أمي: درس الأخلاق الأول ومعنى الطهر الإنساني:
بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.
علمتني أمي أن من لا يخاف الله يفعل كل شيء؛ يكذب ويخون وينافق، ويجرؤ على الناس فيقتل ويبطش ويقهر. كانت تقول لي دائمًا بصوتها الذي يشبه صلاة الفجر: “يا بنيّ، من أضاع الله في قلبه أضاع كل القيم.” ولم أكن أدرك آنذاك أن الخوف من الله الذي تحدّثت عنه لم يكن خوفًا من عقابٍ أو نار، بل خشيةً نابعة من وعيٍ أخلاقي عميق، من ذاك الحياء الوجودي الذي يجعل الإنسان مسؤولًا عن كل فعلٍ يصدر عنه، حتى لو لم يره أحد.
لقد علّمتني أمي أن الأخلاق ليست دروسًا تُتلى، بل حياة تُعاش. أن تكون صادقًا لا لأن الصدق يُكافأ، بل لأن الكذب خيانةٌ لجوهر الإنسان. أن لا تسرق، لا لأن القانون يحرّم السرقة، بل لأن السرقة فعلٌ يُفقِدك احترامك لذاتك. أن لا تخون، لا لأنك تخشى الفضيحة، بل لأن الخيانة تمزّق إنسانك الداخلي وتحوّلك إلى كائنٍ هشّ لا يستطيع النظر إلى نفسه في المرآة.
لكنّ العالم يا أمي لم يكن كما ظننتِ. لقد كذب الناس عليّ حين صدقتُهم، وسرقوا من عمري سنين وأنا أظنّ الخير فيهم، وخانني الحظ مرات ومرات، حتى صار الوفاء ضربًا من الغرابة. ومع ذلك، لم تهتزّ قناعاتي التي غرستِها فيّ، لأنكِ علمتِني أن الطهارة ليست موقفًا من الناس، بل من الذات.
كنتِ تدركين، ببصيرةٍ فطرية، ما قاله الفيلسوف إيمانويل كانط لاحقًا في فلسفته الأخلاقية: إن الفعل الأخلاقي الحقيقي هو ما يُؤدّى لذاته، لا لغرضٍ خارجي. كنتِ تمارسين الكانطية دون أن تعرفي اسمها، وتعيشين الفلسفة دون أن تقرئيها.
لقد فهمتُ متأخرًا أن أمي لم تكن امرأةً بسيطة كما كنت أظنّ، بل كانت فلسفةً تمشي على الأرض. كانت تنتمي إلى تلك الفطرة النقيّة التي تحدّث عنها ابن خلدون حين قال إن الأخلاق تنشأ من “الاعتياد على الخير والتهذيب”، لا من القوانين. كانت تعرف أن الإنسان، إذا خاف الله بحق، لن يحتاج إلى شرطيٍّ يراقبه أو نصٍّ يُلزمه.
كانت أمي ترى في النقاء قوةً لا ضعفًا، وفي الصمت كرامةً لا انكسارًا، وفي الحبّ خلاصًا لا ضعفًا. علمتني أن الحبّ ليس شعورًا عابرًا، بل طريقة في الوجود، وأنّ القلوب البيضاء لا تخسر أبدًا، حتى وإن ظنّ الناس أنها مهزومة. كانت تقول لي: “افعل الخير وارمِه في البحر، سيعود إليك موجًا من طمأنينة.” وها أنا اليوم، بعد كل ما رأيت من غدرٍ ومنافع ومكر، أزداد يقينًا أن تلك الكلمة كانت فلسفة كاملة، لا جملةً أمومية عابرة.
في فكر ألبير كامو، الإنسان الأخلاقي هو من يختار النور رغم عبث العالم. وفي فكر أمي، النور ليس خيارًا بل طبيعة، لا يُمكن للإنسان أن يعيش في الظلام ما دام قلبه مضيئًا بالله. كم تشبه أمي هذا الوعي البسيط العميق الذي يتجاوز الكتب والجدالات، ذلك الوعي الذي يجعل من الأخلاق فنًّا في الحياة لا واجبًا ثقيلًا.
لقد كانت أمي أول من عرّفني على فكرة العدالة دون أن تنطق الكلمة. حين كانت تقسم رغيف الخبز بيننا بالعدل، كانت تمارس فلسفة جون رولز عن العدالة التوزيعية قبل أن تُصاغ بلغة أكاديمية. كانت تُعلّمني أن المساواة ليست شعارًا بل إحساسٌ بالآخر، أن تتقاسم معه ما عندك، لأن الامتلاك بلا مشاركة هو شكل من الأنانية الوجودية.
وأتذكّر كيف كانت تصرّ على أن أعتذر إذا أخطأت، لا لأنها تحبّ الخضوع، بل لأنها تؤمن أن الاعتذار يطهّر النفس من غرور الكِبَر. كانت تردّد: “من عرف الله لا يتكبّر.” وقد فهمت اليوم أن الكبرياء الذي تحدّثت عنه ليس مجرّد خلقٍ مذموم، بل هو، كما قال الغزالي، مرضٌ يصيب الروح فيعميها عن رؤية ضعفها أمام الخالق.
كانت أمي تملك ذاك الإدراك الصافي بأن الأخلاق ليست ما نفعله حين يرانا الناس، بل ما نفعله في غياب الشهود. في لحظاتٍ كثيرة، كنت أراها تتصدّق في الخفاء، أو تغفر لمن أساء إليها دون أن تذكر ذلك لأحد، وكأنها تجسّد قول نيتشه على نحوٍ مغاير، حين تحدّث عن “الإنسان الأعلى” الذي يتجاوز ذاته. غير أن إنسانها الأعلى لم يكن كما تصوّره نيتشه قوةً متعالية على الأخلاق، بل رحمة متعالية على الأذى.
لقد علمتني أمي أن الرحمة أرفع من العدالة، وأن الغفران أعظم من الانتقام. وها هنا يكمن سرّ أخلاقها الإلهية؛ فهي لم تكن تتعامل بمنطق المكافأة والعقوبة، بل بمنطق الصفاء الإنساني الذي لا يعرف الحقد.
رحمكِ الله يا أمي… لقد علمتِني أن العالم، بكل ما فيه من قسوة، لا يستطيع أن ينتزع من الإنسان طهره إلا إذا سمح هو بذلك. وأن أقسى أنواع الهزائم ليست تلك التي تأتي من الآخرين، بل تلك التي نفقد فيها أنفسنا ونحن نواجههم.
أدركت بعد رحيلك أن القيم التي ربّيتِني عليها ليست مجرّد وصايا أخلاقية، بل أسس وجودية تضمن للإنسان بقاءه في وجه العدم. كنتِ تعرفين أن من لا يخاف الله يفعل كل شيء، لكنك لم تعلمي أن هذا “الكلّ” قد صار واقعًا في زمننا؛ زمنٍ انقلبت فيه الموازين، وصار الكذب ذكاءً، والخيانة براعة، والنفاق مهارة اجتماعية. ومع ذلك، ما زلت أتشبّث بما زرعتِه فيّ كمن يتمسّك بآخر خيطٍ من النور وسط العتمة.
لقد كنتِ يا أمي الفيلسوفة التي لم تكتب كتابًا، والمربية التي لم تدخل مدرسة، والقدّيسة التي لم تُعلن قداستها. كنتِ التجسيد الأسمى لفكرة طه عبد الرحمن عن “الأخلاق المتجسّدة”، حيث تتحول الفضيلة من مفهومٍ إلى ممارسة، ومن نظريةٍ إلى سلوكٍ يوميٍّ يُعاش بصدقٍ وبساطة.
إنكِ يا أمي كنتِ تعرفين أن الطهر لا يُقاس بالخطابات، بل بصفاء النية، وأن السعادة ليست امتلاك الأشياء بل امتلاك النفس. كنتِ تقولين: “من نام بقلبٍ نقيٍّ فقد فاز.” وها أنا أؤمن اليوم أن الطمأنينة التي يتحدث عنها المتصوفة ليست سوى ذلك النوم القرير الذي وصفته، نوم من لا يحمل حقدًا، ولا ينتظر مقابلًا.
أمي…
رحمك الله وأسكنك فسيح جناته. لقد كنتِ لي الدين الأول، والضمير الذي يوقظني كلما غفلت، واليقين الذي لا يتزعزع رغم تبدّل كل شيء. علمتِني أن أنظر إلى السماء كلما ضاقت بي الأرض، وأن أرى في الطيبة بطولة، وفي النقاء قوة، وفي التسامح انتصارًا.
فنم قريرة العين يا أمي، فدروسك ما زالت تنبض في دمي، وما زال صدقك يحميني من زيف هذا العالم.


















