري.”
وهنا يظهر جليًا البُعد العلاجي للكتابة. لم تعد الكتابة مجرد وسيلة تعبير، بل أداة تنفيس وعلاج. يرتاح العقل حين تتجسد الأفكار في كلمات، وتنتقل من الداخل المكتوم إلى الخارج المكتوب.
لكن اللافت في النص هو وعي الشاعرة بأنّ هذه الكلمات قد لا تهم الآخرين:
“حتى لو لم تكن لها أهمية للآخرين
أفعل ذلك لأنني أشعر بالحاجة للتعبير.”
هذا الوعي يُضفي على القصيدة بعدًا وجوديًا؛ فهي تكتب لا لكي تُرضي، بل لكي تبقى، لكي تستمر في الحضور الروحي. إنها تكتب لأن الكتابة ضرورة داخلية، لأن الصمت لم يعد ممكنًا، لأن اللغة هي مرآة الروح.
وتبلغ القصيدة ذروتها في نهايتها:
“والعجيب أنني لا أفتقر إلى الحروف،
ولا أنسى أن أكتب المشاعر.
يدي تكتب كلمات،
وقد تبدو يدًا غريبة!”
في هذه الأبيات الأخيرة تكشف الشاعرة عن لحظة سريالية في فعل الكتابة. اليد التي تكتب لا تبدو لها وكأنها يدها. إنه توصيف دقيق لحالة انفصال الوعي التي يمر بها الشاعر لحظة الإبداع، حين يقود الإلهامُ اليدَ، وليس العقل الواعي.
الخاتمة
قصيدة “الأفكار” لفيتوره عثماني هي شهادة شعرية عميقة عن العلاقة العضوية بين الإنسان والكلمة، بين المعاناة والكتابة. إنها ليست مجرد وصف لحالة فكرية، بل ممارسة حقيقية لفعل الكتابة كضرورة روحية، وكسلاح في وجه الفراغ الداخلي. بأسلوب بسيط وشفاف، وبلغة قريبة من القلب، نجحت الشاعرة في أن تخلق نصًا حقيقيًا يلامس الوجدان ويطرح أسئلة جوهرية عن معنى أن نكتب، ولماذا نكتب، ولمن نكتب. إنها قصيدة الصدق مع الذات، ولعل هذا هو أجمل ما فيها.
٢) “مراحل الحياة”
وأحيانًا يخفت القلب من الأسباب الصعبة،
وتثقل الروح كثيرًا، تنتظر لحظات خيرًا قليلة.
تعتكر العينان قليلًا، وتحاول الدموع إخفاءهما،
وتثقل الأفكار العقل، فتبهت الملامح.
تتعب الأقدام أحيانًا، لكنها تواصل الخطو،
بصعوبة عامة، هكذا تمر المراحل.
بعض الأشياء تُقال، وأخرى لا تُقال أبدًا،
بعض الكلمات تُعبّر، وأخرى تُسكت حقًا.
تحليل نقدي أدبي لقصيدة “مراحل الحياة” للشاعرة فيتوره عثماني
المقدمة
قصيدة “مراحل الحياة” للشاعرة فيتوره عثماني هي عمل عاطفي عميق يستكشف تحديات وتناقضات الوجود الإنساني. من خلال لغة بسيطة لكنها قوية، تصف الشاعرة الصراع اليومي للإنسان مع آلامه وآماله وصمته. أبيات القصيدة مليئة بالرمزية وتعكس واقعًا عالميًا: الحياة كرحلة صعبة، حيث كل مرحلة تحمل معها تحديات جديدة. يناقش هذا النص بنية القصيدة، موضوعاتها، الصور البلاغية، ورسالتها، ويضعها في سياق الأدب الألباني الحديث.
تحليل عميق للقصيدة
١. البنية والشكل
القصيدة مبنية على شكل تأمل غنائي، مع ثمانية أبيات غير مقفَّاة تتبع تدفقًا منطقيًا للمشاعر. لا يوجد نظام قافية صارم، مما يعطيها طابعًا حرًا وسلسًا، يحاكي تدفق أفكار شخص مضطرب. استخدام النقاط والفاصلات يساعد في خلق إيقاع متقطع، يرمز إلى العقبات في الحياة.
٢. الموضوعات الرئيسية
• المعاناة والصمود: تصف الشاعرة حالة نفسية مثقلة، حيث “القلب يخفت” و”الروح تثقل”. ومع ذلك، رغم الصعوبات، يواصل الإنسان السير (“تتعب الأقدام أحيانًا، لكنها تواصل الخطو”).
• الصمت والتعبير: تؤكد عثماني على وجود أشياء لا تُقال (“بعض الأشياء تُقال، وأخرى لا تُقال أبدًا”)، مما يشير إلى توتر بين الحاجة للتعبير والانغلاق العاطفي.
• الحياة كرحلة: استعارة “المراحل” تصوّر الحياة كعملية تمر فيها الصعوبات حتمًا لكنها مؤقتة.
٣. الصور البلاغية واللغوية
• التجسيد: “القلب يخفت”، “الروح تثقل” – هذه الصور تعطي المشاعر صفات بشرية، مما يجعلها أكثر واقعية.
• المقابلة: التضاد بين “كلمات تُقال” وأخرى “تُسكت” يبرز التناقض بين التعبير والصمت.
• استعارة الرحلة: “المراحل” ترمز إلى مراحل الحياة، حيث يمشي الإنسان رغم التعب.
٤. السياق الأدبي والتقييم النقدي
تستخدم فيتوره عثماني لغة بسيطة لكنها غنية بالمعاني، مما يجعل القصيدة سهلة الفهم لكنها عميقة. أسلوبها المباشر، دون زخارف مبالغ فيها، يقربها من تقاليد الشعر الألباني الحديث، حيث التركيز على المضمون أكثر من الشكل. تذكرنا القصيدة ببعض مواضيع شعر ميغييني أو لاسجوش بوراديتشي، حيث يتوازن التشاؤم الوجودي مع نوع من الصمود.
لكن، على عكس بعض الشعراء الآخرين، لا تقع عثماني في اليأس الكامل؛ فهي تترك مساحة للأمل، مشيرة إلى أنه رغم صعوبة الحياة، يجد الإنسان دائمًا القوة للمتابعة.
الخاتمة
“مراحل الحياة” قصيدة تتردد في قلب كل قارئ بسبب عالمية موضوعاتها. من خلال صور قوية وبنية واضحة، تقدم لنا فيتوره عثماني تأملًا حساسًا حول طبيعة الوجود الإنساني. أبياتها ليست مجرد وصف للمعاناة، لكنها أيضًا تحية لصمود الإنسان. يستحق هذا العمل أن يكون ضمن أفضل مختارات الأدب الألباني الحديث، ليس فقط لعُمقه الفلسفي، بل لقدرته على لمس القلوب.
٣) “الكتابات”
لا أحد يفهمك أكثر من الحروف،
تعرف كل شيء ولا تتكلم.
حتى أصغر الأسرار تعرفها،
مكتوبة تبقى وتقتل نفسها.
كم من الأفكار تدور في الذهن،
ونقاط استفهام بلا إجابات مكتوبة.
ثقة بالنفس أم فكرٌ كيفما كان،
لكن بمعنىً مُتوارث.
مهشمةٌ ومقصوصةٌ جيداً،
في مراحل وعبارات منفصلة.
فصول لا تنتهي أبداً،
وتعيدك من البداية.
أمرك، قل شيئاً،
الفكر شيء حر.
حتى لو انقلب العالم،
تكلّم، فهذا يشفيك!
تحليل نقدي عميق للقصيدة “الكتابات”
المقدمة
قصيدة “الكتابات” للشاعرة فيتوره عثماني هي عمل شعري عميق يستكشف قوة وضعف الكلمة المكتوبة، وكذلك التوتر بين التعبير والصمت. من خلال لغة بسيطة لكنها رمزية، تطرح الشاعرة أسئلة وجودية حول طبيعة الكتابة، معانيها الخفية، ودورها في خلاص الإنسان أو هلاكه. يحلل هذا النص بنية القصيدة، موضوعاتها، وأساليبها البلاغية، مفسراً كيف تستخدم عثماني استعارة الحروف ككائنات حية لكنها صامتة، للتعبير عن صراع داخلي وسعي لفهم العالم الغامض.
تحليل الموضوعات والرموز
١. الكتابة كشاهد صامت
السطر الأول – “لا أحد يفهمك أكثر من الحروف” – يحدد نغمة القصيدة، حيث تصور الحروف ككائنات حية تحمل معرفة عميقة لكنها ترفض البوح بها. هذه الاستعارة للكتابة كشاهد صامت توحي بتوتر بين المعرفة والتعبير: الحروف تعرف كل شيء (“تعرف كل شيء ولا تتكلم”)، لكنها تختار أن تظل عاجزة، تاركة النص لغزاً غير قابل للفك.
٢. الانتحار المجازي للكتابة
“مكتوبة تبقى وتقتل نفسها” – عبارة قوية توحي بأن الكتابة، رغم خلودها الشكلي، قد تكون مدمرةً لذاتها. يمكن تفسير هذا كإشارة إلى إحباط الكاتب الذي يواجه قيود اللغة، أو كتشبيه لفكرة أن الكلمات المكتوبة قد تكون ناقصة، تاركةً المؤلف يشعر بالعجز.
٣. أبدية الأسئلة دون إجابات
“كم من الأفكار تدور في الذهن، / ونقاط استفهام بلا إجابات مكتوبة” – هنا تعبر الشاعرة عن وجودية لطيفة، موضحة أن الكتابة محاولة لإعطاء معنى للحياة، لكنها غالباً ما تكون عديمة الجدوى. علامات الاستفهام “بلا إجابات” ترمز إلى غموض الوجود الإنساني، حيث الأفكار لا نهائية لكن الإجابات مستحيلة.
٤. العودة الأبدية إلى البداية
“فصول لا تنتهي أبداً، / وتعيدك من البداية” – توحي بدورة مستمرة من الألم والبحث. يمكن ربط هذا بالتجربة الإنسانية، حيث يواجه المرء نفس التحديات مراراً دون الوصول إلى حل نهائي.
٥. القوة المحررة للكلام
ختام القصيدة (“أمرك، قل شيئاً، / الفكر شيء حر. / حتى لو انقلب العالم، / تكلّم، فهذا يشفيك!”) هو دعوة للتعبير الحر. على عكس الكتابة الصامتة التي “تقتل” ذاتها، الكلام المنطلق يُحرر. هنا تعكس عثماني رسالة البداية، مؤكدةً أن التعبير اللفظي، رغم التبعات، مُحرّر.
الأسلوب والتقنيات الفنية
• استعارة حية: الحروف تُجسَّد كشهود صامتين، مما يعطيها طبيعة غامضة.
• المفارقة: “مكتوبة تبقى وتقتل نفسها” – الكتابة خالدة لكنها انتحارية.
• التكرار والإيقاع: استخدام العبارات القصيرة والمكررة يخلق إيقاعاً سريعاً، يعكس دوران الأفكار في رأس الشاعرة.
• التناقض: في البداية، الكتابة صامتة وعاجزة؛ في النهاية، الكلام حرٌ ومُخلّص.
الخاتمة
“الكتابات” لفيتوره عثماني تأمل قوي في قوة وكلمات اللغة. من خلال استعارات عميقة وبنية ديناميكية، تعرض الشاعرة صراعاً داخلياً بين الحاجة للتعبير والخوف من سوء الفهم. في النهاية، رغم أن الكتابة قد تبدو سجناً، فإن الكلام الحر يظهر كأداة تحرير. هذا العمل ليس مجرد انعكاس على الكتابة، بل بيانٌ للتحدث بشجاعة، حتى عندما “ينقلب العالم”.
٤) “نهاية”
وَالظُّلْمَةُ يَأْتِيهَا النِّهَايَةُ يَوْمًا مَّا.
عِنْدَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ.
حَتَّى الشَّمْعَةُ المُضِيئَةُ تَنْطَفِئُ.
مِنْ نَفْسِ الرِّيحِ الخَفِيفَةِ الَّتِي تَغْلِبُهَا.
وَالنَّظَرُ لَهُ نِهَايَةٌ.
عِنْدَمَا تَغْمِضُ العَيْنَانِ.
يَتَّسِعُ العَقْلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، صَدِّقُونِي!
ظُلْمَةٌ بِلا نِهَايَةٍ فِي نَوْمٍ مَفقُودٍ.
آلَافُ الكَلِمَاتِ، الأَفْكَارِ وَالأَيِّدِيَاتِ.
تَبْقَى، فَقَطْ كَذِكْرَيَاتٍ.
كُلُّ شَيْءٍ، يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ مَا تَحْتَ الأَرْضِ.
يَبْقَى، يَبْقَى فَقَطْ الكَلِمَاتُ المَكْتُوبَةُ!
المقدمة
فيتوره عثماني هي واحدة من أبرز شاعرات الأدب الألباني المعاصر، حيث تتميز قصائدها بعمقها الفلسفي وحساسيتها العالية تجاه الوجود الإنساني. قصيدة “نهاية” هي تأمل في زوال الأشياء، النهاية الحتمية، وما يتبقى من الذكريات. في هذا التحليل، سنستكشف البنية، الموضوعات، الرموز، والجماليات في هذه القصيدة، مع تفكيك رسالة الشاعرة.
التحليل العميق للقصيدة
١. البنية والشكل
القصيدة قصيرة لكنها مكثفة، مكونة من ثمانية أسطر ذات بناء بسيط لكنه قوي. استخدام علامات الترقيم (مثل النقاط) يعزز إحساسًا بالختام والحتمية. القافية غير منتظمة، مما يركز على الإيقاع الداخلي والتأثير العاطفي.
٢. الموضوع الرئيسي: الزوال والنهاية
الموضوع الأساسي هو النهاية – نهاية الظلام، نهاية البصر، نهاية العقل. تستخدم عثماني صورًا بسيطة مثل الشمعة التي تنطفئ والعينان المغمضتان لترمز إلى الموت أو فقدان الوعي.
• “وَالظُّلْمَةُ يَأْتِيهَا النِّهَايَةُ يَوْمًا مَّا.”
هذا السطر يشير إلى أن لا شيء أبدي، حتى الظلام (الذي قد يمثل المعاناة، الجهل، أو الموت نفسه) له نهاية.
• “يَتَّسِعُ العَقْلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، صَدِّقُونِي! / ظُلْمَةٌ بِلا نِهَايَةٍ فِي نَوْمٍ مَفقُودٍ.”
هنا، تقدم الشاعرة تناقضًا: العقل قد يمتد في كل مكان، لكن نهايته هي “ظلمة بلا نهاية”، أي فناء أبدي.
٣. الرموز والاستعارات
• الشمعة – ترمز إلى الحياة، النور، لكن أيضًا الهشاشة. تنطفئ بـ”نَفْسِ الرِّيحِ الخَفِيفَةِ”، مما يوحي بأن أصغر المؤثرات قد تُنهي الحياة.
• البصر والعينان المغمضتان – تمثلان توقف الإدراك، ربما الموت أو فقدان الإحساس.
• “آلَافُ الكَلِمَاتِ، الأَفْكَارِ وَالأَيِّدِيَاتِ / تَبْقَى، فَقَطْ كَذِكْرَيَاتٍ.”
هنا، تؤكد عثماني أن كل ما يخلقه الإنسان (الكلمات، الأفكار) لا يبقى إلا كذكريات، مما يعكس زوال الوجود.
• “كُلُّ شَيْءٍ، يُدْفَنُ فِي مَكَانٍ مَا تَحْتَ الأَرْضِ.”
استعارة القبر تحت الأرض إشارة واضحة إلى الموت والنسيان.
٤. الأسلوب واللغة
لغة عثماني بسيطة لكنها أنيقة، مع اختيار دقيق للكلمات. تكرار الفعل “يَبْقَى” في نهاية القصيدة يؤكد فكرة بقاء الأشياء غير الملموسة – فقط “الكلمات المكتوبة” (أي الأدب والفن) هي ما قد يدوم.
٥. الصلة بالوجودية
القصيدة تحمل نفحة وجودية:
• الإنسان يواجه نهايته الحتمية.
• فقط الذكريات والكتابات تبقى كشهادة على الوجود.
• طبيعة كل شيء زائلة، وهو ما يتم التعبير عنه بأسلوب رثائي.
الخاتمة
“نهاية” لفيتوره عثماني هي تأمل فلسفي في فناء الحياة وما يخلفه الإنسان وراءه. من خلال صور بسيطة لكنها قوية، تقدم الشاعرة رسالة عالمية: النهاية حتمية، لكن ما نخلقه (خاصة الكلمات والفن) قد يبقى. القصيدة، ببنيتها المكثفة وعمقها الفكري، تستحق مكانة خاصة في الشعر الألباني الحديث، وتجعل القارئ يتأمل في معنى الوجود والإرث الذي نتركه.
٥) “وأكتُب”
كم للدموع هذه العينان
كم من الضجر في قلبي أشعر
كم مرّة لا أجد التفسير
آه، أذبل ولا ألاحظ.
آه يا قلبي يخفق بقوة
ويداي تتجمّدان ببطء
ما هذا الشعور يا رب؟
أسأل ولا أستطيع التغلّب.
لو كانت الدموع كلمات
هل كنت ستفهمونني؟
لو كان الصمت يُسمَع
ماذا كان سيفعل الآخرون؟
أحاول ألا أترك أثرًا
وأقصر الكتابات
أخفي الأفكار
أكتب ولا أتوقف أبدًا.
تحليل نقدي: “وأكتب” فيتوره عثماني – أزمة داخلية وعلاج بالكلمة
مقدمة
في مشهد الشعر الألباني الحديث، خاصة ذلك الذي يستكشف أعماق النفس الأنثوية والوجودية اليومية، تبرز فيتوري عثماني كصوت واضح لا يعرف التزعزع. قصيدتها “وأكتب” تمثل كونًا مصغرًا متكاملاً من عالمها الفني: فهي صلاة علمانية، واعتراف صامت، وبيان بقوة الكتابة المنقذة. هذه القصيدة ليست مجرد وصف للألم، بل هي عملية الشفاء ذاتها، عملية تُقرأ في كل سطر، وفي كل توقف، وفي كل علامة استفهام موجهة إلى الآلهة والناس. إنها تدعونا للتعمق في حالة روحية تكون الكلمات غير كافية، ولكن حيث تصبح الكلمة المكتوبة هي الدواء الوحيد.
تحليل معمق
١. البنية وتصاعد التوتر العاطفي
تم بناء القصيدة بهيكلية تعكس تصاعدًا تدريجيًا للتوتر الداخلي. المقاطع الأربعة الأولى تشكل تصاعدًا عاطفيًا:
• المقطع 1: يضع المشهد بانزياح أليم (“أذبل ولا ألاحظ”). الألم أبدي ولا يمكن تفسيره (“كم مرّة لا أجد التفسير”).
• المقطع 2: يصبح التوتر جسديًا، يمكن الإحساس به. القلب يخفق “بقوة”، اليدان “تتجمّدان”، مما يدل على قلق يظهر جسديًا. السؤال الموجه مباشرة إلى الله (“يا رب؟”) يرفع المناجاة إلى مستوى وجودي.
• المقطع 3: تصل الذروة التخمينية والفلسفية. المتحدثة تلعب بمفارقة: للتعبير عن ألمها الذي لا يُعبّر عنه، تسعى لترجمة دموعها إلى كلمات وصمتها إلى صوت. هذه استعارة رائعة عن مهمة الشاعرة: فهي المترجمة للعالم غير المرئي إلى المرئي.
• المقطع 4: الحل والتفكك. يتم حل التوتر ليس بإجابة خارجية، ولكن بفعل داخلي حازم: “أكتب ولا أتوقف أبدًا”. الخاتمة ليست سعيدة، ولكنها حازمة ونشطة. عملية الكتابة تصبح الهدف والعلاج الذاتي.
٢. والرموز الأساسية
• الدموع والكلمات: توجد في القصيدة حالة توتر بين التعبير اللفظي وغير اللفظي. الدموع هي اللغة الحقيقية غير الملوثة للروح، بينما الكلمات هي المحاولة البشرية غير الكافية للإمساك بها. الرغبة في أن تكون “الدموع كلمات” هي رغبة في تواصل مثالي، حيث تنتقل العاطفة الخالصة دون فقدان.
• الصمت: الصمت ليس فراغًا، ولكنه مشحون بالمعنى. إنه شخصية بحد ذاته. الرغبة في أن “يُسمَع الصمت” هي واحدة من أقوى التصريحات في القصيدة. تقف هذه الرغبة في مقابل الضجيج الفارغ للعالم وتطالب بنوع من الاستماع الصوفي، حيث تغيب الكلمات تتحدث من الكلمات.
• الكتابة كفعل مُخَلّص: فعل الكتابة هو مركز القصيدة. يُعرض على أنه تناقض: من ناحية، هو فعل إخفاء (“أخفي الأفكار”، “أقصر الكتابات”، “ألا أترك أثرًا”)، كرغبة في المرور في العالم دون أن يُلاحَظ. من ناحية أخرى، هو فعل تهذيب وضبط. باختصار الكتابات وإخفاء الأفكار، فهي تُكثف ألمها إلى جوهره الأصفى. الكتابة هي الطقس الذي يحول الألم الفوضوي إلى شيء مُدرَك، خاضع للسيطرة، وفي النهاية، يمكن تحمله.
٣. اللغة والأسلوب
تستخدم عثماني لغة نقية، مكثفة وقليلة الاستعارات، مما يعطي القصيدة إحساسًا بالصدق والفورية. تكرار أداة النفي “كم” في بداية الأسطر يؤكد على استثنائية وضخامة غير مسبوقة للألم. استخدام التعجب (“آه”) والأسئلة البلاغية، خاصة تلك الموجهة إلى الله، تضع القصيدة على الحد الفاصل بين النحيب والصلاة، مما يعمق البعد الوجودي. الإيقاع يُخلَق من خلال التوقفات الداخلية وخفقان القلب الذي يُسمع في الخلفية، مما يجعل القراءة تجربة شبيهة بالتأمل.
خاتمة
“وأكتب” فيتوره عثماني لا تنتهي بحل، بل بقرار. الخاتمة ليست إيجاد إجابة أو فهم من العالم الخارجي، بل هي إقرار عملية البحث ذاتها. الكتابة تصبح الوسيلة والهدف، الطريق والوجهة. في عالم قد لا يفهم الناس فيه الدموع والصمت، وحيث قد يبقى الله صامتًا، تبقى الورقة والقلم الرفيقين الوحيدين المخلصين.
القصيدة، في نهاية المطاف، هي انتصار للضعف وتحوله إلى قوة. إنها تُظهرنا أنه على الرغم من أننا قد نكون عاجزين عن “التغلّب” (كما تقول الشاعرة) على الألم، إلا أننا قادرون على إدارته والتحكم فيه وتحويله إلى فن الفعل المتواصل للكتابة. “وأكتب” هي للقوة المنقذة للأدب، ليس كخلاص يُمنح من الخارج، ولكن كخلاص نمنحه لأنفسنا بالعودة إلى الداخل والاستماع إلى صمتنا. إنها واحدة من تلك القصائد النادرة التي لا تقول فقط شيئًا جميلًا، بل تفعل شيئًا مفيدًا: إنها تشفي.
خاتمة
تمثل قصائد فيتوره عثماني الخمس نسيجًا شعريًا متماسكًا، يجمع بين البساطة والعمق، بين الذاتي والكوني. هذه القصائد، تؤسس الشاعرة لعلاقة خاصة بين الكاتب والكلمة، بين الألم والكتابة، بين الصمت والتعبير. لقد نجحت عثماني في تحويل التجربة الشخصية إلى خطاب شعري يحمل رسالة إنسانية، تجعل من الكتابة وسيلة للمقاومة والبقاء.
هذه النصوص ليست مجرد تأملات شخصية؛ إنها دعوة عالمية للتأمل في قوة الكلمات، وحتمية النهايات، ومرونة الروح الإنسانية. فيتوره عثماني تذكرنا بأن الشعر ليس ترفًا، بل ضرورةٌ وجودية، وأن الكلمة قد تكون أحيانًا الملاذ الوحيد في عالمٍ يموج بالصمت والغموض.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]