في فضاء الحرف، حيث تتعانق اللغة بالشعور، وتلتقي الكلمة بنقائها الأصلي، تبرز تجربة الشاعرة نقيّة فهيم هاني كصوتٍ ينساب من عمق الجبل اللبناني، حاملاً بين حروفه دفء الذاكرة وارتعاش المطر وسَفَر الأمنيات.
هي التي جعلت من العربية وطنًا، ومن القصيدة مرآةً للذات، تعزف على أوتار الكلمة لحنًا يوازي نقاء اسمها وصدق حضورها.
بين التربية والأدب، بين التعليم والإبداع، تكتب نقيّة رحلتها المتفرّدة بهدوء العالمين بالجوهر، المتصالحين مع الجمال والمعنى.
وإلى جانب كونها محرّرة في مجلة أزهار الحرف وعضوًا في ملتقى شعراء العرب، تواصل نقيّة حضورها الشعري والإنساني، مؤمنة بأن الكلمة الصادقة قادرة على أن تصنع أثرًا لا يُمحى.
ونحن اليوم نحتفي بها في مجلة أزهار الحرف بمناسبة صدور ديوانيها الجديدين:
الأول بعنوان “ارتعاش المطر”، والثاني “سَفَر الأمنيات”، حيث نرافقها في هذا الحوار الخاص لنكتشف معها ملامح تجربتها الشعرية، وانتماءها الأدبي، ودهشة الحرف حين يتحوّل إلى حياة.
حاورتها جميلة بندر
…………………………
1.أستاذة نقيّة، حين نقرأ نصوصك نشعر أن الكلمة لديكِ ليست مجرد أداة بل كائنٌ حيّ يتنفّس بكِ… كيف تنظرين إلى الكتابة؟ أهي خلاصٌ، أم شغف، أم شكلٌ من أشكال الوجود؟
2.بين التعليم والإبداع، كيف استطعتِ الحفاظ على توازنكِ بين دوركِ التربوي الصارم وبين روحكِ الشاعرة التي تميل إلى الحرية والانسياب؟
3.هل أثّر عملكِ في الحقل التربوي على لغتكِ الشعرية أو أسلوبكِ في التعبير؟ وكيف ساهم احتكاككِ اليومي بالطلاب في تشكيل رؤيتكِ للأدب والإنسان؟
4.صدر لكِ حديثًا ديوانان “ارتعاش المطر” و“سَفَر الأمنيات”، لو تحدثينا عن تجربتكِ في كليهما، وعن الفكرة أو الإحساس الذي يميّز كل عمل عن الآخر.
5.في “ارتعاش المطر” يخيّل إلينا أن المطر ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل رمز للحياة والحنين والدهشة… ما الفكرة التي أردتِ أن توصليها من خلال هذا الارتعاش الشعري؟
6.عنوان “سَفَر الأمنيات” يحمل دلالة الحلم والترحال في آنٍ واحد… إلى أي مدى يعكس هذا الديوان رحلة الذات في البحث عن المعنى والسكينة؟
7.تنتمين إلى جيلٍ من الشاعرات اللبنانيات اللواتي يكتبن بصدق وهدوء دون ضجيج إعلامي… كيف تقيّمين المشهد الشعري النسوي في لبنان اليوم؟
8.كونكِ محررة في مجلة أزهار الحرف، كيف تصفين تجربتكِ داخل هذه المنصة الأدبية؟ وما الذي يميّزها عن غيرها من الفضاءات الثقافية؟
9.عضويتكِ في ملتقى شعراء العرب جعلتكِ جزءًا من حركة ثقافية عربية واسعة. ماذا أضاف لكِ هذا الانتماء على المستوى الإبداعي والإنساني؟
10.شاركتِ في موسوعات أدبية متعددة، منها في رحاب القدس ومدارات الحبّ والقصة القصيرة جدًا… كيف تتعاملين مع فكرة المشاركة الجماعية في مشاريع كهذه؟
11.نلاحظ أن لغتكِ تجمع بين الرقة الأنثوية والعمق الفكري. هل تعتبرين الشعر مساحة للتعبير عن الذات الأنثوية أم فضاءً إنسانيًا يتجاوز الجندر؟
12.ما الصورة التي ترين فيها “المرأة الشاعرة” اليوم؟ هل ما زال الطريق أمامها مليئًا بالتحديات أم باتت تمتلك صوتها وحريتها الكاملة؟
13.بما أنكِ تتولين أيضًا التدقيق اللغوي، كيف توازنين بين الصرامة اللغوية والانسيابية الشعرية؟ وهل تشعرين أن القواعد يمكن أن تُقيّد الإبداع أحيانًا؟
14.في زمنٍ غلب عليه النشر الإلكتروني والمنصات الرقمية، كيف تنظرين إلى أثر هذه الوسائل على جودة الأدب ومستقبل الكلمة المكتوبة؟
15.لو عدنا إلى الطفلة نقيّة في بعذران الشوف، تلك التي كانت تراقب المطر وتخزّن الأمنيات في دفاترها… ماذا كنتِ تتمنين أن تصبحي؟ وهل تشعرين أنكِ وصلتِ إلى تلك الأمنية اليوم؟
16.أخيرًا، ما الذي تنتظرينه من القادم الأدبي؟ هل من مشاريع أو أحلام جديدة تُعِدين لها في رحلة الحرف القادمة؟
17.ما رأيك بالملتقيات الشعرية وخصوصا ملتقى الشعراء العرب الذي يرأسه الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد ؟
……………………
حاورتها من لبنان جميلة بندر
عضو بملتقى الشعراء العرب
محررة بمجلة أزهار الحرف .
١-كتابة القصيدة لا يمكن أن تكون وظيفية أو أن تُستحضَر عنوة ، بل صوت يكتب من القلب إلى الوعي ، وضرورة وجودية. نكتب لنعيد رسم ملامح العالم الذي نحلم به : أكثر عدلًا ، أكثر ضوءًا .فالكتابة كينونة حية ، وكائن يفيض بالروح ينمو ويتكامل بالمعاناة والشغف ، لذلك تتجاوز الكتابة حدود الفن لتغدو خلاصًا وشكلًا من أشكال الوجود الإنساني، حيث التماهي مع النص ليصبح الكاتب والنص كل منهما مرآة للآخر. وصدق من قال:” إنه شيطان الشعر أو وحي الإبداع إن أقبلت الفكرة فعليك اصطيادها ، لأنها كماء النهر لن تعود في ذات الشكل والوقت .
٢-في الحقيقة لم أعتبر يومًا أن التعليم والإبداع مجالان متناقضان ، بل رأيت فيهما توأمين متكاملين . فالتعليم بالنسبة لي ليس مجرد نقل معرفة بل هو فن بناء الإنسان ، وهذا الفن يحتاج إلى خيال الشاعر ودفء الكلمة بقدر ما يحتاج إلى انضباط المربي وحكمته.
لقد حاولت دائما أن أجعل القاعة الدراسية مساحة للدهشة والإكتشاف تمامًا كما في القصيدة مساحة للبوح والإنطلاق. والصرامة في التعليم كانت عندي وسيلة لتنظيم الفكر . أما الشعر فكان نافذتي على الضوء والحرية ، وبين الإثنين ولد توازني لان كلا منهما يغذي الآخر ويمنحه معنى أعمق .
أستطيع القول أنني أعِّلم بروح الشاعرة ، وأكتب بعقل المعلمة. وبهذا التداخل الجميل وجدت نفسي أعيش رسالتي كاملة دون أن أفقد ملامحي في اي منهما .
٣ – لقد ترك عملي في الحقل التربوي أثرا عميقا
في لغتي الشعرية وأسلوب تعبيري .فبين جدران الصفوف، وبين عيون الطلاب المفعمة بالدهشة والحلم ، تعلمت كيف أن الكلمة يمكن أن تكون جناحا يوقظ في النفس شغف الحياة ، وأن اللغة ليست للشرح فقط بل سحر خفي يوقظ الوجدان . أما الاحتكاك بالطلاب جعلني اكثر قربا من الإنسان في براءته وأسئلته فصار الادب رسالة تربية وجمال ، وصارت القصيدة مرآة لروح تؤمن بأن التعليم والشعر وجهان لحب واحد هو حب الإنسان .
٤- تجربتي في ديوانيَّ “ارتعاش المطر” و” سفر الأمنيات” تمثل رحلتين شعوريتين مختلفتين في المضمون ، لكنهما تلتقيان في صدق الإحساس وعمق التجربة الإنسانية .
في “ارتعاش المطر” كتبت بروح تفيض بالحنين والحب والانتماء. فكان المطر رمزا للتجديد والعاطفة ، وصوتا للذاكرة والوطن والروح التي تبحث عن دفء وسط المعاناة.
أما “سفر الامنيات” فهو رحلة أخرى أكثر تأملا وغورًا في الذات حيث تتشابك العاطفة الفردية مع الحلم الإنساني الكبير .هو سفر شعوريٌّ يتنقل بين المحطات الوجدانية من حب وحنين وفقد وأمل.
باختصار هما ديوانان يشتركان في الشجن الصادق ، ويختلفان في المسار الشعوري ، الاول يرتكز على الوجدان المرتبط بالواقع والوطن والحنين . والثاني ينفتح على الأفق الرحب للأمنيات والحلم في لغة اكثر تأملا وسفرا في أعماق النفس .
٥- الفكرة التي أردت ايصالها تتجاوز مجرد وصف للمطر كظاهرة طبيعية لتصبح تجربة حسية وروحية تعكس تداخل المشاعر الإنسانية مع العالم الخارجي . فالمطر هنا ليس فقط ماء يسقط على سطح الارض بل يذهب عميقا في التربة الوجدانية لتثمر معنى جديدا .
٦- عنوان” سفر الامنيات ” يحمل دلالة الحلم والترحال في آن واحد … إلى أي مدى يعكس هذا الديوان رحلة الذات في البحث عن المعنى والسكينة ؟
-يحمل ” سفر الأمنيات “نسيم الحلم وعبق الترحال كأنه خفقة قلب تمضي في دروب المجهول بحثا عن ضوء يسكن الروح . إنه سفر الذات إلى أعماقها ، رحلة تأمل تعانق الحلم وتخاصر الوجع ، تسعى فيها النفس إلى أن تجد مرساها في بحر من الامنيات المتلاطمة . وهكذا يصبح الديوان مرآة لرحلة انسانية خفيَّة تجسد عطش الروح إلى السلام ، وتعلن أن أجمل الرحلات تلك التي تبدأ من القلب وتنتهي اليه .
٧- أرى المشهد الشعري النسوي في لبنان اليوم كحديقة تنمو بصمت على ضوء القمر ، تسقيها الشاعرات بنبض قلوبهنَّ لا بضجيج الإعلام . فهناك أصوات تكتب بصدق يشبه الندى ، وتهمس للكلمة حتى تزهر معنى . نساء يحملن الشعر كمرآة للروح فيغزلن من وجعهنَّ أملا ، ومن يومياتهنَّ أغانٍ للحرية . إنه مشهد يتقد بالجوهر لا بالظهور كأن قصيدة الانثى اللبنانية اليوم تكتب لتنصت ، وتضيء لتحب لا لترى فقط ، وتبحث عن جوهر التجربة الشعرية لا عن شهرة عابرة .
٨- تجربتي في مجلة أزهار الحرف تشبه الإقامة في بستان من الكلمات حيث تزهر الحروف بتنوعها وصدقها. والعمل داخل هذه المنصة هو مشاركة في صوغ الجمال وفي رعاية البذور الصغيرة التي تتحول إلى نصوص ناضجة تشبه الحياة . وتتميز أزهار الحرف بالدفء الإنساني والعمق الثقافي ، فهي تبحث عن النص الذي يضيء . هي مساحة تحترم الكلمة وتمنح الإنتماء إلى بيت أدبي حقيقي .
٩- عضويتي في ملتقى شعراء العرب كانت عبورا إلى فضاء أدبي إلى فضاء النور . هناك بين القلوب التي تنبض بالحرف شعرت أن الشعر وطن واسع يجمعنا مهما باعدت المسافات . على المستوى الابداعي تعرفت إلى أصوات شعرية مختلفة ايقظت في داخلي شغف التجدد والبحث عن الجمال في ابسط التفاصيل . كما وأهدتني قلوبا تشبهني وأصدقاء تجمعنا الكلمة لنكون عائلة تتقاسم الفرح والوجع والحلم بأن يبقى هذا الشعر نورا يروي عطش الروح العربية .
١٠- أرى في المشاركة الجماعية نغما جميلا في سيمفونية الابداع . كل كاتب يعزف بلحنه الخاص ، فنصنع معا عملا تتعانق فيه الارواح وتتناغم فيه الكلمات كزهور مختلفة في بستان واحد تتعدى الحدود .
١١- الشعر في جوهره هو صوت الروح حين يفيض بالحياة . ومأوى القلوب التي تبحث عن ظل الكلمات لتستريح .
انه فضاء إنساني رحب تتماهى فيه التجارب وتذوب الفوارق . فلا يبقى سوى الإنسان العاري من كل قيد سوى صدقه .
لكن حين تكتب الانثى تغدو اللغة أكثر رهافة وامتلاء بالعطر والضوء .تلمس الأشياء بنعومة، وتحول الوجع إلى أغنية ، والصمت إلى حنين يكتب نفسه على الورق. إنها لا تكتب لأنها امرأة بل لأنها كائن يرى العالم من خلال رؤية خاصة ، فتنثر في الشعر أنوثتها كنسمة ، وتمنحه من روحها ما يجعله أكثر انسانية وأقرب إلى النور . فهي الأنثى التي” تمطر” لا التي تنتظر المطر تكتب بوعي انثوي ناضج .
١٢- المرأة الشاعرة اليوم تسكن ضوءها بثقة وإصرار وهدوء ، هي تكتب لتثبيت حضورها وذاتها وتكشف عمق انسانيتها، فالقصيدة وطنها ، والكلمة مرآتها الحرة. ومع ذاك ما زال في الطريق ما يختبر صلابتها، لكنها تمضي بحبر يشبه روحها ، تؤمن أن الشعر لا يعرف جنسا ، وأن الانوثة ليست قيدا للكلمة بل جناحها الذي يحلق بها نحو الصدق والجمال والتحرر .
١٣- أوازن بين الصرامة اللغوية والانسيابية الشعرية كما يوازن العازف بين النغم والنظام، فالقواعد بالنسبة إليَّ ليست قيدا ، بل جناحا يحفظ للغة توازنها وهي تحلق في فضاء الإبداع . وحين أكتب أؤمن أن الجمال لا يولد من الفوضى بل من انسجام دقيق بين الحرية والضبط بين القلب والعقل . وربما أتجاوز القاعدة أحيانا ، لكنني لا أكسرها إلا لأمنح النص حياة أصدق وأجمل . فالقواعد تعتبر إطارا يحافظ على نقاء اللغة ويصونك جمالها ، والدقة اللغوية تمنح النص اتزانا بينما تمنحه الشعرية روحا وانطلاقا.
١٤- لا شك أن النشر الالكتروني والمنصات الرقمية احدثت تحولا كبيرا في المشهد الادبي ، فقد أتاحت للكلمة انتشارا واسعا وسرعة في الوصول إلى القارئ ، وفتحت أمام المبدعين فضاءات جديدة للتعبير والتفاعل . لكن في المقابل هذا الانفتاح الواسع قد يحمل معه تحديات تتعلق بجودة النصوص وعمقها .إذ تختلط الأصالة بالسطحية أحيانا ويضيع صوت الابداع الحقيقي بين الضجيج الرقمي . رغم ذلك أؤمن أن الكلمة الصادقة الهادفة ستبقى قادرة على فرض حضورها ، لأن الادب الحقيقي لا يعيش في الورق او الشاشة ، بل في الوعي والوجدان .
١٥- لو عدنا إلى تلك الطفلة النقية لابتسمتُ لها بحنوٍّ وقلت: ما زال في القلب شيء من تلك الأمنيات الصغيرة التي كنتِ تكتبينها على صفحات المطر ،وتخبئينها تحت وسادة الاحلام .
كنت اتمنى ان اصبح انسانة تملأ العالم بالحب والمعرفة وأن أجد نفسي في طريق يشبه تطلعاتي وامنياتي …في طريق يشبه الحلم
واليوم ربما لم اصل تماما إلى تلك الامنية لكنني صرت أقرب إليها ، أكثر نضجا وأكثر تصالحا
مع الطريق التي اوصلتني إليها بخطواتي المتعثرة والجميلة معا .
كنت أتمنى أن يكون لي أجنحة
احلق بها بعيدا عن ضجيج العالم
أعانق الغيم واسرق لحظة صفاء من السماء
وأحمل قلبي خفيفا كنسمة فجر على قمة حلم .
واليوم أدركت أن الأجنحة ليست دائما ريشا،
بل هي الاصرار حين نتغير والأمل حين نحب رغم الخيبات
هي الروح حين نختار أن ننهض من جديد .
١٦- في القادم الأدبي لدي عدة أفكار أعمل على تحقيقها وإنضاجها بهدوء يشبه نفس القصيدة ، أداعبها مثلما يداعب الشاعر رؤاه قبل أن يبوح بها للورق ، تنتظر لحظة الضوء لتولد حروفا . كما وأتمنى أن أنجز كتابة قصة كنت بدأت بكتابتها…وهناك بعض الكتابات الادبية سوف أعمل على نشرها أن شاء الله .
١٧- يعدُّ ملتقى الشعراء العرب برئاسة الشاعر ناصر رمضان عبد الحميد منبرا ثقافيا جامعا للاصوات الإبداعية من مختلف البلدان العربية. ولقد استطاع الملتقى أن يكون فضاء ثقافيا للحوار والتفاعل الأدبي، ومنبرا يحتضن المواهب ويعزز حضور الشعر في الحياة الثقافية العربية ، وقيادته الواعية التي تؤمن أن الشعر رسالة توحِّد وتبني جسور المحبة والتلاقي بين المبدعين من مختلف الاقطار .
شكرا جزيلا أستاذة جميلة بندر
المحررة في مجلة أزهار الحرف .