فقه اللغة العربية بين التفكيك البنيوي والترابط السيميائي:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
–المقدمة:
يُعدّ فقه اللغة العربية أحد أعرق العلوم التي تأسست في الحضارة الإسلامية للكشف عن أصول الألفاظ وتاريخها ودلالاتها، لكنه ظلّ في الوعي التقليدي علماً مقصوراً على الاشتقاق والنحو والصوتيات والمعاجم. غير أنّ تطوّر النظريات اللسانية والفلسفية في الغرب منذ البنيوية وصولاً إلى التفكيكية والسيميائيات فتح أفقاً جديداً يعيد النظر في النصوص العربية، ليس باعتبارها أوعية للمعنى فحسب، بل كشبكات علامات قابلة للتفكيك والتأويل. وهكذا يصبح فقه اللغة اليوم ملتقى بين التفكيك البنيوي الذي يخلخل استقرار البنية، والتحليل السيميائي الذي يدرس العلامات في ترابطها الثقافي والاجتماعي.
—أولاً: فقه اللغة بين التقليد والتجديد.
كان ابن جني (ت. 392هـ) في الخصائص من أوائل الذين أدركوا أن اللغة ليست بريئة، بل هي “أصوات يُعبّر بها كل قوم عن أغراضهم”، أي أنها حاملة للنية والغرض والثقافة. واهتم الجرجاني (ت. 471هـ) في دلائل الإعجاز بفكرة النظم، حيث المعنى لا ينفصل عن التركيب. هذه الإشارات التأسيسية تلتقي مع ما طرحه لاحقاً فرديناند دي سوسير (1857-1913) في محاضرات في اللسانيات العامة، من أن اللغة نسق من العلامات يقوم على علاقة الدال بالمدلول.
لكنّ البنيوية لم تلبث أن اهتزت مع جاك دريدا (1930-2004) الذي رأى أن المعنى مؤجَّل دوماً، وأن النص لا يحتوي حقيقة واحدة بل ينفتح على لانهائية من القراءات. هذا الأفق يجعل فقه اللغة العربي قابلاً للتجديد، إذ لم يعد المعجمي أو النحوي وحده قادراً على حسم الدلالة، بل بات النص يحتاج إلى منهج تفكيكي وسيميائي يكشف طبقاته المتراكبة.
—ثانياً: التفكيك البنيوي والنص العربي.
يعمل التفكيك على خلخلة استقرار النصوص وإبراز تناقضاتها الداخلية. فإذا طبقناه على الشعر العربي، القديم أو الحديث، وجدنا أن الوزن والقافية – اللذَين عُدّا قديماً قيوداً شكلية – يتحولان في القراءة التفكيكية إلى فضاء تناقض: بين التقييد والإبداع، بين التكرار والاختلاف. كما تكشف الصور البلاغية عن توتر بين ظاهر الحُسن وباطن الصراع النفسي.
يرى بول ريكور أن النصوص الكبرى ليست مجرد أقوال، بل “عوالم مفتوحة” تحيا عبر تأويل القارئ. وهذا ما يجعل القصيدة العربية فضاءً يتجاوز مقاصد الشاعر إلى إمكانيات القراءة المتعددة.
–ثالثاً: الترابط السيميائي والعلامة الثقافية.
السيمياء تدرس اللغة باعتبارها نظام علامات يتجاوز حدود اللفظ إلى الرمز والصورة والأسطورة. وقد أشار رولان بارت إلى أن النص “نسيج من اقتباسات” يتقاطع فيه الثقافي بالاجتماعي والسياسي. وبالمنظور العربي، نجد أن الرمز في الشعر – كالناقة عند الجاهليين أو الطلل – ليس مجرد علامة شعرية بل هو شيفرة ثقافية تعكس البنية الاجتماعية والأنثروبولوجية للعرب.
أما الشعر الحديث، من السياب إلى أدونيس، فقد أعاد إنتاج العلامات في سياقات جديدة، حيث تتحول مفردة “المطر” إلى دلالة على الخصب والحياة، لكنها في الآن نفسه علامة على الانكسار والخذلان الجمعي. هذا التعدد الدلالي لا يُفهم إلا عبر المنهج السيميائي الذي يدرس العلامة في شبكة علاقاتها.
–رابعاً: نحو فقه لغة جديد:
يستدعي الجمع بين التفكيك والسيمياء إعادة تعريف فقه اللغة العربية كعلم يتجاوز الاشتقاق والنحو إلى تأويل النصوص في أفق فلسفي ولساني.
_ من جهة التفكيك: نحن أمام نصوص لا ثبات لها، تُقرأ في ضوء تناقضاتها وانفتاحها على الاختلاف.
_ من جهة السيمياء: نحن أمام علامات متشابكة لا يمكن فهمها إلا باستحضار سياقها الثقافي والتاريخي.
وبذلك يتحقق ما دعا إليه هايدغر حين قال إن اللغة “بيت الوجود”، وما أكد عليه عبد الله العروي في مشروعه الفكري من أن اللغة ليست مجرد أداة، بل وعاء حضاري يشكل وعينا الجمعي.
— الخاتمة:
إن فقه اللغة العربية بين التفكيك البنيوي والترابط السيميائي ليس مشروعاً نظرياً فحسب، بل هو دعوة لتجديد علاقتنا بالنصوص العربية الكلاسيكية والحديثة معاً. فالتفكيك يحرر النص من سلطة القراءة الأحادية، والسيمياء تكشف عن شبكة العلامات التي تصوغ وعينا الثقافي. وبذلك يصبح الأدب العربي مجالاً للحوار مع الفكر الإنساني الكوني، حيث تلتقي إشارات ابن جني والجرجاني مع تنظيرات سوسير ودريدا وبارت، في أفق معرفي يفتح اللغة على غير المحدود من المعاني والتأويلات.