كوسوفا في وجدان الشعر العربي: قراءة في أنشودة المجد الخالد
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
مقدمة
في المشهد الثقافي العربي المعاصر، تبرز شخصيات تعمل بصمت وكبرياء، محققةً حضوراً لا يُغيّبُه ضجيج الإعلام، بل يُؤكده عطاءٌ فكري وأدبي غزير. وتأتي شخصية الأديب المصري ناصر رمضان عبد الحميد (مواليد 1975) كمثال صارخ على المثقف العضوي الذي لم يحصر نفسه في خانة الإبداع الشعري فحسب، بل امتدّ تأثيره إلى ميادين النقد، والتأريخ، والصحافة، والتنمية البشرية، والإدارة الثقافية. هذا المقال يتتبع مسيرة الرجل، مُستنداً إلى سيرته الذاتية الغنية، ساعياً إلى تقييم أثره في الحياة الفكرية والثقافية العربية.
الفصل الأول: السيرة الذاتية والتكوين.. من رحم المعاناة إلى فضاءات الإبداع
يُعدّ المولد (21 يوليو 1975) نقطة انطلاق لروحٍ قلقةٍ تسعى للمعنى. لم تكن مسيرة ناصر رمضان عبد الحميد وليدة الصدفة، بل هي محصلة لوعي مبكر بأهمية الفكر والأدب. تشير عناوين دواوينه الأولى مثل “قالت لي أمي” و”أغفو في ثياب أبي” إلى جذور تكوينه الأولى التي تستمد من الحنان الأسري والحكمة الشعبية.
انتماؤه المؤسسي لاتحاد كتاب مصر، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ورابطة الأدب الإسلامي العالمية، يُظهر تعدد المرجعيات الفكرية التي ينتمي إليها، مما وسّع من آفاقه وأثرى رؤيته. لكن الأهم من ذلك هو مبادرته الشخصية في تأسيس “ملتقى الشعراء العرب” وترؤسه لتحرير “موقع ومجلة أزهار الحرف”، وهي خطوات تجاوزت فيه دور المبدع إلى دور راعي الإبداع ومنظمه، مما يضعه في مصافّ “العرّاب” الثقافي، كما وصفته ليلى بيز المشغرية في كتابها عنه.
الفصل الثاني: الأثر الفكري والأدبي: تشعّب العطاء وتنوعه
يُظهر الإنتاج الضخم لناصر رمضان عبد الحميد (أكثر من 100 عمل) مشروعاً ثقافياً شاملاً يمكن تقسيمه إلى المحاور التالية:
1. الإبداع الشعري: توثيق الوجدان الفردي والجماعي
• الشعر الذاتي والتأملي: تمثلها دواوين مثل “ترانيم روح”، “مرايا الرحيل”، و”نزيف الغربة”، التي تكشف عن نفس شاعرية حساسة تتعامل مع القلق، والغربة، والبحث عن الذات.
• الشعر القومي والوطني: ديوان “شموخ (قصائد في حب الزعيم جمال عبد الناصر)” و”نصر الله” و”النداء الأخير” تُظهر انحيازه للخطاب القومي والعربي، وتوثيقها لأحداث الأمة الكبرى وشخصياتها المؤثرة.
• الشعر الاجتماعي والإنساني: في “أنت امرأة فوق العادة” و”لم يعد يغرد العصفور” يتناول قضايا المرأة والهموم الإنسانية العامة.
2. النقد والأدب: تأسيس رؤية نقدية متكاملة
من خلال سلسلة “فقه الإبداع”، “فقه القصة”، “فقه الرواية”، “موسيقى التجلي”، و”اللغة وديناميكية الحركة”، يبدو ناصر رمضان عبد الحميد ناقداً منهجياً يسعى لبناء “فقه” خاص للأجناس الأدبية، مستخدماً أدوات تحليلية تركز على البنية والدلالة معاً.
3. الفكر والدراسات: مواجهة قضايا العصر
عبر كتب مثل “الوهابية والمرأة”، “العرب إلى أين؟”، “الاغتراب الطائفي للمثقف”، و”مهمة الكاتب في عصر الذكاء الاصطناعي”، ينتقل من الدور الجمالي إلى الدور النقدي-الحواري مع قضايا الفكر، والهوية، والتحديات التقنية المعاصرة، مما يجعله مثقفاً عضوياً منخرطاً في هموم أمته.
4. التنمية البشرية والإدارة الثقافية: صناعة الأثر
كتب مثل “فقه التعامل” و”فقه الحياة” تُظهر اهتماماً بتنمية الذات والمجتمع. أما تأسيسه وإدارته لـ “ملتقى الشعراء العرب”، فهو مشروع ثقافي ضخم يهدف إلى رعاية المواهب وتنظيم الحركة الأدبية، وهو أثر ملموس يتجاوز التأليف إلى التفعيل على الأرض.
الفصل الثالث: الأثر الثقافي والسياسي والدبلوماسي: صوت من العالم النامي
1. التأثير الثقافي: لا يقتصر أثره على مصر، فترجمات أعماله إلى لغات عالمية عديدة، بما فيها الترجمة الفرنسية لديوان “بي حيرة الصياد” في باريس، تخلق جسوراً ثقافية بين العرب والعالم. اختياره ضمن أفضل ست شخصيات مبدعة في العالم من اتحاد كتاب كندا 2021 شهادة على صدى صوته عالمياً.
2. البُعد السياسي: خطابه الشعري والنثري يحمل رؤية سياسية واضحة، تتراوح بين تمجيد الرموز القومية (عبد الناصر) والوقوف مع قضايا التحرر (نصر الله، كوسوفا). إنه صوت المقاومة والكرامة في مواجهة التحديات.
3. الأثر الدبلوماسي غير المباشر: من خلال مشاركته في مؤتمرات (كمؤتمر اتحاد كتاب مصر 2019) وترجمته لحوارات مع مثقفين (كد. علي الحسيني)، وإدارته لملتقى يجمع أدباء من مختلف الأقطار، يمارس شكلاً من “الدبلوماسية الثقافية” التي تبني جسور التفاهم بين الشعوب.
الفصل الرابع: قصيدة “كوسوفا… أنشودة المجد الخالد” للشاعر ناصر رمضان عبد الحميد: دراسة تحليلية
“كوسوفا… أنشودة المجد الخالد”
كوسوفا
يا لحن الخلود
يا فجر الوعي في هذا العالم المتعب.
يا أرضًا لا تنحني لريح، ولا تنطفئ فيها النار حين يشتعل القلب.
فيك يولد الأمل من تحت
الرماد وتستيقظ الذاكرة من عمق الجرح.
فيكِ أمٌّ تودّع ابنتها وتصلّي بصمت
وطفلة تمشي نحو الأرض كأنها تعرف سرّها
وشيخٌ يكتب الإيمان على ترابٍ سقاه التاريخ.
يا زهرة البلقان جذوركِ تمتد في دمنا
تستمدين من النور شكلكِ
ومن الحنين معناكِ.
كل قطرة دم فيكِ كانت وعدًا
وكل حلم سقط عاد وردة في الفجر.
لم تهزّك العواصف
ولم تكسرك الحروب
كنتِ النور في المدى حين غاب النور
كنتِ الدرس الأول في معنى الصمود.
يا مهد الأبطال
يا قبلة الإيمان حين تضيع الجهات
منكِ انبثق الفجر كصلاةٍ لم تكتمل بعد
ومنكِ تعلم الطير كيف يطير وهو جريح.
على جبينكِ سجد العابدون بلا خوف
تتلو الأرض ما حفظته من السماء
وتروي أنه حتى في العتمة، يولد النور.
كوسوفا
يا غيمة تهطل بالكرامة،
يا نبعًا يشقّ الصخر ليبقى حيًّا
يا حكايةً كتبتها الدموع
ونقشتها الشجاعة على جدار الزمن.
فيكِ يسكن السلام كطفلٍ يحلم،
وترفرف البطولة كأجنحةٍ فوق الجليد
تسيرين على خطى من مضوا
ولا تلتفتين إلا لتذكّري العالم
أن المجد لا يُورث
بل يُصنع بالدمع والإصرار.
كوسوفا
يا جمرة الإيمان التي لا تنطفئ
يا جرحًا صار نشيدًا
ويا نشيدًا صار وطنًا
تمضين في سفر الخلود،
كأنكِ الصفحة الأولى في كتاب الفجر.
تحليل قصيدة “كوسوفا… أنشودة المجد الخالد”
العنوان: كوسوفا بين دلالة المكان ورمزية الخلود
يحمل العنوان “كوسوفا… أنشودة المجد الخالد” دلالات متعددة ومترابطة. فكوسوفا ليست مجرد مكان جغرافي، بل هي رمز للصمود والتضحيات والنضال. كلمة “أنشودة” توحي بالغناء والترنيم، مما يضفي على القصيدة طابعاً روحانياً وأبدياً، بينما “المجد الخالد” يؤكد على خلود هذه التضحيات وبقاء ذكراها عبر الأزمان. العنوان بشكل عام يخلق توقعات لدى القارئ حول محتوى القصيدة الذي سيتناول البطولة والتاريخ والأمل.
المقدمة: القصيدة كوثيقة أدبية لتاريخ نضال
تنتمي قصيدة “كوسوفا… أنشودة المجد الخالد” للشاعر ناصر رمضان عبد الحميد إلى شعر المقاومة والثورة، حيث تتخذ من كوسوفا رمزاً للنضال ضد الظلم والاحتلال. تعبر القصيدة عن ارتباط الأمة العربية والإسلامية بقضية كوسوفا، وتجسد التضامن مع شعبها المسلم. تعتمد القصيدة لغة شعرية مكثفة مليئة بالرموز والاستعارات التي تخلق عالماً شعرياً متماسكاً يعبر عن المعاناة والأمل والصمود.
الفكرة المركزية: تشريح أنشودة المجد والإصرار
تتمحور القصيدة حول فكرة الخلود والنضال والصمود في وجه المحن. تقدم كوسوفا كنموذج للإرادة الإنسانية التي تنتصر على الظلم والاضطهاد. كما تؤكد القصيدة على ارتباط القضية بالهوية الإسلامية والعربية، وتجسد فكرة أن النضال من أجل الحرية هو مسار مستمر لا ينتهي. تطرح القصيدة أيضاً فكرة أن المجد لا يُورث بل يُكتسب بالتضحيات والصبر والإصرار.
السمات الأسلوبية: تشريح آليات بناء النص الشعري
1. اللغة الرمزية:
تمتلىء القصيدة بالرموز الدالة مثل “فجر الوعي”، “أرضًا لا تنحني لريح”، “النور في المدى”، “جمرة الإيمان”، مما يخلق طبقات متعددة من الدلالة والمعنى.
2. الاستعارات والتشبيهات:
يستخدم الشاعر استعارات مبتكرة مثل “يا غيمة تهطل بالكرامة”، “يا نبعًا يشقّ الصخر ليبقى حيًّا”، “السلام كطفلٍ يحلم”، مما يضفي حيوية وجمالاً على الصور الشعرية.
3. التكرار:
يتكرر نداء “كوسوفا” في القصيدة مثل لازمة موسيقية، مما يعيد تركيز الانتباه على الموضوع الرئيسي ويعمق التأثير العاطفي.
4. الطباق والمقابلة:
يستخدم الشاعر التقابل بين المفاهيم مثل “الجرح” و”النشيد”، “الدمع” و”الإصرار”، “العتمة” و”النور”، مما يخلق توتراً درامياً وإيحائياً.
5. الإيقاع:
تمتلك القصيدة إيقاعاً داخلياً متدفقاً يشبه الأنشودة أو الترتيلة، مما يعزز فكرة العنوان عن كونها “أنشودة المجد الخالد”.
6. الصور البيانية:
تتنوع الصور الشعرية بين الطبيعة (“زهرة البلقان”، “غيمة تهطل”) والإنسان (“أمٌّ تودّع ابنتها”، “شيخٌ يكتب الإيمان”) والرموز المجردة (“الذاكرة”، “الإيمان”)، مما يخلق نسيجاً شعرياً غنياً.
تقييم الأثر: الأبعاد الفكرية والسياسية والثقافية للقصيدةالفكري والأدبي:
تمثل القصيدة نموذجاً لأدب المقاومة الذي يربط بين القضايا الإنسانية والعقائدية. كما تساهم في إثراء الأدب الإسلامي المعاصر الذي يجمع بين البعد الجمالي والالتزام بالقضية.
الديني:
تعمق القصيدة الارتباط العقدي والإسلامي بقضية كوسوفا، وتقدم النضال فيها كجزء من الصراع بين الحق والباطل، وتجسد قيم الإيمان والصبر والتضحية في سبيل المبادئ.
الثقافي:
تسهم القصيدة في توثيق الذاكرة الجمعية للمسلمين حول مأساة كوسوفا، وتحول المعاناة إلى تراث ثقافي ينقل عبر الأجيال. كما تعزز مفهوم الوحدة الثقافية بين المسلمين رغم تعدد أقطارهم.
العلمي:
يمكن أن تكون القصيدة مادة للدراسات النقدية التي تبحث في شعر المقاومة وأدب الأقليات المسلمة، وكيفية توظيف الرموز والأساطير في التعبير عن القضايا السياسية.
السياسي:
تساهم القصيدة في إبقاء القضية حية في الوعي الجماعي، وتذكير العالم بمأساة شعب كوسوفا، وتقديم نموذج للمقاومة السلمية في وجه القمع.
الدبلوماسي:
تعبر القصيدة عن تضامن الأمة مع قضاياها، ويمكن أن تكون وسيلة ضغط معنوية على المستوى الدولي لإبراز القضية وإنسانيتها.
النضالي:
تشكل القصيدة مصدر إلهام للمقاومين والناشطين، وتقدم نموذجاً للصمود والتحدي، وتعزز القيم النضالية مثل الإصرار والتضحية وعدم الاستسلام.
النتيجة: القصيدة كصرخة خلود في وجه الزمن
تمثل قصيدة “كوسوفا… أنشودة المجد الخالد” نموذجاً متميزاً لأدب المقاومة الذي يجمع بين العمق الفني والالتزام القضائي. استطاع الشاعر من خلال لغته الشعرية المكثفة ورموزه الموحية أن يخلق عملاً إبداعياً يليق بتضحيات شعب كوسوفا. لا تقتصر أهمية القصيدة على قيمتها الأدبية فحسب، بل تمتد إلى أبعادها الفكرية والثقافية والدينية والسياسية، مما يجعلها وثيقة أدبية تؤرخ لمرحلة مهمة من تاريخ النضال الإسلامي في البلقان. تبقى القصيدة شاهدة على أن الفن والأدب يمكن أن يكونا سلاحاً في معركة الوجود والهوية، وأن الكلمة يمكن أن تكون صدى للدم ومرآة للتضحيات.
خاتمة
ناصر رمضان عبد الحميد ليس مجرد شاعر أو كاتب، بل هو مشروع ثقافي متكامل. جسّد في مسيرته صورة المثقف الشامل الذي لا يفصل بين الإبداع والمسؤولية، بين الجمالي والمعرفي، بين الذاتي والجماعي. من خلال شعره الذي يلامس وجدان الإنسان، ونقده الذي يبحث عن المنهج، وفكره الذي يحاور الإشكاليات المعاصرة، وإدارته التي تخلق فضاءات للآخرين، استحق بجدارة لقب “العراب” و”ضمير المعنى”. إنه نموذجٌ يُحتذى للمثقف العربي الذي يرفض الانزواء ويصرّ على أن يكون صوته حاضراً وفاعلاً في صناعة الوعي وبناء المستقبل.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]


















