ديوان مراكب الوَلَه لعبد الإله المالك الجعيب: قراءة نقدية في تجليات الشعر والهوية
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
من هو عبد الإله المالك؟ مسيرة علمية وأدبية حافلة
عبد الإله بن منصور المالك (الجعيب) شاعر ومثقف سعودي يجمع في مسيرته بين التميز في المجالين العلمي والأدبي. فهو حاصل على البكالوريوس في الصيدلة والماجستير في إدارة الأعمال، ويشغل مناصب قيادية رفيعة في القطاع الصحي، أبرزها نائب رئيس اللجنة الوطنية للصناعات الدوائية. إلى جانب ذلك، يقدم إسهامات أدبية وثقافية بارزة من خلال دواوينه الشعرية مثل “سادة اللحظات” و”مراكب الوَلَه”، ومؤلفاته النثرية ككتابه “المفيد في علم العروض والتفعيلة”. كما يبرز حضوره الثقافي من خلال إشرافه على منتديات أدبية، وإقامة أمسيات شعرية محلياً وعالمياً، وتقديم برامج ثقافية إعلامية مثل “موازين البوح”. وهو عضو شرف في مجمع اللغة العربية بمكة المكرمة، وعضو مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض، مما يجعله أحد أبرز الأصوات التي تثرى المشهد الثقافي السعودي والعربي.
المقدمة
يمثل ديوان مراكب الوَلَه للشاعر عبد الإله بن منصور المالك الجعيب تجربة شعرية متفردة تنبع من عمق الوجدان العربي، وتنهل من معين التراث، وتتماهى مع تحولات الحداثة الشعرية. إنه ديوان لا يكتفي بتقديم القصيدة بوصفها بنية لغوية، بل يتجاوز ذلك ليجعل منها وسيلة لاستعادة الذات، وتوثيق الذاكرة، وتكريس الهوية الثقافية في زمن التنازع بين الأصالة والتجريب.
تأتي هذه الدراسة لتسلط الضوء على البنية الأسلوبية والفكرية للديوان، وتستكشف أبعاده الجمالية والرمزية، وتقيّم أثره في الحقول الأدبية والفكرية والثقافية، من خلال قراءة نقدية تجمع بين التحليل الأسلوبي والتأويل الثقافي، وتستند إلى خلفية معرفية تربط الشعر العربي المعاصر بجذوره التراثية.
الإطار النظري والمنهجي
أولاً: المنهج النقدي
تعتمد هذه الدراسة على منهج نقدي مركّب يجمع بين:
• التحليل الأسلوبي: لفحص البنية اللغوية، الإيقاعية، والبلاغية في النصوص الشعرية.
• المنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي): لاستكشاف المعاني الرمزية والوجدانية التي تتجاوز ظاهر النص.
• المنهج الثقافي: لفهم السياقات الاجتماعية والتاريخية التي يتفاعل معها الديوان، وتحديد أثره في تشكيل الوعي الجمعي.
ثانياً: الخلفية النظرية
تنطلق الدراسة من فرضية أن الشعر العربي المعاصر، رغم انفتاحه على التجريب، لا يزال يحتفظ بجذور تراثية عميقة، وأن استدعاء الرموز التاريخية واللغوية يشكل استراتيجية فنية لإعادة بناء الهوية. في هذا السياق، يُقرأ ديوان مراكب الوَلَه بوصفه نصاً يعيد تشكيل العلاقة بين الذات واللغة، وبين الذاكرة والتاريخ، وبين الشعر والواقع.
السمات الأسلوبية في ديوان مراكب الوَلَه
يمثل البناء الأسلوبي في ديوان مراكب الوَلَه للشاعر عبد الإله المالك الجعيب أحد أبرز تجليات التميز الفني، حيث تتداخل عناصر اللغة، الإيقاع، الصورة، والتناص في تشكيل نسيج شعري متماسك، ينهض على قاعدة من الوعي الجمالي والوجداني. ويمكن إبراز أبرز السمات الأسلوبية كما يلي:
1. اللغة الشعرية المكثفة
يعتمد الشاعر على لغة عربية فصيحة ذات طابع تراثي، لكنها تنبض بالحيوية والتجدد. تتسم عباراته بالكثافة الدلالية، والانزياح البلاغي، مما يمنح النصوص طاقة تأويلية واسعة. فالكلمات لا تؤدي معناها المباشر فحسب، بل تفتح أفقًا من الإيحاءات والرموز، كما في قوله: “كبريت القصيد”، “أطناب الأفق القُرْمِّيّ”، “جفون الكلمة”، وهي تعبيرات تنقل القارئ من الواقع إلى فضاء شعري متخيل.
2. الإيقاع والجرس الموسيقي
يحضر الإيقاع في الديوان بوصفه عنصرًا بنيويًا، لا مجرد زخرفة صوتية. فالشاعر يوازن بين الوزن التقليدي والجرس الداخلي للجملة، مما يخلق موسيقى شعرية آسرة. هذا التوظيف الإيقاعي يعزز من حضور النص في الذاكرة السمعية، ويمنحه طاقة وجدانية تتماهى مع مضمون القصائد.
3. الصور الشعرية والرمزية
تتسم الصور الشعرية في الديوان بالسريالية والتكثيف الرمزي، حيث تتداخل العناصر الطبيعية (المطر، النخل، النار، البحر) مع الحالات النفسية (الولَه، الحنين، التيه) لتشكيل مشاهد شعرية متعددة الأبعاد. هذه الصور لا تُرسم بوصفها وصفًا بصريًا فقط، بل كأدوات فلسفية تعكس رؤية الشاعر للعالم والوجود.
4. التناص مع التراث الشعري العربي
يستحضر الشاعر أسماء شعراء كبار مثل المهلهل، طرفة بن العبد، وأبي فراس الحمداني، ليؤسس امتدادًا شعريًا بين الماضي والحاضر. هذا التناص لا يأتي بوصفه اقتباسًا، بل كحوار ثقافي يعيد إنتاج الرموز التراثية في سياق شعري معاصر، ويمنح القصائد عمقًا تاريخيًا ومعرفيًا.
5. الانصهار بين الشكل والمضمون
يتجلى في الديوان انصهار واضح بين الشكل الفني والمضمون الوجداني، حيث تتداخل الجمل الشعرية في قالب لغوي متماسك، يعكس وحدة التجربة الشعرية. فالشاعر لا يفصل بين اللغة والفكرة، بل يجعل من كل بيت شعري وحدة دلالية وجمالية متكاملة.
الفكرة المركزية في ديوان مراكب الوَلَه
يشكل ديوان مراكب الوَلَه بنية شعرية متكاملة تنطلق من فكرة مركزية عميقة تتمثل في استعادة الذات الشعرية والوجدانية من خلال الولَه والحنين والذاكرة. هذه الفكرة لا تُطرح بوصفها موضوعًا شعريًا فحسب، بل كمنظور فلسفي يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان العربي وتاريخه، لغته، وعاطفته.
1. الولَه كحالة وجودية
الولَه في هذا الديوان ليس مجرد شعور عاطفي، بل هو حالة وجودية تتجلى في كل قصيدة، وتنعكس في الصور الشعرية، والإيقاع، واللغة. إنه ولَه نحو الجمال، نحو الماضي، نحو الذات المتشظية التي تبحث عن خلاصها في القصيدة. فالشاعر يبحر في مراكب الولَه نحو ضفاف المجد، والهوية، والحنين، في محاولة لتجاوز التيه الوجودي الذي يعيشه الإنسان المعاصر.
2. الحنين والذاكرة كقوى دافعة
تتجلى الذاكرة في الديوان بوصفها قوة دافعة للشعر، حيث يستدعي الشاعر رموزًا تاريخية وشخصيات تراثية (المهلهل، طرفة، أبو فراس، عبد الله الفيصل…) ليؤسس امتدادًا وجدانيًا بين الماضي والحاضر. هذا الاستدعاء لا يأتي بوصفه نوستالجيا، بل كفعل شعري يعيد بناء الهوية الثقافية، ويمنح القصيدة طاقة استمرارية حضارية.
3. الشعر كوسيلة للخلاص
يرى الشاعر في الشعر وسيلة للخلاص من التهميش، ومن الانفصال عن الذات، ومن الغربة الثقافية. فكل قصيدة في الديوان هي محاولة لإعادة وصل ما انقطع، وربط الخيط الواهي بعد طول القطيعة، كما ورد في التقديم. الشعر هنا ليس ترفًا لغويًا، بل ضرورة وجودية، وصرخة في وجه النسيان.
4. الهوية واللغة
تتجلى الهوية في الديوان من خلال اللغة الفصيحة، والرموز التراثية، والبنية الإيقاعية، مما يجعل من الديوان مشروعًا شعريًا يعيد الاعتبار للهوية العربية في زمن التشتت. فاللغة ليست مجرد وسيلة تعبير، بل هي جوهر الهوية، ومرآة الذات، وأداة المقاومة الثقافية.
الأثر الثقافي والفكري لديوان مراكب الوَلَه
يشكل ديوان مراكب الوَلَه للشاعر عبد الإله المالك الجعيب مساهمة نوعية في الحقل الثقافي العربي، حيث يتجاوز حدود الشعر بوصفه فنًا لغويًا، ليصبح خطابًا ثقافيًا وفكريًا يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والمجتمع، وبين اللغة والهوية، وبين الذاكرة والنهضة. ويمكن تبيّن أثره في عدة مستويات:
1. في الحقل الأدبي والشعري
• يعيد الديوان الاعتبار للشعر العربي الفصيح في زمن تتنازعه الحداثة والتجريب، ويؤسس لنموذج شعري متوازن يجمع بين الأصالة والتجديد.
• يرسّخ حضور الشعر بوصفه وسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء، ويمنح القصيدة وظيفة وجدانية وفكرية تتجاوز الترف الجمالي.
• يفتح أفقًا جديدًا للقصيدة العربية من خلال المزج بين الرمزية والسرد الشعري، مما يعزز من طاقتها التأويلية.
2. في الحقل الثقافي والاجتماعي
• يعيد طرح سؤال الهوية الثقافية في ظل التحولات المعاصرة، ويؤكد على مركزية اللغة والتراث في بناء الذات الجمعية.
• يستدعي رموزًا ثقافية وشخصيات تراثية لتأكيد الاستمرارية الحضارية، ويمنح القارئ فرصة للتأمل في جذوره الثقافية.
• يكرّس الشعر كأداة للمقاومة الثقافية، ويحفّز على التفكير النقدي في قضايا الانتماء، والنهضة، والوعي الجمعي.
3. في الحقل الفكري والمعرفي
• يقدّم الشعر بوصفه خطابًا معرفيًا ينهض من التجربة الذاتية، ويعكس رؤية فلسفية للعالم والوجود.
• يربط بين الشعر والتاريخ، ويجعل من القصيدة وسيلة لفهم التحولات الفكرية والاجتماعية.
• يفتح باب التأمل في العلاقة بين اللغة والوعي، وبين الصورة الشعرية والفكر النقدي.
4. في الحقل السياسي والنهضوي
• رغم أن الديوان لا يتناول السياسة بشكل مباشر، إلا أنه يحمل في طياته موقفًا ثقافيًا من العالم، يتمثل في مقاومة التهميش، واستعادة الصوت العربي الأصيل.
• يكرّس الشعر كأداة للوعي الجمعي، ويحفّز على استعادة المجد الثقافي، والنهضة الفكرية، والانتماء الحضاري.
• يقدّم نموذجًا شعريًا يمكن أن يُقرأ في سياق النهضة الثقافية والسياسية، بوصفه صوتًا من داخل الذات العربية الباحثة عن خلاصها.
الأثر العلمي والسياسي لديوان مراكب الوَلَه
رغم أن ديوان مراكب الوَلَه لا يتخذ من السياسة موضوعًا مباشرًا، إلا أن بنيته الشعرية والرمزية تنطوي على أثر غير مباشر في الحقلين العلمي والسياسي، من خلال ما يقدمه من رؤى ثقافية، ومواقف وجدانية، واستدعاءات تاريخية تعكس وعيًا عميقًا بالتحولات الحضارية والهوية الفكرية.
1. الأثر العلمي والمعرفي
• يقدّم الديوان نموذجًا شعريًا يمكن أن يُدرس في سياق العلوم الإنسانية، لا سيما في مجالات الأدب المقارن، النقد الثقافي، واللسانيات الشعرية.
• يفتح أفقًا بحثيًا حول العلاقة بين اللغة والهوية، وبين الشعر والذاكرة، مما يجعله مادة خصبة للدراسات الأكاديمية في الجامعات والمعاهد.
• يعكس قدرة الشعر على إنتاج معرفة وجدانية وفكرية، ويؤكد على دور الأدب في تشكيل الوعي الجمعي، وتوثيق التجربة الإنسانية.
2. الأثر السياسي والثقافي غير المباشر
• يستدعي الديوان رموزًا تاريخية وشخصيات ثقافية ذات دلالات سياسية، مما يمنحه بعدًا تأويليًا يتجاوز الشعر إلى خطاب الهوية والمقاومة.
• يكرّس الشعر كأداة للوعي السياسي، من خلال استعادة المجد، وتوثيق الانتماء، ومقاومة التهميش الثقافي.
• يقدّم موقفًا ضمنيًا من العالم، يتمثل في الانحياز إلى الجمال، واللغة، والهوية، في وجه التغريب والتشظي الحضاري.
3. الشعر كقوة ناعمة
• ينهض الديوان بوظيفة الشعر كقوة ناعمة تؤثر في الوجدان الجمعي، وتعيد تشكيل الخطاب الثقافي في المجتمعات العربية.
• يساهم في بناء صورة ثقافية متماسكة، ويحفّز على استعادة الدور الريادي للشعر في الحياة العامة، بوصفه صوتًا للضمير، ومرآة للهوية.
الخاتمة والتوصيات
يمثل ديوان مراكب الوَلَه للشاعر عبد الإله بن منصور المالك الجعيب تجربة شعرية متكاملة تنبع من عمق الوجدان العربي، وتنهل من معين التراث، وتتماهى مع تحولات الحداثة الشعرية. لقد كشفت هذه الدراسة عن بنية أسلوبية غنية، وفكرة مركزية عميقة، وأثر ثقافي وفكري متشعب، يجعل من الديوان علامة فارقة في الشعر العربي المعاصر.
الشاعر لا يكتب من فراغ، بل من ذاكرة مثقلة بالرموز، ومن وجدان مشبع بالحنين، ومن رؤية شعرية ترى في اللغة وسيلة للخلاص، وفي القصيدة سفينة للعبور نحو الذات والهوية. إن مراكب الوَلَه ليست مجرد عنوان، بل هي استعارة كبرى لحالة شعرية وجودية، تتجلى في كل بيت، وتنبض في كل صورة، وتضيء في كل إيقاع.
توصيات الدراسة
1. للباحثين والنقاد:
o دراسة أعمال عبد الإله المالك الجعيب ضمن سياق الشعر العربي الحديث، وربطها بمدارس الشعر الوجداني والتراثي.
o تحليل التناصات التراثية في الديوان بوصفها أدوات لإعادة بناء الهوية الثقافية.
o استكشاف البعد الفلسفي والوجودي في قصائد الديوان، وربطه بالتحولات الفكرية المعاصرة.
2. للمؤسسات الأكاديمية:
o إدراج الديوان ضمن مقررات الأدب العربي المعاصر، والنقد الثقافي، والأدب المقارن.
o تنظيم ندوات وورش عمل حول تجربة الشاعر، وتسليط الضوء على أثره في تجديد الشعر الفصيح.
3. للمجلات الأدبية والثقافية:
o نشر دراسات نقدية معمقة حول الديوان، وتخصيص ملفات نقدية لتجربة الشاعر.
o دعوة الشاعر للمشاركة في الحوارات الثقافية، وتوثيق تجربته الشعرية بوصفها نموذجًا للنهضة الأدبية.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]