كولومبس وأوهام الاستكشاف:
قراءة نقدية في التاريخ والسياسة المعاصرة
مصطفى عبدالملك الصميدي
اليمن
كان كريستوفر كولومبس، الذي أدهشنا باكتشافه أرض الأحلام ببوصلة بسيطة وخارطة مصنوعة من الجلد، قبل أن يكون لأمريكا ذِكر في جسد الجغرافيا والتاريخ، يدور في خيالي بالاستكشافي الفذ، وكان يُخال لي بأن الأرض تحوي المزيد منها دون علمنا نحن الأبرياء، وتحتاج فقط لاستكشافيين أوروبيين عباقرة أمثال هذا الظاهرة لنتفاجأ في كل عصر بنهضةٍ جديدةٍ تمتدُّ إلى خارج حدود أطلسها المطبوع في المكتبات.. وجدته بين سطور تاريخ الأدب الإنجليزي والأمريكي معاً هكذا بهذه الشخصية العبقرية، وأحد رواد الاستكشافات الجغرافية المذهلة.
ولكن رويدا رويداً، بدأت الحقائق تتكشَّف منذ العام 1948 إلى وقتنا هذا، فيما نراه من حروب قائمة خصوصاً الدائرة على أراضينا المحتلة. بعدها مزقتُ أوراقه من الكتب، وعدتُ بذاكرتي إلى ماضٍ بعيد، مستبطناً أغوار التاريخ، مُقلِّباً صفحات سكان أمريكا الأصليين، وما حلَّ بهم من خراب وتنكيل، وإبادة بيولوجية، واقتلاع جذورٍ من أساسها؛ مُدرِكاً أن هذا الاستكشافي المزعوم، لم يكن سوى رمزاً لانطلاقة استعمارية جديدة، ظهر في صورةٍ رحالة حُر، لكنه في الحقيقة، مستوطنٌ يختبئُ وراء ألوانٍ زاهِية بالذهب، ثائرٌ على اللون البني دون سبب، ناهبٌ لموارد الغير، ومشرِّدٌ للشعوب الأصلية دون وازع أخلاقي.
منذ النكبة الأولى في القارة الجديدة، توصَّلنا مع الأيام أن العالم المولود من رحلة الاستكشاف –أو بالأحرى الاستيطان المقيتة– مبنيٌ على هذه الفرضية الاستيطانية، والزحف المقدس على جسد الأرض، كما لو أن هذا العالم الليبرالي يخبرنا بأن الله فصَّل الأرض على قامة اللون الأبيض دون مراعاة للحيوانات الأخرى، الخضراء والسمراء منها، والتي قد تنقرض كفصيلة الديناصورات يوماً ما إن لم تُكشِّر عن أنيابها من الآن فصاعداً؛ لتحمي عرائنها المعرضة للاضمحلال بالتدرج.
كم مرة سمعنا بهذا المصطلح خصوصاً من الكولومبسيين المعاصريين والمبشرين بالديمقراطية، والمتدرج من مورِّثِيهم الأسلاف الذين كانوا منذ فجر التاريخ شذاذ الآفاق، وما أقساه من مصطلح حين يصدح عاليا في أرض من أراضينا المحتلة في حاضر الأيام. ومع ذلك، حمداً لله تعالى، جاء طوفان الأقصى لنسف سرديات المحتل الكاذبة حتى من مناهجنا التعليمية، والتي يتمثل فيها غزوٌ فكريٌ لم نعهِ أبدأ، ولكننا تبعناه كما يتبع الببغاوات أصوات مُروِّضِيها.
خلاصة القول، أي خيط يتحدث عن أمريكا بشكلٍ حسن –سواء مفاوضات أو مقترحات سلام وغيرها من الطبخات الماكدونالزية– يجب أن نتوقف عنده سريعاً. فبين السطور، يحدث أمر ما، بينما أعيننا البرية تتهلل إعجاباً بما يُقَدّمُ لنا، وكأن التاريخ نفسه يحاول خداعنا من جديد.