ميلاد الفجر من رحم الليل
كان الليل طويلًا،
ثقيلًا كأحجار سوداء تسقط على صدر الأرض،
والأفق مكسور،
والقمر غريب كيتيم بلا بيت.
المدن تنوح،
والأمهات يعددن أسماء الغائبين،
كأنهنّ يُحصين قطرات دموعهن.
لكن في قلب مصر،
في الطين الدافئ، في العرق المالح، في الحقول والطرقات،
كان سر خفي يتردد:
“لن أبقى منكسرة،
لن أترك الليل يأسرني،
سألد فجرًا جديدًا.”
وفجأة…
انشق الرحم الغامض للقدر،
وجاء السادس من أكتوبر،
ساعة الميلاد،
حين دوّى الصوت: الله أكبر!
لم يكن صدى جنود،
بل ارتجاف الأكوان،
ونفَس التاريخ وهو يولد من جديد.
انطلقت الطائرات كطيور عائدة من منفاها،
ترسم على صفحة الغيم قصائد حرية.
وانطلقت المدافع كأناشيد سماوية،
تقرع في الصحراء طبول القيامة.
أما الجنود،
فقد سبحوا في الماء ككواكب تمزق حجاب الليل،
يحملون قواربهم فوق أكتافهم،
كما تحمل الأرواح أقدارها،
وفي عيونهم أم تنتظر،
وفي قلوبهم وطن يهتف:
“امضوا… لن تُهزموا.”
كان الماء باردًا كالعدم،
لكن قلوبهم مشتعلة كالشمس،
وكان الرصاص يهطل كالمطر،
لكن الأجساد تمضي كالأبد.
واحد يضحك وهو يعبر النار،
آخر يركع ليقبّل الأرض الموعودة،
وثالث يرفع علمًا بيد دامية،
فتتحوّل الدماء إلى أجنحة بيضاء.
في سيناء،
ارتسمت لحظة التجلّي:
دماء تنزف فتكتب آيات جديدة،
أشلاء تتحوّل إلى معارج،
وأرواح تضيء السماء كنجوم أبدية.
لم يكن الشهيد جسدًا غائبًا،
بل بذرة فجر تتفتّح،
وكان ابتسامه لحظة الرحيل
أعمق من كل خطب الأرض.
وفي الخنادق،
كان الجنود يحلمون:
واحد يكتب لأمه:
“لا تبكي يا أمّي،
أنا صرت جزءًا من النيل،
كلما ارتويت منه، ستجدينني في جرعة الماء.”
آخر يبتسم لصورة زوجته:
“سأعود لأزرع معها سنابل قمح،
ولن نزرع بعد اليوم دموعًا.”
وثالث يرفع عينيه للسماء،
فيرى وطنًا من نور في الغيب.
وفي القرى،
حين صاح المذيع: “قواتنا عبرت القناة”،
انفجرت الزغاريد كأنها انفجار نجوم،
وتحوّلت الشوارع أنهارًا من البشر،
يغنون للوطن الذي عاد من موت طويل.
وفي القاهرة،
ارتفعت الأعلام كأجنحة ملونة،
وتوزّعت الحلوى كأعياد الفطر ورمضان،
وشيخ يبكي ويقول:
“رأيت الهزيمة،
لكن الله أكرمني أن أرى القيامة.”
وأم تهمس والدمع في عينيها:
“ابني صعد إلى السماء،
لكنه ترك لي على الأرض
ميلاد وطن.”
أكتوبر لم يكن عبور قناة،
بل عبور روح،
انتقال من موت بطيء إلى حياة أبدية،
✍ سعيد إبراهيم زعلوك