الأمومة في مرايا الانتظار — قراءة في مجموعة «سيدة الانتظار» لعائدة المعايطة
***
العنوان بوصفه عتبة تأويلية للأمومة والانتظار
يشكّل العنوان في الأعمال الأدبية عتبة دلالية أولى تستدرج القارئ إلى عوالم النص، وتفتح أمامه بوابة التأويل قبل الولوج في التفاصيل السردية. وعنوان مجموعة عائدة المعايطة «سيدة الانتظار» ليس مجرد تسمية، بل هو مفتاح الرؤية الكلية التي تنسج خيوط القصص الثلاث والعشرين جميعها، فكلّ قصة منها تُعيد صياغة معنى الانتظار في صورةٍ جديدة، تتراوح بين الشوق، والقلق، والصبر، والتأمل، والحب، والحنين.
يأتي تركيب العنوان في صيغة مضافة: «سيدة» و*«الانتظار»*، وهما كلمتان تحيلان إلى أنوثةٍ ودهشةٍ وصبرٍ متجذّر في الوعي الجمعي. فـ«السيدة» هنا ليست فقط امرأة، بل هي رمز الأم، الزوجة، الجدة، وكلّ أنثى تختبر حيوات الآخرين في قلبها. أما «الانتظار»، فهو الفعل الذي يربط بين الأمل والوجع، بين الحضور والغياب، بين ما كان وما سيكون. وهكذا يصبح العنوان بمثابة معادلٍ موضوعيٍّ للأمومة، إذ لا أمومة بلا انتظار: انتظار الولادة، انتظار العودة، انتظار الفرح، وانتظار الطمأنينة.
ويُلاحظ أنّ المعايطة لا تتعامل مع الانتظار بوصفه حالةً سلبية، بل بوصفه فعل حبٍّ مستمرٍّ في الزمن، فعلًا يُعيد تشكيل الصبر ويحوّله إلى طاقة روحية خالقة. فالأم في هذه المجموعة ليست ساكنةً في صمتها، بل فاعلة في حضورها الغائب، تنسج القصص بالدعاء والحنين، وتستدعي أبناءها وأحفادها بالكلمات كما لو كانت تلمس وجوههم من وراء الزمان والمكان.
إنّ عنوان «سيدة الانتظار» يشي بتوترٍ داخليٍّ بين الفعل والمفعول، بين السيطرة والاستسلام. فالسيدة — رغم أنوثتها ورهافتها — تمتلك سلطة معنوية ناعمة على تفاصيل الحكايات؛ فهي من تصنعها، وتوجّهها، وتحتفظ في قلبها بمفاتيحها. لكنّها في الوقت ذاته تظلّ أسيرة الزمن الذي يأخذ منها أبناءها إلى الغربة والدراسة والعمل، لتتحوّل الأمومة إلى حالةٍ وجوديةٍ مشوبةٍ بالقلق والسكينة في آنٍ واحد.
ومن خلال هذا العنوان، نلمح البنية الرمزية التي ستغدو خيطًا ناظمًا للمجموعة بأكملها: الأمّ التي تصلي، وتكتب، وتنتظر، وتعمل في مزرعتها، وتراسل أبناءها عبر التكنولوجيا، وتغرس الزيتون كأنها تغرس الأمل في أرضٍ عطشى. فـ«السيدة» ليست فقط شخصيةً أدبية، بل هي أيقونةٌ للأم العربية في زمن العولمة والاغتراب، حيث تتبدّل الأمكنة وتبقى المشاعر ثابتة الجذور.
بهذا الوعي، يصبح العنوان مرآةً للرؤية الإنسانية العميقة التي تتبنّاها المعايطة، إذ تجعل من الأمومة طريقًا نحو الخلود، ومن الانتظار فعلًا وجوديًّا يعادل معنى الحياة ذاتها. إنّه انتظارٌ لا ينتهي، لأنّ الأمومة لا تعرف الغياب، بل تتجدّد في الأبناء والأحفاد جيلاً بعد جيل، كما يتجدّد الزيتون في أرضٍ تعرف سرّ البقاء.
ففي مجموعة “سيدة الانتظار” تضعنا عائدة المعايطة منذ الوهلة الأولى أمام عالم إنساني مشحون بالعاطفة، محكوم بثنائية الأمومة والانتظار، حيث تتجلى الأنثى لا بوصفها كائنًا سلبيًا ينتظر، بل باعتبارها “سيدة” للانتظار، أي تملك زمام الصبر، وتحوّل الفقد إلى فعل حياة، والانتظار إلى شكل من أشكال الوجود الأنثوي الصامد.
يحمل العنوان بعدًا رمزيًا شاسعًا، إذ يمكن قراءته من مستويات عدّة:
على المستوى النفسي، يمثل الانتظار حالة الأم التي تتعلق بالأبناء والأحفاد، في غيابهم أو حضورهم، في الماضي أو المستقبل.
وعلى المستوى الاجتماعي، يعكس صورة المرأة الأردنية والعربية التي تقف بين الحنين والمسؤولية، بين الأمومة التي تمنح والانتظار الذي يستهلك.
أمّا على المستوى الفني، فالعنوان يشكّل مركز الدائرة السردية في المجموعة، فهو ليس مجرد تسمية لإحدى القصص، بل خلاصة روحية للكلّ السردي، إذ تتفرع منه موضوعات القصص الأخرى لتلتقي عند محور الأمومة المتصلة بالزمن العاطفي الطويل الذي اسمه “الانتظار”.
إن تركيب العنوان نفسه يشي بفخامة دلالية؛ فكلمة سيدة تفيد السيطرة والقدرة والهيمنة، بينما كلمة الانتظار تفيد الضعف والزمن البطيء والرجاء. وفي جمعهما، تولّد القاصة مفارقة جمالية: الأنثى القوية التي تملك ضعفها وتحوّله إلى طاقة. وبهذا المعنى، يتجاوز العنوان البنية اللغوية إلى أفق تأويلي يعبّر عن جوهر التجربة الأنثوية في الحياة والأدب.
كما أن اختيار المعايطة لهذه المفردة يشي بوعيها بأهمية العتبة النصية، فهي تجعل من “الانتظار” بطلًا موازياً للأم، وكأنّ الزمن ذاته يصبح كائنًا حيًا في المجموعة. فالعنوان ليس توصيفًا لحالة واحدة بل مفتاحًا لقراءة المجموعة بأكملها، وهو ما يجعل القارئ يدخل إلى النصوص وفي ذهنه سؤال: من هي سيدة الانتظار؟ وما الذي تنتظره؟ لتتوالى الإجابات عبر القصص المتعددة.
ومن خلال هذا الوعي بالعلاقة بين الأم والزمن، بين الأنثى والحنين، تُقيم عائدة المعايطة جسراً بين تجربتها القصصية السابقة في “لوحات حالمة” وتطورها الفني في “سيدة الانتظار”، حيث يتعزز حضور الذات الأنثوية وقدرتها على تحويل التجربة اليومية إلى لوحة إنسانية تنبض بالحياة، والانتظار إلى موقف جمالي يعبّر عن نضج روحي وعمق وجداني.
تضم مجموعة «سيدة الانتظار» للكاتبة عائدة المعايطة ثلاثًا وعشرين قصة قصيرة، تتمحور جميعها حول فكرة الأمومة والأبناء، وما يرافقها من مشاعر الانتظار، والحنين، والقلق، والدعاء، منذ الطفولة وحتى زمن الأحفاد.
الأم هنا كائن ينتظر، يعيش على نبض الغياب، يلوّن وحدته بالكتابة، ويقيس المسافات بين الذاكرة والواقع.
وفيما يلي عرضٌ موجز للقصص بالترتيب:
القصة الأولى: سيدة الانتظار
تعبر عن مشاعر أمٍّ تركها أبناؤها وهي في سن الثلاثين لأجل العمل والدراسة. تجسد مشاعر الصبر والدعاء والرضا، وتمثل أنموذجًا للمرأة الملتزمة بالصلاة وقراءة القرآن. القصة صورة صادقة لمعاناة كثير من الأمهات في الوطن العربي.
القصة الثانية: أجندات
تحكي عن الأمّ في غربتها، وفقدان الشغف الذي كان يمدّها بطاقة الإبداع والكتابة. تحاول أن تهزم الملل عبر المزرعة والبحر، في رحلة استعادة الذات.
القصة الثالثة: في انتظار الإفطار
تدور في شهر رمضان بدولة باكستان، حيث كان زوج البطلة ضابطًا في كلية القيادة والأركان. تصف القصة يوماً من الدعوة إلى الإفطار، وتبرز اختلاف العادات، إذ فوجئت البطلة بتأخير تقديم الطعام إلى ما بعد الصلاة، لتكتشف لاحقاً سبب إصرار الخادمة على إعداد الطعام مسبقًا. القصة تمزج بين التعب والضحك في طقسٍ رمضاني مختلف.
القصة الرابعة: في انتظار الخير – ليلة قطاف الزيتون
تستدعي زمن جائحة كورونا وما رافقها من قلقٍ على الأبناء والأحفاد المقيمين في لندن. تحضر مشاعر الأمّ التي تتابع أخبار اللقاح، وتطمئن على أولادها بالتكنولوجيا، وتفرح برسالة حفيدها عمر حين نال أعلى التقديرات في الرياضيات. تنتهي القصة بالعودة إلى الزيتون والمزرعة وقتل الوقت بالعمل.
القصة الخامسة: في انتظار نسائم الوطن – لقاء في دبي
تحكي عن لقاء الابن العائد من لندن في مطار دبي أثناء فترة الكورونا، بعد غياب ثلاثين شهرًا، وصعوبة لمّ الشمل العائلي منذ عشر سنوات. اليوم يوم صيام أيضًا، فيتحوّل اللقاء إلى مشهدٍ ممزوج بالشوق والتعب الروحي.
القصة السادسة: في انتظار الأحبة – أحلام مبعثرة
تتناول غياب الحلم، واستدعاء الذكريات كبديلٍ عن الواقع، لأن الذكريات – في منظور البطلة – هي أجمل ما في الحياة.
القصة السابعة: في انتظار الإسبريسو – نافورة الأماني (تريفي روما)
من أجمل القصص التي تجمع بين المرح والألم. تروي رحلة الكاتبة مع شقيقتها إلى نافورة الأمنيات في روما، حيث سقطت وكُسرت قدمها. تنسج القصة مقارنة بين الرعاية الطبية في إيطاليا ونظيرتها في العالم العربي، وتقدّم صورة عن الشعب الإيطالي الودود الذي يعالج السائح على نفقة الدولة.
وتحمل رمزية نافورة الأمنيات (Fontana di Trevi) بعدًا إنسانيًا، فكل قطعة نقدية تُلقى فيها تمثّل حلمًا صغيرًا بالأمل، كما أن النقود الملقاة تُجمع لاحقًا لأعمالٍ خيرية، فيتحول الحلم الفردي إلى عطاءٍ جماعي.
القصة الثامنة: في انتظار الحياة – صفصافة الأمل
تحكي عن شجرة الصفصاف التي زرعتها البطلة أمام المنزل، لكنها ماتت بعدما حاصرتها المباني الحديثة، ثم عادت إلى الحياة مع الربيع، رمزًا لتجدّد الأمل.
القصة التاسعة: في انتظار الأحفاد – ذاكرة الجدّة
تقوم على فكرة التلفزيون بوصفه الوريث الجديد لحكايات الجدّات. تقارن الكاتبة بين زمن الجدّات اللواتي ربّين الأجيال بالحكاية، وزمن الأحفاد الذين يستقون القيم من الشاشة.
وتستحضر في هذا السياق المسلسل البريطاني «شون ذا شيب» (Shaun the Sheep) الذي يجمع بين الطرافة والتعليم الأخلاقي بأسلوب بصري حديث. المفارقة بين الحكاية الشفوية والمرئية تجسّد الفارق بين جيلين وزمنين.
القصة العاشرة: في انتظار بزوغ الشمس – أليكسا
تتناول العاصفة الثلجية التي ضربت الأردن والوطن العربي. تصوّر الكاتبة رغبتها في زيارة الأقارب رغم سوء الأحوال الجوية، وتبرز قدرة الأطفال على تحويل المعاناة إلى فرحٍ باللعب بالثلج.
القصة الحادية عشرة: في انتظار الوعي – أوراق رسمية
تحكي عن دخول ابنها إلى المدارس البريطانية دون متطلباتٍ بيروقراطية معقدة سوى شهادة الميلاد، ودون السؤال عن الدين أو الجنسية. تقارن الكاتبة بين التعليم هناك والتعليم في الوطن العربي، مؤكدة أن التعليم رسالة لا وظيفة.
القصة الثانية عشرة: في انتظار عودة ابنها – مخيمات مدرسية
تحكي عن تجربة ابنها عمر في التخييم مع المدرسة خارج لندن، وانفصال الطفل عن والديه لأسبوع. تسرد مشهد وداع الأمهات، والقيود التي وضعتها المدرسة، وتنتهي القصة برسالةٍ بخط يد عمر تحتفظ بها الأمّ إلى اليوم.
القصة الثالثة عشرة: في انتظار الطفولة
تستحضر ذكريات زمن الطفولة في الأردن، وحب الأطفال للسكر، والحاجة الطيبة التي كانت تزرع البهجة بتوزيعه. تسائل الكاتبة أين ذهبت تلك الوجوه الباسمة التي كانت تنثر السعادة.
القصة الرابعة عشرة: في انتظار الوصول – خرابيط فكرية
تحكي عن رحلة الجدة إلى المدرسة لاصطحاب حفيدها، مرورًا بأزمات المرور والزحام والفوضى. تنتقد التناقض بين الواقع المعيشي والبرامج الإعلامية التي تتحدث عن ترف العيش، وكأن الناس في وادٍ والإعلام في وادٍ آخر.
القصة الخامسة عشرة: في انتظار صحو ابنتها – طيور الحب
تحكي عن ابنتها الصغيرة التي أرادت حوض أسماكٍ للزينة، لكنه انكسر وماتت الأسماك. لاحقًا اشترت لها الأمّ طيور حبٍّ صفراء اللون، ولما ماتت الأنثى خرجت الأم في الصباح الباكر تبحث عن بديلة لتفرح ابنتها. القصة تمثل ذروة الحنان الأمومي الذي لا يعرف الكلل.
القصة السادسة عشرة: في انتظار الوعي
تصور امرأة كاتبة تحاول استدعاء الكتابة بعد أن جفّ الإلهام وضاعت الفكرة. عودة القلم هنا تشبه عودة الروح بعد غياب.
القصة السابعة عشرة: في انتظار قهوة
رحلة حنينٍ إلى الجنوب الأردني، الكرك، مسقط الرأس وموطن الذاكرة. في الطريق إلى هناك تستدعي البطلة جمال الطبيعة وقدرة الله في الكون.
القصة الثامنة عشرة: في انتظار أختها والكتب – دهشة المكتبات
تحكي عن ولع الكاتبة بالكتب، وارتباطها بأختها التي أجبرتها جائحة كورونا على الإقامة معها عامًا ونصف. تذكر قراءاتهما المشتركة، وخاصة رواية غابرييل غارسيا ماركيز «نعيشها لنرويها». وتؤكد أهمية تعلّم اللغات لقراءة الآداب العالمية بلغتها الأصلية.
القصة التاسعة عشرة: في انتظار الأفكار الهاربة – كتاب
تحكي عن لحظة الخلق الإبداعي حين قدّمت ابنتها لها دفترًا لتكتب عليه، لكنها لم تجد فكرة. بعد فترة بدأت بكتابة أول جملة: «بسم الله الرحمن الرحيم»، إيذانًا بانبثاق الكتابة من جديد.
القصة العشرون: في انتظار الصبا – كتاب ونعناع وذكريات أم
تحكي عن حبّ الكاتبة للقراءة والكتابة، وتكشف أن هذا الحب ورثته عن أمها التي كانت تقرأ وتكتب، وإن لم تنشر شيئًا.
القصة الحادية والعشرون: مكالمات من الغربة – شوق ولفه
تتناول فترة كورونا ولهفة الأمّ للقاء أولادها وأحفادها المقيمين في لندن. لا وسيلة للتواصل سوى التكنولوجيا، وتلتقط الكاتبة طرافة لغة الحفيد الجديدة التي تمزج بين العربية والإنجليزية وتسميها «العربيزي».
القصة الثانية والعشرون: اشتقت لك يا صغيري – ذكريات وآيس كريم
تحكي عن شقاوة الحفيد عمر وذكريات الطفولة، حيث كانت تصحبه لشراء الآيس كريم من السوبر ماركت. لحظات بسيطة لكنها تختزن الدفء العاطفي.
القصة الثالثة والعشرون: خمس دقائق
تصور لحظة فقدان الابنة في أحد المحال بدبي أثناء التسوق. خمس دقائق مرّت كدهرٍ من الخوف والقلق، لتنتهي القصة بعودة الابنة إلى باب المحل المجاور، في إشارةٍ إلى الخوف الغريزي عند الأمّ الذي لا يفارقها.
تحليل الإهداء بوصفه عتبة وجدانية للنص
يأتي الإهداء في مجموعة «سيدة الانتظار» بوصفه البوابة العاطفية التي تفتح أمام القارئ الدلالات الكبرى للنصوص. فالإهداء ليس مجرد عبارة تقليدية، بل هو صوت داخلي ينبض بالأمومة، يعلن منذ اللحظة الأولى أن المجموعة تُكتب من قلبٍ يعرف الانتظار، ويعيش تفاصيله في اليوميّ والعميق معًا.
يُلاحظ أن الكاتبة وجهت الإهداء إلى أبنائها وأحفادها، لتجعل من التجربة الخاصة رمزًا عامًا لكل أمٍّ عربية تتقاطع حياتها بين الحنين والفقد والرجاء. إنّ الإهداء هنا لا ينتمي إلى البنية الشكلية فحسب، بل يشكّل نصًا موازياً يعكس جوهر المجموعة ويؤسس لدلالتها.
من الناحية الدلالية، يحمِل الإهداء طاقة وجدانية تُترجم مفردات مثل الانتظار، الشوق، الفرح، الدعاء، الذاكرة، والطفولة. هذه المفردات ستتكرّر لاحقًا في القصص، لتؤكد أن الإهداء هو النواة الشعورية التي تفرعت عنها القصص جميعًا.
ومن زاوية فنية، يمكن القول إن الكاتبة استخدمت الإهداء كأداة توحيد رمزي، إذ جعله يربط بين الواقع والخيال، الماضي والحاضر، الأم والابن، ليصبح الإهداء في ذاته مفتتحًا سرديًا يهيئ المتلقي للدخول في عوالم الحنين والمشاعر الإنسانية العميقة.
إنه ليس مجرد تحية، بل نبضٌ أول يعلن أن القصص وُلدت من رحم الانتظار الطويل.
فكرة توظيف الصور مع كل قصة
تطرح الكاتبة عائدة المعايطة في مجموعتها «سيدة الانتظار» فكرةً جمالية فريدة، هي مرافقة الصور للقصص، في ما يشبه الحوار بين السرد والبصر، أو بين الكلمة واللون. ليست الصورة هنا عنصرًا تزيينيًا، بل جسرًا بصريًا يربط القارئ بالعالم الداخلي لكل حكاية، فتغدو كل قصة مشهدًا مرئيًا ينبض بالحياة والرمز.
إنّ الصورة المرافقة لكل قصة تمثل مستوى دلاليًّا موازياً للنص، فهي تترجم ما لا يُقال بالكلمات: نظرة الأم، ملامح الطفل، ظل الغياب، أو دفء بيتٍ يشتاق إلى ضحكات الأحفاد. وبذلك تؤدي الصور وظيفة التكثيف العاطفي والاستدعاء البصري للذاكرة، لتجعل القارئ يعيش التجربة بكل حواسه.
من الناحية الفنية، توظيف الصور مع القصص يحقق ما يمكن تسميته بـ الانزياح البصري للسرد، إذ تتجاوز الصورة حدود التوضيح إلى الاشتباك مع النص؛ فهي تكمّله حينًا، وتعارضه حينًا آخر، وتكشف عمق المعنى الكامن في الانتظار ذاته. فالأم التي تنتظر ابنها أو حفيدها، يمكن أن تُرى في صورة كرسي فارغ، أو يدٍ تحتضن إطارًا فوتوغرافيًا، أو نافذة مفتوحة على غروب بعيد.
تسهم هذه الفكرة في جعل المجموعة كتابًا بصريًا-وجدانيًا يتجاوز القراءة التقليدية إلى تجربة تفاعلية، إذ تمنح القارئ مساحة للتأمل والتأويل، وتدفعه لتخيل نهاية مختلفة لكل قصة.
وهكذا تتكامل الصورة مع الكلمة في بناء هوية جمالية موحدة للمجموعة، حيث يصبح الانتظار مشهدًا يُرى كما يُقرأ، ويُحس كما يُتخيل.
تقنيات السرد في مجموعة «سيدة الانتظار»
تُظهر الكاتبة عائدة المعايطة وعيًا فنيًا واضحًا في بنائها السردي لمجموعة «سيدة الانتظار»، حيث تنوعت التقنيات السردية لتخدم الفكرة المركزية المهيمنة: الانتظار بوصفه حالة إنسانية وجودية.
وقد استطاعت أن توظف هذه التقنيات بما ينسجم مع الجو النفسي والعاطفي للنصوص، ويمنحها عمقًا دلاليًا وجمالياً.
1. الراوي الداخلي وصوت الأم
تتبنّى معظم القصص ضمير المتكلم، ليكون السرد صادرًا من داخل الذات الأنثوية، صوت الأم التي تتحدث إلى نفسها أو إلى الغائبين عنها.
هذا الاختيار يجعل السرد أكثر حميمية وصدقًا عاطفيًا، ويتيح للكاتبة التعبير عن الخوف والرجاء والحنين من منظور شخصي مباشر.
2. التكرار بوصفه بنية دلالية
يتكرر فعل الانتظار في العناوين والنصوص حتى يغدو علامة وجودية، لا مجرّد حدث زمني.
فكل قصة تمثل طورًا من أطوار الانتظار: انتظار الأبناء، انتظار الرسائل، انتظار العودة، انتظار الحياة.
التكرار هنا ليس ترادفًا موضوعيًا، بل موسيقى سردية تصنع وحدة الإيقاع وتكثّف الشعور بالزمن البطيء.
3. الزمن النفسي
الزمن في هذه المجموعة غير خطيّ، إذ تتداخل الأزمنة بين الماضي والآن والمستقبل.
فالأمّ تستحضر الماضي في صورة الحاضر، وتعيش المستقبل كحلم أو توقع.
إنه زمن داخلي تحكمه الذاكرة لا الساعة، ينساب بين الحنين والفقد.
4. اللغة السردية الشعرية
تتخذ اللغة في قصص عائدة المعايطة طابعًا شعريًا مكثفًا، حيث يمتزج السرد بالوجد، والعبارة بالنبضة.
تجنح الكاتبة إلى استخدام التصوير والمجاز بدل التقرير، فتتحول التفاصيل اليومية إلى رموز: فنجان القهوة، النافذة، الهاتف، كلها إشارات إلى الغياب والانتظار والحنين.
5. الحوار الداخلي
تستخدم الكاتبة الحوار الداخلي لتجسيد صراع الذات بين الرضا والشكوى، بين الأمل والخذلان.
فهي لا تتحاور مع الآخرين بقدر ما تحاور ذاتها، ما يجعل النصوص أقرب إلى المونولوج الوجداني.
6. النهايات المفتوحة
تُبقي الكاتبة معظم القصص مفتوحة النهايات، تاركة للقارئ حرية التأويل، وكأن الانتظار لا ينتهي.
هذه التقنية تعمّق الإحساس بالدوام: انتظار بعد انتظار، حياة تلد حياة أخرى في حلقة لا تنغلق.
7. الإيقاع البصري والزماني
يتجلى الإيقاع في التوازن بين المشهد والوصف، وبين السرد والمونولوج، ما يمنح القصص طابعًا هادئًا رغم توترها الداخلي.
فكل قصة تبدو كصورة ساكنة لكنّها تومض بإحساسٍ متحرك، كنبض قلب في زمنٍ بارد.
إنّ هذه التقنيات مجتمعة منحت المجموعة تماسكًا فنيًا ونفسيًا، وأكدت أن الكاتبة تمسك بزمام الحكاية دون أن تفقد صدق العاطفة أو دفء التجربة الإنسانية.
الوحدة الموضوعية في مجموعة «سيدة الانتظار»
تتجلّى في مجموعة «سيدة الانتظار» وحدةٌ موضوعية واضحة، تنسج القصص الثلاث والعشرين في خيطٍ دلالي واحد، هو الأمومة في مواجهة الغياب.
إنها ليست قصصًا متفرقة، بل حلقات متصلة من تجربة إنسانية واحدة تتعدد وجوهها وأصواتها، لكنها تصدر جميعها عن ذاتٍ أنثويةٍ كبرى تكتب شوقها وخوفها في لغة صادقة حارة.
1. محور الانتظار
الانتظار هو الروح المركزية للمجموعة، يظهر في كل قصة بشكل مختلف، لكنه يحمل الجوهر ذاته:
انتظار ابنٍ مهاجر، أو حفيدٍ لم يولد بعد، أو لحظة وعي، أو بزوغ فجرٍ جديد.
تنوّع الانتظار لا يلغي وحدته، بل يمنحها تنفسًا إنسانيًا يعبّر عن تعدد صور القلق الأمومي في عالمٍ سريع التبدل.
2. الأمومة كقيمة وجودية
الأمومة هنا ليست وظيفة بيولوجية فحسب، بل معنى وجودي يحتضن الحياة كلها.
تبدو الأم في القصص محور الكون، تحمل عبء الحب والذاكرة، وتبقي شعلة الأمل حيّة رغم الخيبات.
ومن خلال صوتها تتكلم أمهات العالم، لتغدو المجموعة سجلاً وجدانيًا للأمومة في زمن الاغتراب.
3. البيت بوصفه رمزًا
يتكرر حضور البيت كفضاء مكاني ثابت، لكنه متحوّل في دلالاته:
فهو أحيانًا ملاذ الأمان، وأحيانًا سجن الانتظار.
تجلس الأم أمام النافذة أو على مائدة الإفطار أو بجانب الهاتف، لتتحول الأمكنة إلى مرايا نفسية تعكس حالات الوجدان.
4. الحلم والذاكرة
القصص تتحرك بين الحلم والذاكرة كأنهما جناحا الوجود.
فالأم تتحدث إلى صور أبنائها، وتستعيد تفاصيل طفولتهم، كأنها تقاوم الفناء بالاستحضار.
وهنا تتجلى وحدة التجربة الشعورية التي تجمع القصص رغم اختلاف أحداثها.
5. الزمن الدائري
تتكرر في القصص لحظة الانتظار ذاتها بصيغٍ مختلفة، لتخلق ما يمكن تسميته بـ الزمن الدائري؛
فكل نهاية تعيد القارئ إلى بداية جديدة، في دورةٍ من الحنين والرجاء تشبه دوران الحياة نفسها.
6. الصوت الأنثوي الجمعي
على الرغم من أن المتحدثة في معظم القصص هي امرأة واحدة، فإن صوتها يتسع ليشمل كل الأمهات،
فتتحول الشخصية المفردة إلى رمزٍ جمعي للمرأة العربية التي تقف على حافة الفقد والأمل.
بهذا تتحقق الوحدة الموضوعية والرمزية معًا.
إنّ هذه الوحدة المتماسكة تجعل من «سيدة الانتظار» عملاً فنيًا ناضجًا تتكامل فيه الرؤية واللغة والتجربة، فيغدو الانتظار ليس موضوعًا فحسب، بل حالة وجودية شاملة تعيد تعريف معنى الأمومة والحنين في العصر الحديث.
الأمومة والأبناء والأحفاد — المحور الإنساني في «سيدة الانتظار»
تقوم مجموعة «سيدة الانتظار» على محورٍ إنسانيٍّ عميق، هو الأمومة الممتدة عبر الأجيال، حيث تكتب الكاتبة عائدة المعايطة مشاعر الأم وهي تتأمل أبناءها وأحفادها، في زمنٍ يبتعد فيه الأبناء جسديًا وروحيًا، ويغدو اللقاء حلمًا مؤجلًا.
الأم هنا ليست شخصية واحدة، بل أيقونة للحب اللامشروط، تجمع بين الحنان والتضحية، بين الحضور الصامت والغياب الموجع.
1. الأم كذاكرة ووجدان
تحمل الأم في القصص ذاكرة البيت والعائلة والوطن، وتصبح الذاكرة الجمعية التي تحفظ تفاصيل الحياة الصغيرة، من نكهة الإفطار إلى أصوات الأحفاد في أروقة البيت.
ومن خلال هذا الاستحضار الدائم للماضي، تحاول مقاومة الفقد، وكأن الذاكرة هي وسيلتها للخلود العاطفي.
2. الأبناء بين الغياب والحضور
يظهر الأبناء في النصوص ككائناتٍ غائبةٍ جسديًا، حاضرةٍ روحيًا، تراهم الأم في الصور أو تسمع أصواتهم في الهاتف،
لكنّ المسافة المكانية تخلق وجعًا داخليًا يتكرر في القصص بصيغٍ شتى.
فهم سبب الفرح والحزن في آنٍ واحد، فهم الحلم الذي تحقق ورحل.
3. الأحفاد بوصفهم امتدادًا للحياة
تمثل الأحفاد في المجموعة بشارة الأمل وتجدد الحياة.
فعلى الرغم من الانتظار والحنين، يظل وجود الأحفاد تجسيدًا للخصب والاستمرارية،
إنهم يملؤون الفراغ بضحكتهم، ويعيدون للأم إحساسها بالزمن الجميل الذي مضى.
4. الأنوثة في ظل الأمومة
تُظهر القصص أن الأمومة لا تُلغي أنوثة المرأة، بل تُعيد تشكيلها في بعدٍ أسمى.
فالأم في قصص عائدة المعايطة ليست كائنًا منسحبًا من الحياة، بل امرأة تتأمل العالم بحسٍّ ناضجٍ ورؤيةٍ رحيمة، تعي الحب والحرمان معًا، وتعيش صراعها الداخلي بكرامةٍ وصبر.
5. الحنين بوصفه طاقة سردية
يتحوّل الحنين في النصوص إلى محركٍ سرديٍّ أساسي، فهو الذي يفتح باب الحكاية ويغلقها، وهو الذي يجعل الانتظار قابلاً للعيش.
فالأم تحيا على الذكريات، وتحوّل ألم الفقد إلى لغةٍ دافئةٍ تعبّر بها عن عمق إنسانيتها.
6. البعد القيمي والروحي
تغدو الأم في هذه المجموعة نموذجًا للمرأة المؤمنة التي تواجه الفقد بالصبر والإيمان،
وتتخذ من الدعاء وسيلةً للتواصل مع الغائبين، وكأن الأمومة هنا رسالة روحية تتجاوز حدود الجسد والزمن.
بهذا المعنى، فإن «سيدة الانتظار» ليست مجرد مجموعة عن الحب الأمومي، بل هي تأمل فلسفي في معنى الاستمرار الإنساني، حيث يتحد الماضي بالمستقبل في قلب الأم التي تحرس الحياة من الفناء بالحب وحده.
المقارنة بين «سيدة الانتظار» و*«لوحات حالمة»*
تشكل المجموعتان القصصيتان «سيدة الانتظار» و*«لوحات حالمة»* للكاتبة عائدة المعايطة خطين متوازيين في تجربتها السردية، فهما تعبّران عن تطور الوعي الفني والنفسي لدى الكاتبة، وانتقالها من الحلم إلى الانتظار، ومن الرؤية الحالمة إلى التأمل في عمق الواقع الإنساني.
ورغم اختلاف البؤر الظاهرية في المجموعتين، فإن بينهما وشائج داخلية قوية توحد الرؤية والهمّ الإنساني.
1. من الحلم إلى الانتظار
في «لوحات حالمة»، كانت الكاتبة ترسم عوالمها بالأمل والرغبة في تحقيق الحلم، وكان السرد أكثر انفتاحًا على الخارج.
أما في «سيدة الانتظار»، فقد انتقلت إلى زمن التأمل والبطء، حيث تتخذ من الانتظار بؤرة وجودية، ومن الأمومة محورًا إنسانيًا.
هنا يتراجع الحلم كفعلٍ مستقبلي ليحلّ مكانه الحنين كحالة دائمة.
2. التجربة الأنثوية الناضجة
في المجموعتين معًا تحضر المرأة، لكن حضورها في «سيدة الانتظار» أكثر نضجًا وعمقًا.
ففي «لوحات حالمة» كانت المرأة تبحث عن ذاتها، أما في «سيدة الانتظار» فقد وجدت ذاتها في الآخرين — في الأبناء والأحفاد والذاكرة — فصارت الأمومة مرآة للكينونة لا قيدًا عليها.
3. التحول في اللغة
لغة «لوحات حالمة» تتسم برهافة الشعر وصور الحلم، بينما في «سيدة الانتظار» تميل اللغة إلى الصفاء والهدوء، يغلب عليها البوح والتأمل أكثر من الانفعال.
فالكاتبة هنا تكتب لغة الروح الهادئة، لا الانفعال العاطفي المباشر.
4. الزمن والمكان
في «لوحات حالمة» يتحرك السرد في فضاءات متنوعة، فيها السفر والذكريات والتفاصيل اليومية.
أما في «سيدة الانتظار» فالمكان ينحصر غالبًا في البيت أو المقهى أو النافذة، كفضاءات صغيرة تحوّلت إلى رموز كونية للغربة والحب.
هنا يتحول الداخل إلى مسرح الحياة.
5. الوعي السردي والفني
يتضح في «سيدة الانتظار» نضج في البناء السردي مقارنةً بالمجموعة الأولى،
إذ تحقق الكاتبة وحدة عضوية محكمة تربط القصص جميعها بفكرة واحدة دون فقدان التنوع.
أما في «لوحات حالمة» فكان الطابع أقرب إلى التجريب والبحث عن أسلوب خاص.
6. الوظيفة الإنسانية للنص
في المجموعتين، تحضر القيم الإنسانية — المحبة، الإخلاص، التضحية — لكنها في «سيدة الانتظار» تأخذ بعدًا روحيًا أعمق، إذ تكتب الكاتبة عن الإنسان وهو يعيش معنى الحياة في تفاصيلها الصامتة، وعن الأم وهي تعطي دون مقابل.
هكذا تصبح المجموعة الثانية امتدادًا ناضجًا للأولى، وتكمل رحلة الوعي الإبداعي لدى الكاتبة.
إذًا، يمكن القول إن «لوحات حالمة» كانت البداية الحالمة، أما «سيدة الانتظار» فهي ثمار الحلم وقد نضجت تحت شمس التجربة، فانتقلت الكاتبة من رسم اللوحة إلى عيشها، ومن الرؤية إلى التأمل، ومن الحلم إلى الانتظار الهادئ المفعم بالإيمان.
فلسفة الانتظار والحب عبر الأجيال للأولاد والأحفاد وإدخال الشعر في السرد
تقوم مجموعة «سيدة الانتظار» لعائدة المعايطة على فلسفة إنسانية عميقة تتجاوز حدود الحكاية لتلامس جوهر الوجود الإنساني، إذ يتحول الانتظار فيها من فعلٍ زمني إلى حالةٍ وجودية تمسّ الأمومة في أنقى صورها، وتعيد تعريف العلاقة بين الحبّ والوقت، بين الأم وأبنائها، وبين الجيل الذي يرحل والجيل الذي يأتي.
في قصص المجموعة، يتجلّى الانتظار كمعادل للحبّ المستمر، فالأم لا تنتظر أبناءها لتراهم فقط، بل لتحافظ على معنى وجودهم في حياتها. إنّها تنتظر لتؤكد حضورهم في ذاكرتها، وتحيا على صوت ضحكاتهم البعيدة، وعلى صورهم التي تتردّد في الأركان كأنها صدى القلب. هكذا يتحوّل الانتظار إلى شكلٍ من أشكال الصبر الجميل، وإلى نشيدٍ للحياة.
وإذا كانت المعايطة قد عبّرت عن ذلك في سردها بلغةٍ شفيفة ومكثفة، فإن الشعراء الكبار قد لامسوا هذا الجوهر ذاته في تجاربهم. وأقرب النصوص التي تعمّق هذا المعنى ما جاء في شعر محمد التهامي، في قصيدته التي يهديها إلى ابنه، وفيها تتجسد أسمى صور الحبّ الأبوي، الذي يحمل في طياته لهفة الانتظار وامتداد الحنان عبر الأجيال:
أنا قادم لك يا بني وحق طهرك لا تنم،
لا تحرمن أباك من فمك الشهي إذا ابتسم،
حلواك تلك أضمها في لهفةٍ بيدي ضم،
أسعى إليك وكل خافقةٍ بجنبي تضطرم،
فأطير من فرحي وأنسى الهمّ، أنسى كل همّ.
فلكم تعبتُ وكم شقيتُ وكم شبعتُ من الألم،
وعلى نداك الحلو ترتاح الجراح وتلتئم،
عيناك أفصح في الحديث المشتهى من كل فم،
والحب عندك آيةٌ من صنع وهاب النعم،
فيه من الرحمن من فردوسه الأعلى نَسَم.
ألقاك بين يديّ أشرب من لماك وألتهِم،
وأطيل ضمّك، لست أشبع منك، من شفتيك لثم،
قبل تفيض بما تُحِسّ وما تَشمّ،
وتروح تحكي لي حكايات النهار المنصرم.
أنا يا بني على الجراح طويتُ هذا القلب طيّ،
الناس كم خدعوا وكم غدروا وكم كذبوا عليّ،
الحب كما قدّمته وبكل طاقاتي لديّ،
الحب كم عبثت به عذراء تحسبها بغيّ،
والصادق الإنسان سموه لجهلهم غبيّ.
ولدي، تعبتُ من الحديث فنم على الصدر الحنون،
سأردّ أنفاسي وأحبسها لتنعم بالسكون،
وتنام تحرسك المنى والروح والملك الأمين،
أفديك يا عمري الذي يبقى ويصمد للسنين.
وتروح تعثر بالأثاث، تحيد عنه وتصطدم،
وفرشتُ قلبي كي تسير، تدوس فيه بالقدم،
أقسمتَ أنك لو فعلتَ لما وجدتَ له ألم.
إنّ هذا النص الشعري يوازي بلاغة السرد في قصص المعايطة، ويكشف عن جوهرٍ مشترك هو الحنين الوجودي الذي لا يشيخ، وعن ذلك الارتباط العاطفي الأبدي الذي لا تنهيه المسافات ولا يطفئه الغياب.
وفي بعدٍ آخر من الرؤية، يلتقي المعنى الذي صاغته المعايطة في قصصها مع ما كتبه محمد عبد الرحمن صائن الدين في قصيدته “الإنسان والصبر” من ديوانه «في الإنسان في الميزان». ففيها تتجلى الحكمة الكونية في علاقة الأم بفرخها الذي شبّ وطار، كما تتجلى فلسفة الوعي بالزمن والتحول الطبيعي للحياة:
قلتُ للورقاء يومًا خبريني يا حمامة،
كان بين العشّ فرخٌ منك يستوفي طعامه،
تدفعين الشرّ عنه باقتدارٍ وصرامة،
أين غاب الفرخ عنك اليوم؟ قالت مستهامة:
طار في الآفاق يحيا حيثما يهوى الإقامة.
هكذا الإنسان حين اشتدّ، ولّى مستقلاً،
لا يبالي في صفاء العيش أوشاجًا وأهلا.
هذا المشهد الشعري البسيط يعادل عشرات الصفحات من السرد في تصويره العميق لفطرة الفقد والنماء. إنه يعبّر عن معنى الانتظار المتحوّل إلى إدراكٍ للحكمة الكامنة في الرحيل، وهو المعنى الذي تحمله بطلات عائدة المعايطة في قصصهن، حيث يصبحن شاهدات على مرور الزمن، لكن دون أن يفقدن إيمانهن بالحياة واستمرارها عبر الأبناء والأحفاد.
بهذا المعنى، تكتمل لدى القارئ فلسفة الانتظار في بعدها الإنساني الشامل:
الانتظار ليس نقيض الفعل، بل امتدادٌ له في بُعدٍ آخر من الزمن، والحبّ ليس مجرد شعور، بل قانون الوجود الذي يربط الماضي بالحاضر والمستقبل.
ولذلك تتقاطع الرؤية السردية لعائدة المعايطة مع الرؤية الشعرية لهذين الشاعرين الكبيرين عند نقطةٍ واحدة: قداسة الأمومة والحنين المتوارث عبر الأجيال.
الخاتمة النقدية والتقويم العام للمجموعة
تُعدّ مجموعة «سيدة الانتظار» للقاصة عائدة المعايطة تجربة سردية ناضجة ومتماسكة، تؤكد حضور صوتٍ أنثويٍّ عميق الوعي بذاته وبالعالم من حوله، صوتٍ لا يكتب من موقع الشكوى أو البكاء، بل من موقع التأمل في جوهر الوجود الإنساني، عبر مرآة الأمومة والحنين والانتظار.
لقد استطاعت الكاتبة أن تحوّل التفاصيل اليومية البسيطة إلى نصوص فلسفية مشبعة بالمعنى، تُسائل الزمن، وتعيد ترتيب العلاقة بين المرأة والأسرة، بين الذات والآخر، بين الحضور والغياب.
من خلال قصصها الثلاث والعشرين، صاغت المعايطة عالماً خاصاً تتحرك فيه الشخصيات داخل فضاء شعوري مشترك، هو فضاء الانتظار — انتظار الأحبة، الأبناء، الوطن، الفرح، والوعي ذاته. غير أن هذا الانتظار لا يأتي في سياق الاستسلام، بل في سياق المقاومة الداخلية، حيث يصبح الصبر فعل حياة، والحنين طاقة إبداع.
وقد تميزت الكاتبة بقدرتها على تطويع اللغة لخدمة التجربة الإنسانية، إذ جاءت عباراتها شفافة ومكثفة، تخلو من الزخرف، وتفيض بالعاطفة الصادقة. لغتها تحمل موسيقى داخلية تجعل القارئ يحسّ أنه أمام شعرٍ مكتوب بالنثر، وهذا ما يعزز القيمة الجمالية للنصوص.
كما تبرز براعتها في توظيف تقنيات السرد الحديثة:
المنولوج الداخلي الذي يكشف باطن الشخصية.
الاسترجاع الزمني في مقاطع قصيرة تربط الماضي بالحاضر.
الحوار النفسي والرمز الذي يحوّل الأشياء إلى علامات دلالية (الفنجان، النافذة، الساعة، الصورة).
أما من حيث البنية الموضوعية، فإن وحدة الانتظار تشكّل الخيط الرابط بين القصص جميعها، فتبدو المجموعة وكأنها رواية مجزّأة تتحدث بصوتٍ واحدٍ متعدد الطبقات، صوت الأم التي تنتظر وتحب وتغفر وتمنح. وهنا تتجلّى قيمة العمل، إذ يتحول من تجميع قصصي إلى مناجاة سردية متكاملة عن فلسفة الحياة والإنسان.
عند المقارنة بين هذه المجموعة ومجموعة الكاتبة السابقة «لوحات حالمة»، نلحظ انتقالًا نوعيًا من الانطباع الشعري الحلمي إلى النضج التأملي الوجودي. ففي لوحات حالمة كانت المرأة تحلم وتراقب وتصف، أما في سيدة الانتظار فهي تفكر وتُحلّل وتعي، وقد تحوّل الحلم إلى وعيٍ، والانتظار إلى موقفٍ فكريٍّ وأخلاقيٍّ وجماليّ.
من الناحية الجمالية، نجحت المعايطة في إضفاء تماسك بنائي على نصوصها رغم تنوعها، إذ وحدها الفكرة المركزية للأمومة الممتدة عبر الأجيال أعطت للمجموعة انسجامها الداخلي. كما أضافت فكرة الصور المرافقة لكل قصة بعدًا بصريًا يعمّق التلقي، ويحوّل القراءة إلى تجربة وجدانية متكاملة.
إن سيدة الانتظار ليست فقط عنوانًا لمجموعة قصصية، بل عنوانٌ لفلسفة إنسانية شاملة تؤمن بأن الحبّ هو ما يمنح الزمن معناَه، وأن الأم، وهي تنتظر أبناءها وأحفادها، لا تنتظرهم بقلقٍ، بل بحكمةٍ مستمدةٍ من يقينها بأن الحياة تُورّث بالحبّ لا بالدم فقط.
تُقدّم عائدة المعايطة عبر هذا العمل تجربة أنثوية ذات بعد إنساني شامل، تنفتح على أسئلة الكون والوجود، وتُعيد للأدب القصصي روحه النقية:
روح الحنان، والصدق، والبحث عن الجمال في تفاصيل الحياة اليومية.
وبذلك يمكن القول إن المجموعة تمثل علامة مضيئة في مسيرة القصة القصيرة العربية المعاصرة، لأنها تمزج بين حرارة العاطفة وعمق الفكرة، بين النثر والشعر، بين التجربة الشخصية والهمّ الإنساني العام.
___
في النهاية أتقدم بالشكر الجزيل للصديقة الفنانة التشكيلية إزدهار الصعوب رئيس جمعية ميشع المؤابي للثقافة والفنون على هذا الجهد الذي تقوم به بين الربط بين أعضاء الجمعية وملتقى الشعراء العرب، وتحية للكرك وعمان والأردن الشقيق والشعب الأردني وملك الأردن.
الهوامش:
الشاعر محمد عبد الرحمن صان الدين
1923/2001
صدر له
اعاصير وانسام
ديوان شعر
الهئية العامة للكتاب
الإنسان في الميزان
دار المعلمي المملكة العربية السعودية
محمد التهامي
1920 /2015
الأعمال الكاملة شعر
الهئية العامة للكتاب
وتحضر في هذا السياق رمزية نافورة الأمنيات في روما (Fontana di Trevi) بما تنطوي عليه من دلالاتٍ عميقة تتجاوز طقس إلقاء النقود في الماء. فهذه العادة التي تعود جذورها إلى الأساطير الرومانية القديمة، حيث كان الناس يرمون القطع المعدنية في الينابيع طلبًا للبركة أو تحقيق الرغبات، تحوّلت في الوعي الحديث إلى رمزٍ للحلم الإنساني في مواجهة المستحيل. إنّ كل قطعة نقدية تُلقى في الماء تُشبه اعترافًا صغيرًا بالأمل، وتعبيرًا عن توقٍ داخلي للعودة، أو للقاء، أو للتحقق. ومن اللافت أنّ ما يُلقى اليوم في نافورة تريفي يُجمع بانتظام ويُخصَّص لأعمالٍ خيرية لصالح الفقراء عبر مؤسسة كاريتاس، فيتحوّل الحلم الفردي إلى عطاءٍ إنسانيٍّ مشترك. من هنا يمكن قراءة إشارات الكاتبة إلى الرغبات المضمَرة في قصصها بوصفها “عملاتٍ رمزية” أُلقيت في نافورة التمنّي، في انتظار أن تستجيب لها الحياة ذات يوم.
الكاتبة هنا تريد أن تقارن بين زمنين متباعدين، زمن الجدّات اللواتي كنّ يجدن الحكاية وسيلة للتربية وغرس القيم، وزمن الأحفاد الذين استبدلوا تلك الحكايات بشاشاتٍ سريعة الإيقاع وأبطالٍ من رسومٍ متحركة. وفي هذا السياق، يمكن استحضار المسلسل البريطاني “شون ذا شيب” (Shaun the Sheep)، الذي يُعد من أبرز إنتاجات شركة Aardman Animations منذ عام 2007، ويعتمد على أسلوب التحريك البطيء (Stop Motion Animation)، مقدّمًا مغامرات طريفة لخروفٍ ذكيٍّ يقود قطيعه في المزرعة من دون حوارٍ لفظي، مكتفيًا بالإيماءات والإشارات. وقد استطاع هذا العمل، على بساطته، أن يجمع بين الطرافة والذكاء، وأن يقدّم للأطفال نموذجًا من القيم الإنسانية المشتركة مثل التعاون، والمساعدة، وتحمل المسؤولية، في صيغةٍ تناسب العصر الرقمي. وإذا كانت الجدّات قديماً ينسجن القصة حول النار أو في ليالي الشتاء لتعليم معنى الخير والجمال، فإن الأحفاد اليوم يتلقّون القيم ذاتها من خلال الشاشة، ولكن عبر وسائط بصرية حديثة، تجمع بين الترفيه والتربية في آنٍ واحد.
– يراجع كتاب أقلام وأوهام – ناصر رمضان عبد الحميد – نقد
اسكرايب للنشر والتوزيع بالتعاون مع ملتقى الشعراء العرب 2023
– جنون الحرف – دارسات وحوارات – ناصر رمضان عبد الحميد
اسكرايب للنشر والتوزيع بالتعاون مع ملتقى الشعراء العرب 2023
عائدة المعايطة
عائدة محمود الأدهش المعايطة
صدر لها:
– سيدة الانتظار – مجموعة قصصية
– لوحات حالمة في ذاكرة غيمة جنوبية
–