السيميولوجيا بين الشعر الجاهلي والشعر العربي المعاصر: قراءة في تحوّلات العلامة وتاريخ المعنى:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
إنّ السيميولوجيا، بما هي علم العلامات والدلالات، لا تُعنى باللغة كوسيلة تواصل فحسب، بل بوصفها منظومة رمزية تمثل روح الثقافة وتاريخ الوعي الجمعي. فالعلاقة بين الشعر الجاهلي والشعر العربي المعاصر ليست مجرّد تتابعٍ زمنيّ في القول الشعري، بل هي تحوّل في أنظمة العلامة التي تنتج المعنى، وتعيد صياغة علاقة الإنسان العربي بالعالم، بالزمن، وباللغة ذاتها.
_ أولًا: السيميولوجيا بوصفها مرآة للتاريخ العربي:
منذ أن تغنّى امرؤ القيس بمعاني الصيد والمطر والحب والرحيل، كانت القصيدة الجاهلية بنيةً سيميائية مكثفة تعكس نظام القيم في المجتمع العربي القديم، حيث العلامة مرتبطة بالمحسوس: الناقة، الرمل، الطلل، السيف، القبيلة. إنّ كل مفردةٍ كانت تؤدي وظيفة ثقافية، فهي ليست مجرد كلمة، بل رمز لانتماءٍ وهويةٍ وموقفٍ من الوجود.
لقد أدرك علماء اللغة الأوائل كـ سيبويه والخليل بن أحمد الفراهيدي أن اللغة نظام دقيق من العلاقات الصوتية والدلالية، وهو ما مهّد، دون تسمية مباشرة، لولادة الفكر السيميائي العربي القديم. فالخليل مثلاً في “العين” لم يُرتب الألفاظ عشوائيًّا، بل وفق منطقٍ صوتيّ ودلاليّ متشابك، يؤكّد أن الكلمة في العربية كائنٌ حيٌّ يُولّد معناه من صوته وصورته الذهنية.
_ثانياً: من الدلالة القبلية إلى الدلالة الفردية.
في الشعر الجاهلي، كانت العلامة خاضعةً لسلطة الجماعة: فالمجاز والرمز والطيف الطللي كانت أدوات تثبيت للذاكرة الجمعية، تحافظ على تماسك البنية الثقافية للقبيلة.
أما في الشعر العربي المعاصر، فقد انقلبت العلاقة السيميائية رأسًا على عقب؛ إذ انتقلت العلامة من المجال الجماعي إلى الفردي، ومن المحسوس إلى المجرد، ومن الرمز القبلي إلى الرمز الوجودي. فحين يكتب أدونيس أو محمود درويش، فإنهما يعيدان بناء العلامة بوصفها أداة تفكيكٍ للعالم لا تمجيدًا له، ويُخضعانها لجدلية الذات والآخر، الحياة والموت، الزمن والذاكرة.
_ ثالثاً: تحوّل الصوت إلى معنى:
علم الأصوات العربي القديم قدّم أساسًا مهمًّا للسيميولوجيا المعاصرة؛ إذ رأى ابن جني في كتابه الخصائص أنّ “أكثر اللغة إنما هو تواضعٌ واصطلاح”، لكنه أقرّ بوجود “ملاءمةٍ بين أصوات الحروف ومعانيها”، وهي الفكرة التي سيُعيد رومان ياكبسون لاحقًا صياغتها في إطار السيميائيات الصوتية.
فالحرف عند العرب، كما في قول ابن جني، له قيمة دلالية نابعة من صوته: فالحاء والراء في كلمة حرّ توحيان بالامتداد والحركة، كما أن الجهر والهمس والرخاوة والشدة تحمل شحناتٍ رمزية كامنة في البنية الصوتية. هذه العلاقة بين الصوت والمعنى هي ما مكّن الشعر الجاهلي من بناء عالمٍ محسوس بالسمع قبل أن يكون مدركًا بالبصر، بينما تحوّل في الشعر المعاصر إلى إيقاع داخلي يجسّد اضطراب الذات الحديثة وتمزّقها.
_ رابعاً: العلامة بين المقدّس واليومي
كان الشعر الجاهلي يحتفي بالعلامة في بعدها الطقسي والأنثروبولوجي؛ فالماء رمز للحياة، والنار للضيافة، والدم للشرف. في المقابل، أصبح الشعر المعاصر يميل إلى تفكيك تلك الرموز وإعادة قراءتها ضمن سياقٍ وجوديّ وإنسانيّ جديد.
فحين يقول السيّاب:
“كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينامْ…”
فإنه يستبدل الأسطورة القديمة بعلامةٍ جديدة، تجعل من الطفولة رمزًا للبراءة والبعث، ومن المطر رمزًا للخصوبة والنهضة. وهكذا، يعيد الشعر الحديث إنتاج العلامة، لا بوصفها تراثًا لغويًا، بل فضاءً مفتوحًا لتأويل التجربة الإنسانية.
_ خامساً: السيميولوجيا والثقافة العربية الراهنة:
إن التحوّل من شعر الطلل إلى شعر الذات، ومن القصيدة الموزونة إلى قصيدة النثر، ليس تحولًا شكليًا فحسب، بل هو تحوّل في البنية السيميائية للثقافة العربية ذاتها. فحين انكسرت القصيدة العمودية، انكسرت معها منظومة العلامة القديمة التي كانت تستمد معناها من النظام الاجتماعي والديني المغلق، ليفسح الشعر المعاصر المجال أمام تعددية الدلالات، وتفكيك السلطة اللغوية والتاريخية.
وفي ضوء ذلك، تصبح السيميولوجيا اليوم أداة لفهم كيف تتغيّر الثقافة من خلال اللغة، وكيف تتحول العلامة من رمزٍ للقبيلة إلى علامةٍ للذات الباحثة عن حريتها، ومن خطابٍ جمعيٍّ إلى تجربة وجودية مفتوحة على العالم.
_خاتمة:
السيميولوجيا ليست علمًا مجرّدًا في سياق الشعر العربي، بل هي مفتاح لقراءة التحوّل الثقافي في الوعي العربي من الجاهلية إلى الحداثة. فبينما كان الشاعر الجاهلي يكتب ليحفظ الذاكرة، يكتب الشاعر المعاصر ليكسرها ويعيد تركيبها في زمنٍ جديد.
إنّ العلامة، في جوهرها، ظلّت الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر، بين الصوت والمعنى، بين الكلمة والكينونة. وهكذا يبقى الشعر العربي، قديمه وحديثه، مرآةً سيميائيةً لروح الأمة العربية وهي تتأرجح بين الذاكرة والتحوّل، بين الثبات والتجدد، بين الطلل القديم والرمز الكوني المعاصر.