تعويدات الكتابة في التشكيل
بقلم هناء ميكو
الكتابة والتشكيل كلاهما نفس واحد في جسدين مختلفين ، كلاهما وحي يسكن اليد قبل أن يستقر في الورق أو على القماش.
إنها الرحلة نفسها: من ظلمة الداخل إلى إشراق الضوء، ومن الفوضى إلى التكوين، ومن الوجع إلى الجمال.
منذ أن أدركت أن الكتابة والفن قدر لا فكاك منه، وأن الله اصطفى بعضنا بسر الحرف واللون، أيقنت أن مانخلقه ليس عابرا بنا ولا طيفا يمر ليستعير أصابعنا فحسب،
فنحن أيضا نمتلك كيانا وذوقا ومخزونا وتجريبا، نضيف به من مائنا الخاص إلى نهر الإلهام.
إنها مشاركة بين الغيب والحضور، بين ما يُملى علينا ومانختاره بوعي وحرفة وشغف.
إنه النداء الخفي الذي يأتيك في صورة فكرة، أو رعشة قلب، أو نفس حلم غامض، أو حتى كابوس يذكرك بانك تأخرت عن موعد الخلق.
الفن والكتابة كلاهما زراعة في أرض بور، وحفر في صخور الذات
تتطلب صبر الفلاح، وجرأة المُنقِب، ونقاء المُتعبد وحين تنبت البذرة الأولى، تُدرك أن الضوء لم يكن خارجك، بل كان مختبئا في مسام جلدك، وفي شقوق روحك، ينتظر لمسة الوعي.
الكتابة تشكل، والتشكيل يكتب .
المداد لون، واللون كلمة.
الخط صرخة العين، والعبارة أثر الفرشاة على بياض الوجود.
وفي لحظة التجلي، يذوب الفرقبيم النص واللوحة، بين الورق والقماش، بين الحبر والزيت، لانهما يصدران عن النبع نفسه: نبع الوجد. والدهشة والانخطاف.
هي بالدرجة الأولى تبحث عن ممر لتتجسد وتترجم جوارحها.
تأتي حين تكون مستعدا، وتختارك حين تصير جديرا بها.
تقلقك وتؤرقك، وتتسبب لك في حكة شديدة رغبة في الخروج، تختارك حين تصير أنت جدير بها وخلاصا لها من الضياع
تقلقك وتؤرقك، ثم تمنحك نشوة الخلق الأولى. تلك اللحظة التي يلتقي فيها القلب بالعقل. والظل بالنور.
ولأن الكتابة والتشكيل كائنات حية، فإنهما لا يمارسان في عزلة تامة.
ثمة مجتمع غير مرئي يشاركنا الخلق: أرواح الذين كتبوا قبلنا، وظلال اللذين أحبوا، وذاكرة الأماكن التي مررنا بها، كلها تحضر لتنسج معنا النفس الأخير للعمل.
إنها علاقة تبادلية لا تبنى على الإتقان فحسب، بل على الإيمان.
الإيمان بأن الفن خلاص، وأن الكتابة نجاة، وأن كليهما صلاة تؤدى بمداد من النور.
هكذا حين نمسك القلم أو الفرشاة، لا نخلق العالم من جديد، بل نعيد اكتشافه نعيد قرائته فينا.
نعيده إلى لغته الأولى:
لغة الحبر والضوء.
لغة الروح.



















