بهلول في زمن الشاشة: قراءة رمزية في رواية الجنون فنون للأديبة البحرينية منار السماك
تحليل العنوان: “الجنون فنون”
يحمل العنوان “الجنون فنون” مفارقة دلالية تجمع بين اللاعقل والإبداع، بين الخروج عن المألوف والقدرة على إدهاش الآخر.
فـ”الجنون” هنا لا يُراد به المرض العقلي، بل هو تجاوز الحدود التقليدية في التفكير والتعبير. أما “الفنون”، فهي الوجه المضيء لهذا الجنون، إذ يصبح الجنون في الرؤية الفنية رمزًا للحرية، وكسر النمط، والبحث عن المعنى في عالم يضج بالزيف والتكرار.
العنوان إذًا يوحي منذ البدء بعمل رمزي وفلسفي، يتخذ من الجنون قناعًا للقول، ومن الفن وسيلةً للتعبير عن رفض الواقع. وهو يفتح الباب أمام تأويلات متعددة:
فنية، حيث الإبداع شكل من أشكال “الجنون الجميل”.
اجتماعية، حيث يصبح “الجنون” وسيلة للاحتجاج على واقع فقد توازنه.
فكرية، إذ يلمّح إلى أن العقل في حد ذاته قد استقال أمام هيمنة التقنية والعزلة الرقمية.
وبذلك، يشكّل العنوان مدخلًا نقديًا إلى روح الرواية التي تستدعي شخصية تراثية (بهلول) لتضعها في مواجهة عالم معاصر مسكون بالعبث الافتراضي.
نبذة عن بهلول في التراث
بهلول، واسمه الحقيقي بهلول بن عمرو الصيرفي، هو شخصية تراثية عربية ارتبطت بالخلفاء العباسيين، خاصة هارون الرشيد. اشتهر بلقب “المجنون العاقل”، إذ كان يُظهر الجنون ليقول ما لا يُقال، ويتحدث بالحكمة في ثوب الهزل.
ظهر بهلول في كتب الأدب والتراث مثل الأغاني للأصفهاني وبهجة المجالس لابن عبد البر، وصُوّر كرجل زاهد في الدنيا، حكيم في قوله، يستخدم المفارقة والسخرية لفضح فساد السلطة والمجتمع.
كان يدخل على الخلفاء والوزراء بكلمات تبدو مضحكة، لكنها تحمل في عمقها نقدًا لاذعًا للواقع، فكان الجنون درعه ووسيلته في آنٍ واحد.
الرؤية العامة في توظيف الشخصية
تستدعي منار السماك هذه الشخصية التراثية، لا بوصفها رمزًا من الماضي، بل كـ”وعي بديل” في الحاضر.
فـ”بهلول” الذي كان يواجه سلطة الحاكم في العصر العباسي، يواجه اليوم سلطة من نوع آخر: سلطة التقنية، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وسطوة الصورة على المعنى.
من خلال هذا الاستدعاء، تمارس الكاتبة نقدًا اجتماعيًا معاصرًا، تفضح فيه تفكك العلاقات الإنسانية، وضياع القيم أمام سرعة الزمن الافتراضي، وسرقة التكنولوجيا لأبسط لحظات الإنسان وخصوصيته.
بهلول في الرواية يصبح صوت الحكمة في زمن الضجيج، ورمز الوعي في عالم مقلوب.
إنه شاهد على التحوّل من مجتمع يتداول الحكايات والوجوه، إلى مجتمع يكتفي بالوجوه الرقمية والإعجابات الافتراضية.
خلاصة الدلالة
رواية الجنون فنون هي قراءة فنية في عقل العصر، حيث يصبح الجنون أداة لفهم الواقع، ويغدو بهلول شاهدًا على زمنٍ فقد معاييره.
من خلال المزج بين التراث والمعاصرة، بين الحكمة والتهكم، تفتح الكاتبة البحرينية منار السماك نافذة للتأمل في المعنى الإنساني وسط صخب التكنولوجيا، لتؤكد أن الجنون — في بعده الإبداعي — قد يكون آخر أشكال العقل في عالمٍ فقد اتزانه.
غادة الحسيني



















