(حين تصبح الحروف أوطانًا: ماذا تكتب المرأة حين تنكسر- بقلم منار السماك)
كم هو موجع أن يُقيَّد صوت المرأة بالنعومة، وتُختصر عاطفتها في الصبر، ويُطلب من انكسارها أن يمرّ بصمت
في مجتمعات تُجمّل الصمت وتخشى البوح، تصبح الكتابة ملاذًا داخليًا لا يُرصد، ولا يُحاسب، ولا يُقصّ.
في هذا الملجأ، لا يُروى الحزن كموقف عابر، بل كحالة تُعاش في الخفاء و لا تُقدَّم فيه إجابات، بل تُلتقط منه شظايا الأسئلة التي لم تجد لسانًا آمنًا تنطق به الكلمات هنا ليست مرآة، بل ستائر تُغلق على حرائق لا يراها أحد.
والمرأة التي تكتب، لا تشرح وجعها انما تُقاومه، حرفًا بعد حرف، كي لا يبتلعها.
عالم يُطالَب فيه جسد المرأة بالاحتشام، وصوتها باللين، وعاطفتها بالهدوء
من يجرؤ أن ينظر في انكسارها مباشرة؟
من يحتمل أن يسمع صوت سقوطها الداخلي دون أن يقاطعه بجملة ملساء مثل كلنا نمر بظروف ؟
المرأة حين تنكسر، لا تتشظى علنًا لكنها تسقط بصمت، مثل كوب زجاج في غرفة مظلمة لا أحد رأى الكوب وهو ينكسر، لكن الجميع يطلب منها أن تنظّف المكان.
ولأنها لا تستطيع الصراخ،
ولأن الغضب مكروهٌ في فمها،
ولأن الحزن مكشوف ومُحرج إن خرج من عينيها،
تلجأ إلى الشيء الوحيد الذي لا يُعاقبها عليه أحد: الكتابة.
لكنها لا تكتب لتقول الحقيقة، بل لتنجو منها
لا تكتب لأنها تعرف ما تشعر به، بل لأن الشعور يتسرب منها كغازٍ سام ولا شيء يجمّع ما يتسرب مثل الكلمات.
حين تكتب المرأة، فهي لا تدوّن أفكارًا بل تُرمم جرحًا غير مرئي، تصوغ خريطةً شخصيةً للخروج من خرابها الخاص
المرأة لا تكتب من باب الرفاهية أو التسلية، ولا حتى من أجل التعبير عن الذات.
إنها تكتب لأن ما بداخلها أكبر من أن يُحتوى في الأعضاء الحيوية تكتب لأن الحزن لا يعرف طريق الخروج، ولأن الذاكرة لا تتقن حذف الملفات.
الكتابة بالنسبة لها ليست شفاءً، بل مقاومة بطيئة
في المجتمعات التي تطلب من المرأة أن تكون صامدة، ومرنة، ومحتسبة،
تصبح الكتابة أداة مقاومة ناعمة، لا تُرصد بالرادار
المرأة التي تكتب، لا تقول الحقيقة كما هي،
بل تمرّرها عبر استعارات:
• تقول: الليل طويل، لكنها تعني أن لا أحد ينتظرها.
• تقول: قلبي من زجاج هش، لكنها تعني أن أحدهم كسرها ثم أنكر فعلته.
• تقول: أبحث عن نوافذ تفتح على ليل بلا نجوم، لأنها لم تعد تؤمن بالنهار هي لا تكتب لتشرح بل لتصنع
لغة خاصة بها، لأن اللغة العامة لا تحتمل وجعها.
وعندما تعجز الحقيقة، تتدخل الرمزية السريالية لا تبدأ هنا كفن، بل كوسيلة لمواصلة الحياة
فالمرأة التي انكسرت، لا تكتب عن خيانته، بل تقول إن المطر نسي الطريق إلى نافذتها، أو أن الوقت ينزف بين أصابعها، أو أن وجهها لم يتعرف عليها في المرآة
هي تُخفي أوجاعها في الرموز، لأن التسمية المباشرة قد تقتلها، أو تجرح من لا يجب جرحه، أو ببساطة لن يفهمها أحد وأحيانًا، تكون السخرية درعًا نفسيًا ضد الانهيار
المرأة التي تكتب بسخرية، لا تضحك
بل تسخر من هشاشتها كي لا تسحقها
تُعلّق على الألم، كي لا يعلّق بها
تكتب عن قلبها كأنه جهاز مستعمل،
وعن الحب كأنه إعلان تجاري سيئ الإنتاج،
وعن الحياة كأنها غرفة انتظار أبدية.
ليست عدائية، لكنها مُنهكة.
وليست باردة، لكنها أنهت كل طاقتها في محاولة الحفاظ على الدفء.
المرأة لا تكتب لتُشفى، بل لتبقى على قيد النفس لا الحياة
الكتابة ليست عزاءً، بل حبل نجاة ملفوف بالحبر.
هي لا توثّق الألم كي تتجاوزه، بل تكتبه لأن الصمت كان سيقتلها أولًا فإن لم تكتب لن يلاحظ أحد اختفاءها
سيظنون فقط أنها كانت دائمًا صامتة.