الشعر بين سلطة الإيقاع وحرية المعنى: من عمود القصيدة إلى انبثاق التفعيلة:
بقلم: عماد خالد رحمةـ برلين.
إنّ تعريف الشعر ظلّ عبر العصور سؤالاً مفتوحاً لا يهدأ، كأنّه كينونةٌ تتجدّد كلّما حاولنا القبض عليها. فهو في جوهره ـ كما يقول أرسطو في “فن الشعر” ـ محاكاةٌ للحياة بلغةٍ مخصوصةٍ بالإيقاع والخيال. غير أنّ هذه المحاكاة لم تكن يوماً جامدة، بل كانت سيرورةً جماليةً تتشكّل بتغيّر الأزمان والرؤى. فالشعر هو الوعي النابض في اللغة، واللغة هي الجسد الذي يتجلّى فيه وعي الإنسان بالعالم.
وعندما جاءت نازك الملائكة لتضع تعريفاً للشعر الحر، لم تكن تبتدع من فراغٍ، بل كانت تؤسّس لثورةٍ في الحسّ الإيقاعي والنظرة إلى الشعر بوصفه فضاءً مفتوحاً بين النظام والحرية. تقول نازك:
“هو شعر ذو شطرٍ واحدٍ ليس له طولٌ ثابت، وإنما يصحّ أن يتغيّر عدد التفعيلات من شطرٍ إلى شطرٍ، ويكون هذا التغيّر وفق قانونٍ عروضيٍّ يتحكم فيه.”
إنّ هذا التعريف لا يُلغي الوزن، بل يُعيد تأويله ضمن منطق الحرية الإيقاعية التي تحافظ على روح العروض دون أن تستعبد الشاعر لقوالبه. فالتفعيلة الواحدة — كما تشير نازك — تصبح وحدة البناء الشعري، والقصيدة تتحرّك وفق إيقاع داخلي نابض بالمعنى، لا وفق عددٍ جامدٍ من التفعيلات. وهكذا يتحقّق التوازن بين ما يسمّيه رومان ياكبسون “الوظيفة الشعرية للغة” — أي ذلك الانحراف المقصود عن الكلام العادي الذي يخلق الشعرية — وبين البنية الإيقاعية التي تمنح النص موسيقاه الداخلية.
لقد كانت نازك تدرك أن الشعر الحر ليس تمرداً على الإيقاع بقدر ما هو تحرير للوعي الشعري من هيمنة الشكل الواحد. فالشاعر، في هذا الأفق الجديد، لا يكتب داخل الوزن فحسب، بل يتنفس بالوزن. وهنا يتجلّى ما قاله تي. إس. إليوت:
“ليس الإيقاع قيوداً، بل هو شكلٌ من أشكال الحرية.”
من هذا المنظور، لم يعد الشعر مجرّد هندسة لفظية أو انتظامٍ صوتي، بل أصبح كينونةً لغوية تتشكّل في رحم التوتر بين الانضباط والتفلّت. إنه كما قال بول فاليري:
“الشعر هو محاولةٌ لاستعادة اللغة في لحظة براءتها الأولى.”
فالتفعيلة ليست أداةً حسابية، بل نبضٌ داخليٌّ يوازي النَّفَس الإنساني، ويتبدّى من خلاله ما سمّاه هايدغر “الإنصات إلى كينونة اللغة”. فالشاعر الحرّ هو الذي يُصغي إلى الصمت في قلب الإيقاع، ويحوّل الموسيقى إلى معنى، والمعنى إلى طاقةٍ روحيةٍ مشتعلة.
ومن جهةٍ أخرى، يمكن النظر إلى تجربة الشعر الحر بوصفها تحوّلاً أنطولوجياً في العلاقة بين الذات واللغة. ففي عمود الشعر القديم كانت الذات تُعلن عن نفسها في انتظام البحر والقافية، أمّا في شعر التفعيلة فهي تتشظّى وتتوزّع على المساحات البيضاء، حيث الصمت جزءٌ من القول، والفراغ يصبح امتداداً للدلالة. وقد نبّه عبد القاهر الجرجاني في “دلائل الإعجاز” إلى أنّ الشعر ليس في اللفظ وحده، بل في “نظم المعاني على نسقٍ مخصوصٍ من البيان”، وهو ما يتجلّى بوضوح في الشعر الحر الذي يبدّل مواقع الكلمات ليخلق إيقاعاً دلالياً، لا صوتياً فحسب.
وإذا كانت نازك الملائكة قد وضعت القاعدة العروضية للشعر الحر، فإنّ جوهره الفلسفي أبعد من الوزن. إنّه سعيٌ دائمٌ إلى استعادة التوازن بين الحرية والنظام، بين الإلهام والتقنية. فكما يقول أدونيس:
“القصيدة الحديثة ليست بناءً من الكلمات فقط، بل بناءٌ من الرؤى أيضاً.”
وهكذا يغدو الشعر، في أرقى صوره، فضاءً أنطولوجياً وجمالياً يتجاوز حدود اللغة ليعيد خلقها، ويتخطّى قوانين الزمن ليُشيّد زمنه الخاص — زمن المعنى الخالص.
الخلاصة:
إنّ الشعر الحر عند نازك الملائكة ليس تمرّداً على العروض، بل تحديثٌ للوعي الإيقاعي، وفتحٌ للغة على احتمالاتها القصوى. فالشعر في جوهره هو الفعل الذي يُنقذ اللغة من موتها اليومي، ويمنح الكلمة حياةً ثانية داخل رحم الإيقاع والمعنى. هو ما عبّر عنه غاستون باشلار بقوله:
“الشعر لا يصف العالم، بل يخلقه من جديد.”
وهكذا يظل الشعر، مهما تغيّرت أشكاله، تلك النار السرية التي تُضيء ظلمات الوجود وتحوّل اللغة إلى كينونةٍ نابضةٍ بالدهشة والجمال.