من القاهرة إلى سراييفو، مروراً بـ كوسوفا: قصة لقاء جمع أ. د. بكر إسماعيل ببيجوفيتش في لحظة تاريخية
إلى روح المفكر والمناضل الأستاذ علي عزت بيجوفيتش (1925-2003)
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
التاسع عشر من أكتوبر عام 2003.. يوم أغلق فيه القبر جسدا، لكنه فتح للروح عالما أرحب، وأسدل الستار على حياة إنسان لم يكن مجرد سياسي أو رئيس، بل كان مشروعاً فكرياً وحضارياً متكاملاً، كان فلسفة تجسدت في رجل. رحل عنا جسد الأستاذ علي عزت بيجوفيتش، لكن إرثه بقي ينبض في ضمير الأمة، ينير الدرب للأجيال.
لقد كان بيجوفيتش نموذجاً نادراً يجمع بين عمق الفكر وصدق العمل، بين ثقافة المفكر وصبر المجاهد. حمل قلمه وفكره سلاحاً قبل أن يحمل البندقية دفاعاً عن كرامة شعبه وأرضه. في سجون الشيوعية، وفي ميدان المعركة، وفي قصر الرئاسة، كان الرجل نفسه: صلب المبدأ، رحب الأفق، مؤمناً بعدالة قضيته ووعورة الطريق.
إن تقييم تأثير بيجوفيتش في الحياة الفكرية والأدبية والعلمية والثقافية والسياسية يقتضي منا النظر إلى هذه المجالات كنسيج واحد في مشروعه الحضاري. ففي “الإسلام بين الشرق والغرب” لم يقدم كتاباً فحسب، بل قدم رؤية كونية تجاوزت الثنائيات الضيقة، وقدمت تفسيراً للوجود يجمع بين الوحي والعقل، بين المادة والروح. لقد أثرى المكتبة الإسلامية والعالمية بمقولات فلسفية عميقة جعلته أحد أبرز منظري الفكر الإسلامي في العصر الحديث.
أما في السياسة، فقد قدم نموذجاً فذاً للزعيم المفكر، الذي يقود أمته في أحلك الظروف بعزيمة لا تلين، وحكمة لا تغيب، وأخلاق لا تتزعزع. قاد البوسنة من وهدة الاحتلال الشيوعي إلى استقلالها، ثم قادها في مواجهة أعتى آلة إبادة عرفها أوروبا في نهاية القرن العشرين، فكان رمزاً للمقاومة والكبرياء. لم تكن السياسة عنده مجرد مكاسب آنية، بل were مسؤولية أخلاقية وتاريخية تجاه دينه ووطنه والإنسانية جمعاء.
ذكرى لقاء القاهرة
أتذكر ذلك اليوم المشهود، الثاني والعشرين من يناير عام 1995، في القاهرة. كان اللقاء مع الرجل ليس مجرد مقابلة، بل كان محفلاً فكرياً. ناقشنا باستفاضة قضايا البوسنة والهرسك وكوسوفا، وكان حديثه مشبعاً برؤية استراتيجية عميقة، وبقلب يحمل هموم كل المستضعفين. في ذلك اللقاء، أهديته كتابي “في محيط الحضارة الغربية: المذبحة البوسنية الرهيبة” الذي نشرته وكالة أنباء “ألبا برس”، فتلقاه بتواضع العلماء، وباهتمام المفكرين الذين يقدسون المعرفة. كانت تلك الصورة التي جمعتنا في القاهرة خير شاهد على تواضع العظمة وعظمة التواضع.
اليوم، ونحن نستذكر رحيله، لا نقول وداعاً، بل نقول: سلاماً أيها الفيلسوف المجاهد، أيها الرئيس المتواضع، أيها الإنسان الذي صنع من إيمانه سلاحاً، ومن فكره نوراً. لقد كنت وأنت تترجل عن صهوة الحياة، كما كنت دوماً: شامخاً كالجبال، صافياً كالينابيع، عميقاً كالمحيطات.
عاش بيجوفيتش فكراً متجدداً، ومات جسداً خالداً.
رحم الله علي عزت بيجوفيتش، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]