الأفق الكنائي للكتابة بين الواقع والمتخيَّل: جدلية الأدب والكينونة:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
إنّ التفكير في الأفق الأدبي للكتابة ليس سؤالًا شكلياً يتعلّق بالتصنيف أو بالانتماء إلى جنس أدبي معيّن، بل هو في جوهره سؤالٌ في فلسفة الأدب: ما حدود علاقة النص بالواقع؟ أهو انعكاس مباشر له، أم هو تأسيس لعالم مستقلّ يتجاور مع الواقع في علاقة استعارية مفتوحة؟
فالكتابة الكنائية – كما تُعرّفها البلاغة – تقوم على الإحالة الجزئية أو التعويضية، حيث يُذكر الشيء ويراد غيره، وكأنها في مستوى ما تفترض أحادية الواقع و«جاهزيته» للتمثيل. هنا يغدو الأدب «مرآة» للواقع، أو «ظلًّا» له، كما ذهب لوكاتش في حديثه عن الواقعية النقدية التي تعكس البنية الاجتماعية. لكن هل يكفي أن يكون الأدب مجرد صورة للواقع كي يكتسب قيمته الجمالية والمعرفية؟
من جهة أخرى، تنبثق الكتابة الاستعارية التي تفترض أنّ الواقع ليس واحداً، بل هو متعدد ومتغير، متشابك مع الصيرورات التاريخية والاجتماعية. وهنا ينفتح الأدب على إمكانات لا نهائية للتمثيل، فيغدو ليس نسخة من الواقع بل إعادة إنتاج له، أو حتى نقيضاً له. بهذا المعنى، تصبح العلاقة بين الأدب والواقع علاقة جدلية: الأدب يُفكّك الواقع ويعيد صياغته في صور جديدة، كما يرى أدونيس حين يعتبر الشعر «فعلاً مستقبلياً» لا يصف العالم بل يغيّره.
لقد وعى كبار المفكرين العرب هذا التوتر: يقول محمود أمين العالم إن الأدب لا يمكن أن يُختزل إلى «انعكاس» للواقع، بل هو «وعي جمالي» يُعيد بناء هذا الواقع في ضوء جدلية الحرية والتاريخ. بينما نجد عند عبد الله العروي أنّ الأدب «مساحة تأويل» يتشابك فيها الذاتي بالجماعي، فيعيد صياغة الواقع ليكشف تناقضاته. أما إدوارد سعيد، فقد ذهب أبعد حين أكّد أنّ النص الأدبي ليس بريئًا، بل هو نتاج خطابٍ متشابك مع السلطة والثقافة والهوية.
من هذا المنظور، نستطيع القول إنّ الأفق الأدبي للكتابة لا يُحدَّد فقط بمقدار ما يحمله النص من «واقع»، بل بمقدار ما يخلقه من مسافة نقدية بين اللغة والواقع، بحيث يغدو الأدب فضاءً لتفجير المسكوت عنه، لا لتدوين الجاهز. فالكنائية – بما هي تمثيل مباشر – قد تُفضي إلى أدب وصفيّ يحاكي الواقع، أما الاستعارة فتمنح النص قوّة الانفصال والابتكار، لتُشيّد عالماً يتجاوز المعيش نحو الممكن.
إنّ الكاتب، في النهاية، يقف عند مفترق: إما أن يجعل نصه ظلاً للواقع، أو أن يحوّله إلى شمسٍ أخرى، تُضيء زوايا لم يرها أحد من قبل. وقد عبّر جبران خليل جبران عن هذا ببلاغة حين قال: «ليست الغاية من الأدب أن يصوّر ما نراه، بل أن يفتح أعيننا على ما لم نره بعد». وهنا يظهر الأدب لا كمجرّد انعكاس، بل كفعل إبداعي كاشف، يُقيم جدلية متوترة بين النص والعالم، بين الحرف والكينونة، بين الحاضر والممكن.