بين الوجع والبوح:
تحولات الذات الأنثوية في ديوان «لحظة من فضلك!» للشاعرة خديجة بوعلي.
(دراسة نقدية في اللغة، الصورة، والرؤية الشعرية النسائية المعاصرة.)
محمد احمد طالبي
حين تكتب المرأة شعرها، فإنها لا تمارس فعل اللغة فقط، بل تعيد بناء العالم من منظور القلب؛ تحول التجربة إلى نص، والوجع إلى موسيقى، والذات إلى كيان لغوي جديد.
من هذا الوعي العميق تخرج تجربة الشاعرة المغربية خديجة بوعلي في ديوانها «لحظة من فضلك!»، لتقدم لنا نصا شعريا مشبعا بالأسئلة والحنين، وبالبحث الدائم عن المعنى وسط صخب الوجود.
يمثل هذا الديوان أحد أهم نماذج الكتابة النسائية المغربية الحديثة، حيث تتجلى فيه ملامح الانفتاح على قصيدة النثر من جهة، وعلى التجربة الوجدانية الوجودية من جهة أخرى.
فالشاعرة لا تكتب لتصف، بل لتتطهر، ولا تنثر كلمات للتجميل، بل لتسترد اتزانها الإنساني والأنثوي عبر الكتابة.
العنوان نفسه – «لحظة من فضلك!» يكثف الرؤية الشعرية كلها: نداء إنساني مهذب بالإنصات، وطلب وقت من العالم كي تنصت الذات إلى خفقها الداخلي.
إنها لحظة توقف وسط الركض، تأمل في الوجع، واحتفاء بالوجود الهش الذي تسنده الكلمة.
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الديوان لبعض من جوانبه الفنية واللغوية والرمزية، منطلقة من منهج نصي وسيميائي يقرأ اللغة بوصفها علامة وجودية، والصورة بوصفها أداة تفكير، والإيقاع بوصفه صوت الوجدان.
التجربة الشعرية النسائية وسياقها في ديوان “لحظة من فضلك!”
( السياق الثقافي والكتابة النسائية المغربية)
شهدت الكتابة النسائية في المغرب خلال العقود الأخيرة نقلة نوعية، إذ تحول صوت المرأة من الهامش إلى المتن، ومن الانفعال إلى الوعي الجمالي.
وتعد خديجة بوعلي من الأصوات التي تمكنت من صياغة شعر أنثوي ناضج، يزاوج بين العاطفة والفكر، ويقيم جسورا بين الحلم واللغة.
في إهدائها للديوان تقول (ص5):
«للذين أنهكتهم صروف الدهر فلاذوا بركن سحيق لذرف الحرف/البلسم… ولم لا يكون في كثير وقت شفاء؟»
فالشعر عندها فعل علاج داخلي، والكتابة دواء للروح الجريحة.
— الذات الأنثوية والوعي الجمالي
يبرز تقديم الأديبة سعدية بلگارح (ص6–8) أن الشاعرة تمارس الكتابة بوعي معرفي بالقصيدة ككيان فكري وجمالي.
فهي ترى الشعر مجالا للتأمل، لا للبوح المجرد.
وفي قصيدة «ركون بوصيد الصمت» (ص17) تقول:
«أحيانا أنقطع إلا عني…
بإبر الصمت أرتق فتوق الوقت »
هنا نلمح اللغة كإبرة تخيط الزمن، وكأداة لمقاومة التفتت الداخلي.
— الذات بين الانكسار وإعادة التشكيل
في «ليت العمر مسودة قصيدة » (ص13–15) نقرأ:
«ليت العمر مسودة قصيدة
أمحو منها الكثير… الكثير
وأبقي على عيون تنير العتمات»
الكتابة تعادل العمر، والشاعرة تمارس فعل الخلق في محو وإبقاء مستمرين.
إنها ذات جريحة تعيد تشكيل نفسها عبر القصيدة.
فالمرأة في خطاب الديوان
عند خديجة بوعلي ليست كائنا هشا بل قوة خفية قادرة على الإحياء:
تقول «يد واحدة كانت تكفي
بلمسة منها تحيا الحقول..» (ص65)
وفي «نشاز أنا» (ص87)
تصرخ بتمرد واع:
«نشاز أنا…
أنبش التفاصيل
لأبلغ الأعذار
أسبح في البحر
أعانق الموج.. فيلطم بي
الصخور».
ونجد تنوع الحقل الوجداني للديوان بين الفقد والحنين والموت، لكن جميعها تتجه نحو سؤال الوجود والمعنى:
« هل لعيونك نظر أيها الموت…؟!
ترصد غبار حوافرك من الخلف» (ص63)
إنها ليست مجرد مشاعر، بل فلسفة شعورية في مواجهة العدم.
وهناك تداخل بين الذاتي والجمعي؛
على الرغم من طابعها الشخصي، إلا أن الشاعرة تعبر عن قلق إنساني شامل؛ فهي تكتب الذات بوصفها مرآة للإنسان المعاصر، لا مجرد سيرة شخصية.
«أفكلما غفت الأحلام قليلا
أيقظتها على حين غرة،
صفعة!!!
نولي الادبار صوب الغروب
ننكفئ.. ننطفئ..
حتى إشعار آخر.»(ص58)
— التحليل الفني واللغوي في الديوان
اللغة الشعرية: من البوح إلى التشكيل
لغة خديجة بوعلي انفعالية تأملية، تتنقل بين البساطة والعمق الرمزي.
في «ماذا بعد؟» (ص10):
«كم غبي هذا الصبر!
يركننا على رصيفٍ
من بركة طمي…»
ليتحول الصبر من فضيلة إلى عبء، بفضل الطاقة الدلالية للمجاز.
أما عن التراكيب والأسلوب النحوي،
نجد الجمل الفعلية تهيمن في لحظات الانفعال: «أرتق، أبتلع، أغرق…».
والجمل الاسمية تعبر عن السكون والتأمل:
«جثة هامدة
مكتظة بنفايات ».(ص31)
وأشير إلى التوازي الصوتي والتركيبي الذي نجده يمنح النص إيقاعا متكررا دالا:
التوازي عند خديجة بوعلي هو عنصر موسيقي ودلالي في الوقت نفسه؛ إذ يحدث إيقاعا داخليا يقوم على تكرار البنية النحوية مع اختلاف طفيف في المضمون
مثال من قصيدة «على ذمة الشعر» (ص77):
“تتسابق كالنمل في شريان الليل
وعيون الأوراق الجاحظة.
تتراكم..تتراكض،
تتدفق في حناجر أقلام بائدة.”
نلاحظ توازيا نحويا واضحا في افتتاح الأفعال المضارعة (تتسابق– تتراكم– تتراكض – تتدفق)، مما يخلق جرسا إيقاعيا متناغما يعكس تكرار الفعل وسؤال الذات، شاعرة؟!
«شاعرة ؟!
اعترض خريف الأزمنة»
هذا التوازي الصوتي في تكرار مقطع “تـتـ” يمنح النص موسيقى حزينة متدفقة.
مثال آخر من «هزة في سلم السكون»(ص82):
“يتدحرج النفس…
يتقطع
ينقطع
يضيق صدر الليل
ينكمش…الخ.”
كل جملة تبدأ بفعل مضارع، مما يحقق توازيا تركيبيا وإيقاعا متواترا.
الإيقاع هنا يخدم المعنى: الذات في حركة دائرية، كل سطر خطوة نحو الاغتراب.
أما تكرار الصيغة النحوية، وسيلة بوعلي لخلق تنغيم داخلي دون اللجوء إلى الوزن التقليدي.
إنها تعتمد على تكرار الجملة الاسمية والفعلية لإبراز المعنى النفسي.
من قصيدة «ليت العمر مسودة قصيدة»:(ص13)
“ليت العمر مسودة قصيدة.”
الصيغة النحوية “ليت + الاسم + الجملة” تتكرر مرات، فتنشئ تراتبية نغمية تشبه الدعاء أو المناجاة.
هذا التكرار ليس شكليا، بل يعبر عن إصرار الذات على إعادة تشكيل الحياة والكتابة.
من قصيدة «لا تنتظر درس الغراب»:(ص27)
“لا تتركني في العراء
لا ترم بي لقراصنة الأعضاء
لا تتركني كما ترك قابيل اخاه.”
الجمل الثلاث متماثلة نحويا تبدأ بـ«لا »، وتستعمل فعل النهي.
الإيقاع يقوم على الإلحاح الصوتي في (لا تنتظر) ويحدث موسيقى تحذيرية داخل النص، ويمنح القصيدة نبرة الحكمة والوعي، بحس فيه قوة تخرج الفعل إلى الوجود واستحضار وتذكير بألم الإنسان الأول ،لتأتي كم الخبرية هنا
«كم أطحت بيننا من جسور
وبنيت من أسوار وحيطان
كم خففت الروح الملتهبة
بالاغلال والاصفاد!
كم غلقت في وجه الشوق
من شروفات»لما تسأل عن عدد الجسور أو الأغلال أو الأبواب، لتخبر بأسلوب تعبيري قريب إلى التأنيب والدهشة والحزن، خبرية تكررت لتفيد الكثرة والتوجع والتوبيخ الشعري، وهي هنا تؤدي دورا بلاغيا يتجاوز النحو لتعبر عن فيض المشاعر السلبية من الألم والخيبة والإنكسار، لتمنح النص ذلك الإيقاع التكريري ليضخم المعنى العاطفي وتتحول إلى أداة عتاب شعري.
ونحن نلامس تلك(الموسيقى الداخلية) بجمل قصيرة تلقيها الشاعرة كما لو كانت نبضات شعرية متتالية.
وكل جملة وحدة إيقاعية، والبياض بين الجمل جزء من الإيقاع.
من قصيدة «من يفتيني في رؤياي»:
“هذا المكان يعرفني…
حتما يشعر بي …
عيون تثرثر…
بعيدا عن الأنظار…”وهكذا
فالجمل قصيرة، مفصولة بنقاط، تحدث إيقاعا متقطعا يحاكي الإرهاق والفراغ.
تتكرر الأصوات الرخوة (الظاء، اللام، الميم) لتمنح النص موسيقى حزينة.
هذا البياض بين الجمل يعمل كـ«صمت شعري» يزيد من التوتر الإيقاعي.
من خلال هذه الأمثلة نرى أن خديجة بوعلي تؤسس موسيقى قصيدتها من داخل اللغة لا من خارجها.
إيقاعها ينبع من تكرار البنية والتركيب ومن تقطيع الجمل، لا من الوزن أو القافية.
وهكذا تصنع نثرا شعريا نابضا بالموسيقى، تعكس أنين الذات وأنوثة الإيقاع، في توازن بين الصمت والنغمة.
وتتناسل في الديوان علامات وجودية:
الماء، الضوء، الجسد، الكون كأدوات تأمل في المصير الإنساني. لغة ما بعد الألم، حيث تتحول الأشياء اليومية إلى حقول دلالية عميقة.
الصورة الشعرية(المائية)
«روحي بحر،
لا تشتهي من السفن إلاك» (ص51)
الماء هنا مرآة الذاكرة.
الصورة الشعرية( الضوئية)
«أنظف زواياي عن ظهر طهر…» (ص60)
الضوء رمز الكشف والتطهر.
الصورة الشعرية(الجسدية)
«كم يدا تكفيك..
لتلم شتات الوقت؟» (ص61)
الجسد وسيلة تواصل رمزية.
الصورة الشعرية(الكونية)
«ملء المجرات
وشساعة الفضاءات
مشرعة أبوابنا على السماوات السبع» (ص37) نزعة وجودية كونية.
الرمزية والسيمياء
الرمز الدلالة الوظيفة
اليد الخلق والأنوثة «يد واحدة تكفي» (ص65)
الماء التطهير والذاكرة الغرق والنجاة في آنٍ واحد
الضوء الوعي يتناوب مع العتمة كقطبين للمعنى
الصمت التأمل أداة المقاومة والتوازن (ص17)
قصيدة ليث العمر مسودة، حياة معادل للحياة والتجدد (ص13)
أما الصوت الشعري والضمير
وأنوه بتنوع استعمال الضمائر بين «أنا» و«أنت» و«هو»، ليصبح النص مسرحا للحوار الداخلي متعدد الاصوات مع الذات والآخر والزمن.
الذات المتألمة المسترجعة مقابل الآخر المخاطب أو صورة الذات المنقسمة التي تعاني والغياب محلول أحيانا في الماضي مشاهد صامت على الفقد، النص فضاء درامي تتقاطع فيه التجربة النفسية والزمنية..
فالزمن له دلالة وجودية تحكمه الذاكرة والحنين والانتظار (زمن الديوان دائري)،
«انتهاء أم عودة إلى سطر؟!» (ص63)
النهاية بوصفها بدءا جديدا.
تقوم رؤية الشعرية لخديجة بوعلي على الإيمان بأن الوجع شرط الوعي، وأن اللغة وسيلة خلاص.
«ما كل من يعبر جثتي
الملقاة في قبو قصيدة
يتمهل قليلا…» (ص78)
الكتابة هنا فعل نجاة وعبور من الجرح إلى النور.
لهذا نرى الصوت الشعري الأنثوي في الديوان ليس ذاتيا صرفا، بل كوني إنساني، يتجاوز البوح الفردي إلى الحكمة التأملية، داخل زمن شعري يتحول من مجرد خلفية إلى حقل شعوري يقاس بالحنين والوجع، لا بالساعات.
«أرتبني من رأس الوريد حتى أخمص الحلم» (ص60).
ومن فتوحات هذا الديوان أن يبسط جمالياته
بإيقاع معنوي وتنغيم صوتي.
الإيقاع ينبع من الداخل: من تكرار الصور والأفكار والتنغيم المتردد بين النهايات المفتوحة وعلامات الحذف (…)كما أشرنا سابقا، إنه إيقاع الوجدان، لا البحر العروضي.
ونجد له وحدة الإحساس رغم تنوع الموضوعات.
شفافية لغوية دون انغلاق رمزي.
إيقاع داخلي نابض بالمعنى.
صور تشكيلية توازي التلوين البصري.
رؤية فلسفية تنفتح على القارئ بلا التباس.
برؤية وجودية، فالمرأة في هذا الديوان ليست موضوعا، بل فاعلا لغويا وجماليا يخلق وجوده بالكلمة.
«أعزفها سيمفونيات عذابا
على النايات فرحا
…
نشاز أنا…» (ص88)
ديوان «لحظة من فضلك!» تجربة متفردة في المشهد الشعري المغربي الحديث، حيث التقت فيه الأنوثة بالوعي، والوجدان بالفكر، واللغة بالجمال.
هنيئا للشاعرة خديجة بوعلي التي أبدعت في تحويل الشعر إلى مساحة وجود أنثوي حر، وفي إعادة الاعتبار للبوح بوصفه معرفة، وللألم بوصفه طاقة خلق.
إنها تجربة ناضجة تكتب الذات لا بوصفها مرآة، بل بوصفها منارة داخل العتمة.
وبذلك يكون هذا الديوان علامة بارزة في تحول الكتابة النسائية من الانفعال إلى التأمل، ومن البوح إلى الوعي الفني العميق.
 
			 
		    


















