في أنثروبولوجيا الشعر العربي: من صهيل الجاهلية إلى خفوت المعاصرة:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
في أنثروبولوجيا الشعر العربي:
ليس الشعر العربي — في جوهره الأول — فنّاً لغويّاً فحسب، بل هو وثيقة أنثروبولوجية فريدة تروي حكاية الإنسان العربي في أصفى لحظات وجوده البدائي والعاقل. فمنذ العصر الجاهلي، تجلّى الشعر كوعي جمعي يختزن روح القبيلة وقلق الصحراء وشهوة الخلود. إنّ الشعر في أصله هو المرآة التي انعكست عليها بدايات الوعي الإنساني العربي حين كان الصوتُ فعلَ وجودٍ، والقصيدةَ تعويذةً ضدّ الفناء. لذا، لا يمكننا أن نفهم الشعر العربي — لا في عمقه الجمالي ولا في بعده الحضاري — دون أن نستعيد تلك اللحظة التأسيسية في الجاهلية، حيث كان الشاعر نبيّاً بلا وحي، يخلق لغته من الرمل والريح، ويقيم فيها عالماً من الرموز والمجازات التي تحمل أنفاس الحياة الأولى في هذا الوجود.
في تلك المرحلة، كانت القصيدة تجسيداً لمفهوم “الإنسان الكلي” في الثقافة العربية: المقاتل، العاشق، الحكيم، والمغترب في آنٍ واحد. ومن هنا، فإنّ دراسة الشعر الجاهلي لا تعني العودة إلى نصوص غابرة، بل هي استعادةٌ لأنساق الوعي التي صاغت وجدان الأمة. فالشعر الجاهلي ليس ماضياً منطفئاً، بل ناراً تحت رماد اللغة، ما زال جمرها يشعل المعاني في الشعر العربي الحديث.
النص الرئيس: الشعر العظيم وروح العلوّ.
حين نقرأ في عصرنا الراهن آلاف القصائد التي يزعم أصحابها أنها شعر، نجد أن كثيراً منها فقد تلك “الروح العليّة” التي تميّز الشعر العظيم. فالشعر، في جوهره، لا يُقاس بالزخرفة اللغوية، بل بمدى اقترابه من جوهر الإنسان. إن الشعر العظيم لا يصدر إلا عن روحٍ عظيمة، عن ذاتٍ تشتهي الارتقاء إلى مقام الوجود الأصفى، حيث يتوحّد اللفظ بالمعنى، والوجدان بالعقل، والإنسان بالكلمة التي تبرّر وجوده في هذا الكون.
ولعلّ أروع مثال على ذلك ما نجده عند شعراء الجاهلية الذين عاشوا الشعر كفعل حياة لا كترف فني. فامرؤ القيس لم يكن شاعر غزل فحسب، بل كان كائناً يطارد سرّ الكون عبر جسد المرأة وصهيل الخيل، وكأنّه يقول للعالم: “أنا أكتب لأنني أخاف أن أموت صامتاً.” وعنترة بن شداد حين قال:
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني، وبيض الهند تقطر من دمي
لم يكن يصف البطولة، بل يرسم أنثروبولوجيا الشرف العربي، حيث يمتزج العشق بالشجاعة، والدم بالكرامة، والوجود بالاختيار. أما زهير بن أبي سلمى، فكان في حكمته الأخلاقية تجسيداً لروحٍ تجاوزت نزعة القبيلة إلى نزعة الإنسان، إذ قال:
ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ
وإن خالها تخفى على الناس تُعلَمِ
إن هذه الأصوات لم تكن “تكتب شعراً” بقدر ما كانت تنحت وعياً جديداً بالإنسان والعالم، وتمدّ جذور الوجود العربي نحو معنى سامٍ للكينونة.
–بين الجاهلي والمحاصر: انكسار الروح واغتراب الصوت.
وفي مقابل تلك العظمة الوجودية التي تجلت في شعر الجاهليين، نرى في عصرنا الحديث شعراء “محاصَرين” — لا بالسجون فحسب، بل بالأفكار والقيود الاجتماعية والسياسية والنفسية. أولئك الذين يكتبون تحت سقفٍ من القهر، فيحمل شعرهم جرحاً عميقاً في وعي الأمة. لقد تحوّل الشعر عند هؤلاء إلى فعل مقاومة صامتة، يصرخ من أعماق الحصار ليذكّرنا بأن الشعر لا يموت ما دام الإنسان يعاني.
فالقصيدة في زمن الحصار ليست ترفاً بل شهادة، وليست زخرفاً بل نجاة من الموت الرمزي. وإذا كان الشاعر الجاهلي يصرخ في وجه الصحراء، فإن الشاعر المعاصر يصرخ في وجه الجدران، وكلاهما يبحث عن المعنى ذاته: أن يستعيد الإنسان كرامته في الوجود.
–خاتمة: نحو استعادة الروح الأولى للشعر.
إن الشعر العربي اليوم في حاجة ماسّة إلى أن يُعيد الاتصال بأنثروبولوجيته الأولى، إلى أن يستعيد تلك النار الأولى التي جعلت القصيدة خَلقاً لا تقليداً، وصوتاً لا صدى. إنّ العظمة في الشعر لا تُقاس بعدد قرّائه، بل بقدر ما تلامس جوهر الإنسان فيه. لذلك فإن أعظم الشعراء ليسوا الذين يُتقنون الوزن أو الصورة، بل الذين يتقنون الإصغاء إلى الوجود نفسه.
فالشاعر العربي الأصيل، سواء كان في الجاهلية أو في الحصار المعاصر، هو الذي يحمل في صدره الكون بأسره، ويترجمه في بيتٍ من الشعر كأنه يُعيد للغة وظيفتها الأولى: أن تخلق الحياة، لا أن تصفها.