لتأمل كأعلى صورة للنشاط العقلي: بين الإبداع والنقد، النص والمنقود
بقلم: عماد خالد رحمةـ برلين.
في مجال فلسفة الأخلاق، اعتبر أرسطو التأمل أعلى صورة للنشاط العقلي، ومنحه منزلة فائقة ضمن سلم الفضائل. فالتأمل، عنده، ليس مجرد عملية ذهنية عابرة، بل هو شكل من أشكال الاتصال العميق مع جوهر الكينونة، حيث يتراءى العقل لنفسه في صفائه المطلق، ويصل إلى إدراك القيم العليا التي تحكم العالم. ويرتبط هذا التمييز عند أرسطو بفصل العمل الجسماني الذي يقوم به العبيد عن وقت الفراغ الذهني الذي هو امتياز للإنسان الحر، أي الإنسان الذي يستطيع أن يرفع عقله فوق ضغوط الحياة اليومية، متفرغًا للتأمل الفلسفي، وهو الفصل الذي كان سمة أساسية للدولة اليونانية القديمة القائمة على نظام ملكية العبيد.
المثال الأعلى للأخلاق كما يراه أرسطو هو الله، كعقل يُفكر في ذاته ويُدرك ذاته، وهو النموذج الكلي للتأمل العقلي الصافي، كما جاء في الميتافيزيقا والأخلاق النيقوماخية. وهذا التأمل ليس ترفًا نظريًا، بل غاية عليا، لأنه يحوّل العقل البشري من أداة للاستجابة للمصالح الشخصية والمادية إلى أداة للإدراك الكلي للحقيقة والعدالة، وللمعنى الأخلاقي للحياة.
إذا انتقلنا إلى التفكير النقدي، نجد أن هذا المفهوم الفلسفي يتقاطع مع النقد الأدبي بعمق، حيث يقارب الناقد النص الإبداعي بتأمل عقلاني دقيق. يقول أبو حيّان التوحيدي: “الكلام على الكلام صعب”، في إشارة إلى طبيعة النقد كعملية وصفية تبدأ بعد الإبداع مباشرة، وتهدف إلى قراءة الأثر الأدبي، وإظهار مواطن القوة والجودة، ومناطق الضعف والرداءة. ومن هنا، يُطلق على النص الذي يُفحص ويُقارن بالنص المنقود، فيما يُعرف صاحب العملية بالناقد، لأنه يحاكم النص ويقيسه وفق معيار الحقيقة والجودة.
لكن منذ مرحلة ما بعد البنيوية، ومع التصور السيميوطيقي وجمالية التقبل، خفّ وزن دور الناقد التقليدي. صار القارئ، في حد ذاته، يمارس فعل النقد والإبداع معًا؛ إذ يُعاد إنتاج النص وتفسيره، ويُعاد بناءه من جديد وفق تفاعل قارئي معانيه الرمزية والدلالية، متجاوزًا التقييم الأحادي للنص الأصلي. وهكذا، يصبح التأمل في النص، تمامًا كما التأمل العقلي عند أرسطو، نشاطًا حرًّا للذهن، يمكّن الإنسان من إدراك العمق الأخلاقي والجمالي للنص، بعيدًا عن القيود الشكلية والإيديولوجية.
إن هذا التشابه بين الفلسفة والنقد الأدبي ليس مجرد حالة نظرية، بل يعكس طبيعة النشاط العقلي الإنساني نفسه: فكما أن التأمل يحرر العقل من قسوة العمل المادي ويتيح له النظر إلى الكليات والحقائق العليا، كذلك النقد المعاصر يُحرّر النص من أسر الشكل التقليدي، ويكشف عن عمقه الرمزي والأخلاقي والثقافي. وكما لاحظ الفيلسوف الألماني إريك فروم في كتابه الهروب من الحرية، فإن الإنسان في لحظة التأمل يستعيد ذاته الحقيقية، ويخرج من قيود العزلة النفسية والاجتماعية، وهو ما ينسجم مع رؤية كارل ماركس حول الاغتراب: فالحرية الحقيقية للإنسان تتحقق حين ينفصل عن القيود التي تفرضها الظروف الاقتصادية والاجتماعية، فيصبح قادراً على إعادة إدراك ذاته كفاعل حر ومبدع.
وفي هذا الإطار، يصبح النص الإبداعي ليس مجرد وسيلة للتسلية أو نقل المعلومات، بل فضاءً للتأمل العقلي والفكري، حيث تتجلى أبعاد الأخلاق والجمال والوعي. والناقد، أو القارئ النقدي المعاصر، ليس مجرد حكم على النص، بل شريك في العملية الإبداعية، يعيد بناء النص ويفتح آفاقه للمعاني التي قد لم يقصدها المؤلف بالضرورة، بما يشبه تأمل العقل في ذاته العليا عند أرسطو: نشاط حرٌّ، عميق، وذي قيمة قصوى للإنسانية.
إن التأمل في النص كما في الحياة، هو النشاط الذي يجمع بين المعرفة والوعي، بين الحرية والإبداع، بين الفرد والمجتمع. وهو الذي يمنح المثقف العربي، أو أي مثقف في العالم المعاصر، القدرة على تجاوز الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، واستعادة مركزه كفاعل حرّ ومبدع، قادر على فهم العالم، وفهم ذاته، وإعادة صياغة معاني الحياة الإنسانية بأعلى صورها.
ضد الوجبات السريعة /رضا بوقفة
مقال ضد الوجبات السريعة: دفاعا عن الأدب البطيء مقدمة: في زمن يتسارع فيه كل شيء،حيث تقدم لنا الخوارزميات محتوى جاهزًا...
اقرأ المزيد