الشعر العربي والشعر الغربي: بين بنية القول وجوهر الرؤية:
بقلم عماد خالد رحمة _ برلين.
_أولًا: الشعر العربي – بين الأصالة والنسق الموروث.
منذ الجاهلية وُضع الشعر العربي في موضع “ديوان العرب”، حيث كان وسيلة لحفظ التاريخ والأنساب، ومجالًا للتعبير عن البطولة والفخر والهجاء والغزل. وقد تعددت تعريفاته تبعًا لتطوّر الدرس النقدي واللغوي. فقد جاء في لسان العرب لابن منظور أنّه «منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية»؛ أي أن الوزن والقافية كانا بمثابة الشرط البنيوي الذي يضمن انتقال الكلام من دائرة النثر إلى رحابة الشعر.
أما الفيّومي فقد ضبط حدود الشعر في المصباح المنير حين قال: «هو النظم الموزون، المقفى المقصود»، واضعًا أربعة أركان أساسية: المعنى، الوزن، القافية، والقصد. فإذا اختلّ واحد منها انفرط عقد الشعر. بينما وسّع الجرجاني المعنى، معتبرًا الشعر «علمًا من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء»، ليؤكد أن الشاعر ليس صانع وزن فحسب، بل فنانًا يحمل ملكة الإبداع والتمييز.
هكذا ارتبط الشعر العربي بـ”المعيارية الشكلية”، حيث ظلّ الوزن (بحور الخليل) والقافية علامات فارقة في تعريفه، قبل أن تأتي قصيدة التفعيلة ثم قصيدة النثر في العصر الحديث لتفتح ثغرات في هذه البنية، مستفيدة من التأثر بالحداثة الغربية.
—ثانياً: الشعر الغربي – من الملحمة إلى الحداثة.
يختلف الشعر الغربي من حيث التكوين البنيوي والتاريخي. فقد نشأ في رحم الأسطورة والملحمة (الإلياذة لهوميروس، والإنيادة لفرجيل)، حيث كانت البنية قائمة على السرد البطولي، ثم تدرّج ليعكس تحولات الفكر الأوروبي:
_1. عصر النهضة : صعدت الفردية، وبدأ الشعر يبتعد عن الميتافيزيقا اللاهوتية ليعبّر عن “الإنسان” بما هو ذات حرّة.
_ 2. الكلاسيكية الجديدة: اتجه الشعراء إلى المحاكاة مع مراعاة الانسجام والتوازن، كما عند ألكسندر بوب.
_ 3. الرومانسية: ثورة على القيود، وانحياز للعاطفة والخيال، كما في قصائد ووردزورث وكولريدج.
_ 4. الواقعية والرمزية: ظهر اتجاه يصف تفاصيل الحياة اليومية بصدق (الواقعية)، في مقابل تيار يراهن على الغموض والرمز (بودلير، مالارميه).
_ 5. الفن للفن : حيث تصبح اللغة غاية بذاتها، كما عند أوسكار وايلد وشارل بودلير.
_ 6. الحداثة وما بعدها: قصيدة “الأرض الخراب” لت.س. إليوت تعدّ أنموذجًا للقصيدة الكونية، المليئة بالرموز والأساطير، والتي كسرت عمود الشعر التقليدي الغربي.
—ثالثاً: مطات الالتقاء والتفارق بين الشعرين:
_ في الوزن والقافية: ظل الشعر العربي أوفى لنسق العروض، بينما تحرّر الشعر الغربي منذ وقت مبكر من قيود الإيقاع الصارم، خصوصًا مع وولت ويتمان الذي فتح أفق “الشعر الحر”.
_ في الوظيفة: كان الشعر العربي في أصله “وظيفيًا” (مدح، هجاء، رثاء)، بينما اتجه الشعر الغربي تدريجيًا إلى استقلالية الفن والفردية، حتى وصل إلى “الفن للفن”.
_ في الرمز والأسطورة: استند الشعر العربي على مخزون قبلي وديني، في حين غاص الشعر الغربي في الأساطير الإغريقية والرموز المسيحية، ثم أعاد تشكيلها في الحداثة.
في التداخل الثقافي: مع حركة الترجمة في القرن التاسع عشر، تأثر شعراء العرب (خليل مطران، جبران، السياب) بالرمزية والحداثة الغربية، مما أدى إلى نشوء القصيدة الحرة وتفكيك عمود الشعر.
—نصوص تطبيقية للمقارنة:
يقول المتنبي في تصوير بطولة سيف الدولة:
«إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ *** فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ»
هنا نرى تماهي الشعر العربي مع الفخر والمديح، محكومًا بصرامة الوزن والقافية.
بينما نقرأ عند ووردزورث (Wordsworth):
“Poetry is the spontaneous overflow of powerful feelings; it takes its origin from emotion recollected in tranquility.”
أي أن الشعر هو فيض عاطفي جارف يتولد من استرجاع لحظة وجدانية بهدوء. الفارق واضح: هنا العاطفة والداخلية، وهناك البطولة والظاهرية.
وعند ت.س. إليوت في “الأرض الخراب”:
“April is the cruellest month, breeding
Lilacs out of the dead land, mixing
Memory and desire, stirring
Dull roots with spring rain.”
(نيسان أقسى الشهور، يبعث الليلك من أرض ميتة، ويمزج الذاكرة بالرغبة، ويحرّك الجذور الخاملة بمطر الربيع).
هنا نجد أن الشعر أصبح فضاءً رمزياً كونياً، يزاوج بين الموت والبعث، بعيداً عن التحديد الوظيفي التقليدي للشعر العربي القديم.
— خاتمة:
إن بنية الشعر العربي والشعر الغربي تقاطعت في كونها محاولة لإعطاء “شكلٍ جمالي للمعنى الإنساني”، لكنها تباينت في الطريق: فالعرب حافظوا طويلًا على صرامة الوزن والقافية باعتبارها معيار الشعر، بينما الغرب تحرّر مبكراً ليجعل من الشعر تعبيراً عن الفردية والرمز والفن لذاته. ومع ذلك، فإنّ لحظة التلاقي المعاصر أوجدت فضاءً جديداً هو “قصيدة الحداثة العربية”، التي ما تزال تسعى إلى التوازن بين “الأصالة الوزنية” و”حرية الخيال”.