العقلانية والأدب: بين الرمز والأسلوب والتأويل في مرايا الفكر الإنساني:
بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.
منذ البدايات الأولى للحضارة الإنسانية، ظلّ الأدب — نثراً وشعراً — مرآةً لعقل الإنسان، ونافذته الكبرى على الوجود، وأداته الخالدة لفهم العالم وتفسير الذات. ولم يكن الأدب يومًا نقيضًا للعقل أو مضادًا له، بل كان — في جوهره — امتدادًا جمالياً للعقلانية، وأسلوبًا تعبيريًا رفيعًا لصوغ المعنى، وتحويل التجربة البشرية إلى رموز قابلة للتأويل والتأمل.
لقد جمع الأدب بين جموح الخيال وانضباط الفكر، وبين عفوية الإحساس ومنهجية التعبير، وبين الرمز بوصفه لغة مكثفة للمعنى، والأسلوب كهوية أدبية، والتأويل كعملية عقلية لفك الشيفرات الجمالية والفكرية.
في هذا المقال، نتناول العلاقة الجدلية بين العقلانية والأدب، ونستعرض دور الرمز والأسلوب والتأويل، في تشكيل المعنى داخل النصوص الأدبية، مستنيرين بأفكار فلاسفة، لغويين، ونقاد كبار.
أولًا: العقلانية كركيزة في بنية الأدب
يخطئ من يظن أن الأدب مجرد تدفق شعوري لا عقل فيه، أو مجرد تداعٍ حرّ للعواطف، ذلك أن العقل في الأدب لا يتجلى في الطرح المباشر للأفكار، بل في بنية النص، وانسجامه الداخلي، وتماسكه الرمزي والمعنوي.
الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه الزمن والسرد يرى أن الأدب — بخاصة السردي منه — يمارس “عقلنة الوجود” عبر الحكي، لأنه يُخضع الزمن، والحدث، والهوية، لمنظومة رمزية يمكن فهمها وتأويلها.
في حين يعتبر رولان بارت أن العقل في الأدب يتجلى في تفكيك الدلالات، لا في التقريرية. فالنص ليس حاوية جاهزة للمعنى، بل شبكة من العلامات التي على القارئ، من خلال عقلانية تأويلية، أن يفككها ليعيد بناء المعنى.
أما ت.س. إليوت، الشاعر والمفكر الإنجليزي، فقد رأى أن “العقل الشعري” هو الذي يستطيع أن يدمج العاطفة بالفكر، ويحوّل التجربة إلى شكل فنيّ متقن يتجاوز التوثيق إلى إثارة الوعي وإشعال التفكير.
ثانيًا: الرمز: اللغة الثانية للعقل الأدبي
الرّمز في الأدب ليس مجرد تزيين لغوي، بل هو آلية عقلية معقدة تهدف إلى تكثيف الدلالة، وخلق طبقات متعددة من المعنى، وتحرير النص من المباشرة السطحية. وهو وسيلة لجعل اللغة “تقول أكثر مما تقول”.
يقول كارل يونغ، في تحليله للرموز الأدبية:
“الرمز يربط بين العقل الفردي واللاوعي الجمعي، ويمنح النص الأدبي طاقة نفسية عميقة تتجاوز حدود اللغة الظاهرة.”
وقد رأى سوسير، الأب المؤسس لللسانيات الحديثة، أن اللغة — باعتبارها نسقًا من العلامات — تتأسس على العلاقة بين الدالّ والمدلول، وأن الأدب يُمارس لعبة زئبقية على هذا الحبل الرفيع، فيجعل الدال ينزلق دائمًا عن مدلوله المباشر، لينتج الرمز، لا الإشارة.
الأدب الرمزي إذًا، كما في أشعار بودلير، وروايات كافكا، ومسرحيات شكسبير، ليس غموضًا بلا غاية، بل هو نشاط عقلاني عميق يستخدم اللغة لا لتصف الأشياء، بل لتكشف المستور والمكبوت والمفكر فيه بنحو غير مباشر.
ثالثًا: الأسلوب: العقل الجمالي في التجربة الأدبية
الأسلوب في الأدب ليس مجرد طابع لغوي، بل هو ما يمكن أن نسمّيه “بصمة الوعي” لدى الكاتب، حيث تتجلى رؤيته للوجود، ونظرته للإنسان، وقراءته للعالم.
يرى ميخائيل باختين أن الأسلوب هو “حوار خفي” بين الأصوات داخل النص، وأنه ينطوي على تعدّد في أنظمة العقل، بين لغة السرد، ولغة الشخصيات، ولغة المؤلف الضمني، وهو ما يجعل النص الأدبي فضاءً عقلانياً متعدد الأصوات (polyphonic).
بينما يعتبر نورثروب فراي أن الأسلوب يعكس “بنية عقلية” خاصة بكل كاتب، ويمكن من خلاله فهم فلسفته الجمالية، وتكوينه الفكري، كما نستشفها في كتابات طه حسين أو غادة السمان أو نجيب محفوظ.
أما عبد الفتاح كيليطو، المفكر المغربي، فيذهب أبعد من ذلك، حين يرى أن الأسلوب لا يُعرَف إلا من خلال التداخل بين اللغة والتأويل، والهوية والسياق، والمخفي والمُعلَن. فالأسلوب هو عقل الكاتب حين يتجلى جمالياً.
رابعًا: التأويل: العقلانية في مواجهة المعنى المتعدد
التأويل هو الجوهر العقلاني الحقيقي للأدب، وهو الذي يُبقي النص حيًّا، لأنه يُعيد إنتاجه في كل قراءة، ويستخرج منه معاني لم تكن مرئية سابقًا.
يقول غادامير، في كتابه الحقيقة والمنهج:
“كل تأويل هو لقاء بين أفق القارئ وأفق النص، وفي هذا اللقاء تتولّد الحقيقة.”
فالتأويل ليس عبثًا، بل هو نشاط hermeneutic (تأويلي) يعتمد على منهج داخلي، ويستلزم عقلًا مستنيرًا بالتجربة والمعرفة والحدس الفني.
في الأدب، يُصبح التأويل وسيلة لفهم الذات من خلال الآخر، سواء كان الآخر شخصيةً روائيةً أو صوتًا شعريًا أو رمزًا غامضًا. وهو ما يجعل الأدب أكثر من مجرد ترف لغوي، بل تمرينًا دائمًا على استخدام العقل في استيعاب التجربة الإنسانية المعقدة.
خامسًا: أمثلة أدبية تضيء العلاقة بين العقل والرمز
في رواية “الغريب” لألبير كامو، تظهر عقلانية وجودية من خلال سرد بارد لا ينفعل، لكنه يكشف عبثية العالم ولا عقلانيته من خلال أسلوب عقلاني متقشّف.
في قصائد محمود درويش، نرى كيف يتحوّل الوطن إلى رمز، والحب إلى استعارة للهوية، مما يستلزم تأويلاً عقلانياً يتجاوز المعنى الظاهري إلى البنية الرمزية والسياسية للنص.
في مسرحيات صموئيل بيكيت، لا نجد منطق الحدث التقليدي، لكننا نجد عقلانية فلسفية تنكر المعنى، لتقيم نظاماً خاصاً بها داخل العبث.
الخاتمة: نحو عقلانية شعرية
ليس ثمة تعارض بين العقل والأدب، بل إن الأدب هو الميدان الأرقى الذي يختبر فيه العقل حدوده، ويتحرّر من جمود المنطق، ليعانق “العقلانية الشعرية”، حيث الفكر يترجِم العالم عبر الجمال، لا عبر المعادلات.
في زمن طغت فيه النزعة التقنية، وتحجّر الخطاب، يبقى الأدب هو صوت العقل الآخر، العقل الذي لا يلغي الإحساس، بل يرفعه إلى مقام الوعي العميق، عبر الرمز، والأسلوب، والتأويل.
وكما قال الفيلسوف الألماني جان بول سارتر:
“الأدب ليس ترفًا، بل ضرورة عقلية من ضرورات الوجود الإنساني.”