الشاعرة رحاب هاني خطّار: تشكُّل المشروع الثقافي بين الإبداع والتأثير
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
مقدمة
تشكّل السيرة الذاتية للأديب نافذةً أساسيةً لفهم عوالمه الإبداعية والانزياحات الفكرية التي تطبع نتاجه. وفي هذا السياق، تبرز الشاعرة والكاتبة اللبنانية رحاب هاني خطّار نموذجًا للمثقف الشامل الذي يجمع بين الإبداع الأدبي، والبحث الفكري، والفعل المجتمعي، والرؤية التنموية. لا تقدم سيرتها مجرد محطات شخصية، بل هي نسجٌ متكاملٌ لمسارٍ ثقافيٍ يعكس رؤيةً إنسانيةً واضحة. ينقسم هذا البحث إلى أربعة فصول رئيسية، يتتبع أولها السيرة الذاتية بمنظور تحليلي، ويقيم الثاني الأثر متعدد الأبعاد لمسيرتها، ويضيء الثالث على ركائزها الفكرية والأدبية، ليختتم الرابع بتحليل قصيدتها “العنقاء بين جبلٍ وأرزة” بوصفها تجسيدًا عمليًا لرؤيتها.
الفصل الأول: السيرة الذاتية كمنظومة متكاملة: تحليل المسار الشخصي والمهني
لا يمكن فصل الإنجازات الأدبية والفكرية للشاعرة رحاب خطّار عن سياقها الحيوي والمهني، والذي يشكل نسيجًا متجانسًا يفسر تنوع عطائها.
1. الجذور والتكوين الشخصي: تنحدر الشاعرة من بعذران – قضاء الشوف، وهو منبعٌ طبيعيٌ وثقافيٌ أثّر دون شك في حسّها الجمالي وارتباطها العضوي بالطبيعة، وهو ما يتجلى لاحقًا في اهتمامها البيئي. كونها أمًا لثلاثة أولاد يضيف بُعدًا إنسانيًا عميقًا لتجربتها، يغذي فهمها للعلاقات الإنسانية والتحولات الداخلية التي تشكل محورًا في كتاباتها.
2. التكوين الأكاديمي والمهني: حصولها على إجازة في الاقتصاد والإدارة من جامعة CNAM الفرنسية يمنحها منهجية تحليلية وعقلانية، تختلف عن النمط الانفعالي المحض في التعامل مع النصوص. هذا المزيج بين العقلانية الاقتصادية والعاطفة الشعرية يعد سمة مميزة في شخصيتها الإبداعية. ويتجسد الجانب التطبيقي من هذا التكوين في عملها مدرسة في ثانوية الوفاء – بعقلين، وهو موقع يربطها مباشرةً بالأجيال الناشئة، ويجعل من رسالتها الثقافية فعلًا تربويًا مباشرًا.
3. المسار المؤسسي والثقافي: يُظهر تعدد مواقعها القيادية (عضو هيئة إدارية واستشارية في نادي الكتاب اللبناني، مسؤولة التحرير فيه، عضو إداري في ملتقى شعراء العرب، محررة في مجلة أزهار الحرف) حضورًا مؤسسيًا فاعلاً. فهي ليست مجرد مشاركة، بل هي فاعلة في صناعة القرار الثقافي وتنظيم الحراك الأدبي. كما أن تجربتها في *إعداد التقارير الصحافية المعتمدة من المجلس الوطني للإعلام المرؤي والمسموع تمنح كتاباتها ومحاوراتها حرفيةً إعلاميةً ودقةً في الطرح.
4. التقدير والامتداد الرقمي: حصولها على تهنئة من إدارة “فيسبوك” لإدارتها موقعًا ثقافيًا متميزًا، يشير إلى فهمها لأدوات العصر وقدرتها على توظيف المنصات الرقمية لنشر ثقافة أصيلة، وقد أدى ذلك إلى توسيع نطاق نفوذها إلى ما هو أبعد من المستوى المحلي.
الفصل الثاني: تقييم الأثر: من الإبداع الفردي إلى التأثير الجمعي
تمتد تأثيرات الشاعرة رحاب خطّار عبر حقول متعددة، مما يجعل أثرها تراكميًا وشاملًا.
1. الأثر الفكري والأدبي: بوصفها “قارئة وباحثة في الأدب والفكر الإنساني”، فإن إسهامها لا يقتصر على الإبداع بل يمتد إلى التنظير والتحليل. تركيزها على “التحليل النفسي في النصوص الأدبية” يضيف عمقًا تفسيريًا للأدب، محوّلةً النص من مجرد جماليات لغوية إلى وثيقةٍ تعكس أعماق النفس البشرية. هذا المنهج يثري المشهد النقدي ويربط الأدب بالعلوم الإنسانية.
2. الأثر الثقافي والتنويري: من خلال مسؤولياتها التحريرية والإدارية في المؤسسات الثقافية، وإدارتها للمواقع، وتقديمها للندوات، أصبحت ناشطةً ثقافيةً بامتياز. دورها يتجاوز الكتابة إلى “نشر ثقافة الجمال والوعي الإنساني” و”اعتبار الثقافة وسيلة لبناء الإنسان”، مما يجعل من عملها مشروعًا تنويريًا يهدف إلى تطوير الذهنية الجمعية.
3. الأثر الاجتماعي والتربوي: يجسّد عملها في التدريس ونشاطها الاجتماعي الجانب التطبيقي لفكرها. فهي لا تنظر إلى الثقافة كترف، بل كأداة للتنمية المجتمعية. هذا الارتباط العضوي بين “الشأن الثقافي والتنموي” يجعل أثرها ملموسًا على أرض الواقع من خلال التأثير في طلابها والمجتمع المحيط.
4. الأثر السياسي والدبلوماسي الضمني: يمكن قراءة أثرها في هذا الحقل من خلال منظور غير مباشر. فالدعوة إلى “المحافظة على البيئة والطبيعة” في سياق لبناني تحمل بعدًا سياسيًا وطنيًا، حيث تصبح حماية البيئة جزءًا من حماية الهوية والسيادة. كما أن حواراتها مع شخصيات فكرية وإعلامية متنوعة، وإدارتها لمنصة ثقافية عربية، تمثل شكلاً من أشكال “الدبلوماسية الثقافية” التي تبني جسورًا فكرية تتخطى الحدود.
الفصل الثالث: الركائز الفكرية والجمالية: نحو مشروع ثقافي متكامل
تستند إنتاجات رحاب خطّار إلى مجموعة من الركائز الفكرية المترابطة التي تشكل رؤيتها للعالم والأدب:
1. الإنسان في القلب: ينطلق مشروعها من إيمان راسخ بأن “الأدب انعكاس لتحوّلات الإنسان الداخلية”. هذا يجعل النص الأددي لديها وسيلةً للاستقصاء عن الذات والوجود، وليس غايةً جماليةً بحتة.
2. الجمال والوعي غايةٌ مزدوجة: تسعى بشكل واضح إلى “نشر ثقافة الجمال والوعي الإنساني”. فالجمال هنا ليس زينة، بل هو طريق إلى الوعي، والوعي بدوره هو الشرط الأساسي لأي تحول جمالي حقيقي.
3. البناء لا الترفيه: نظرتها للثقافة على أنها “وسيلة لبناء الإنسان” تحوّلها من نشاط هامشي إلى استثمار في الرأس المال البشري، وهو ما يتوافق مع خلفيتها الاقتصادية واهتمامها التربوي.
4. البيئة جزء من الهوية: تمثل دعوتها للمحافظة على البيئة امتدادًا طبيعيًا لفكرها الإنساني. ربطها “الوعي البيئي بالوعي الإنساني والأدبي” يرفع من شأن القضية البيئية، ويجعلها قضية مركزية في المشروع الثقافي الشامل، وليست مجرد شأنٍ ثانوي.
الفصل الرابع: قصيدة “العنقاء بين جبلٍ وأرزة”: تشريح النص وتحليل الأبعاد
العنقاء بين جبلٍ وأرزة
أنا العنقاء،
ذاتُ الجانحِ الأوّلِ في لبنان،
والآخرِ في كوسوفا.
أحلّقُ فوقَ الرمادِ الذي أنجبَني،
وأستحمُّ بنورِ الجبالِ
لأطهِّرَ نفسي من عُذريّةِ السهولِ والقمم.
في جناحي صمودُ الأرزِ،
وفي عينيَّ سؤالُ البلقان.
قيل عن لسان التاريخ
إنّ أبناءَ الجبلِ المنفيّين
قد ساروا نحو أفقِ البحر،
حملوا معهم رائحةَ الأرزِ إلى البلقان،
بينَ الهرسك وكوسوفا،
زرعوا وجعَهم في المنافي،
فأنبتَ المنفى جذورًا من لبنان.
أفتخرُ بصمودِهم،
بتعدّدِهم كألوانِ الطيف،
وبتميّزِهم الذي لا يذوبُ في الاختلاف،
بل يُضيءُ به.
صغيرةٌ أوطاني،
لكنّها بحجمِ الأرضِ حينَ تحلمُ بالحرية.
لُعِنتُ بالجغرافيا،
لكنّ لعنَتها وشمٌ على جبيني،
يُخبرُ الكونَ أنّ الضيقَ قد يلدُ اتساعًا،
وأنّ الأرضَ القليلةَ قد تُنبتُ أثرًا لا يزول.
في لبنانَ أرزةٌ تتحدّى الريحَ بابتسامتها،
وفي كوسوفا جبالٌ تُصلّي في صمتها.
وما بينَهما…
روحٌ ساميةٌ تحيا بي،
تنهضُ كلّما احترقتُ،
وتكتبُ كلَّ مرةٍ
سيرةَ الإنسانِ الذي لا يموت.
تحليل قصيدة “العنقاء بين جبلٍ وأرزة”: الرمزية والهوية والمقاومة
تُمثّل قصيدة “العنقاء بين جبلٍ وأرزة” للشاعرة رحاب هاني خطّار نصّاً تأسيسياً في تجربتها الإبداعية، يتجاوز الانزياح الجمالي ليشكّل مدوّنة فكرية شاملة. تستثمر الشاعرة الرمز الأسطوري (العنقاء) والمكاني (الجبل والأرزة) لبناء خطاب شعري متعدّد الأبعاد، يربط بين التاريخ والجغرافيا والهوية والإنسان في نسق وجودي مكثّف. لا يقتصر النص على التعبير عن الذات فحسب، بل يتحوّل إلى بيان ثقافي وسياسي وإنساني، يعكس رؤية الشاعرة الفكرية الموّسعة التي تلامس مختلف مناحي الحياة.
أولاً: تشريح العنوان: الانزياح الرمزي وأبعاده الدلالية
يُشكّل العنوان عتبة نصية مفتاحية، تضع القارئ في قلب المعادلة الرمزية:
• العنقاء: طائر أسطوري يجسّد الخلود والتجدّد من الرماد، مما يضفي على النص بُعداً ميتافيزيقياً. اختيار هذا الرمز يشير إلى إرادة التجاوز والتطلّع نحو المطلق.
• الجبل والأرزة: يمثّلان ثنائية الصمود (الجبل) والأصالة (الأرزة)، لكن وضعهما كحاضنين للعنقاء يخلق فضاءً وجودياً تتقاطع فيه الهوية مع التحدي. الانزياح هنا يتمثّل في تحويل الرموز الطبيعية إلى فاعلين في سردية الوجود الإنساني.
ثانياً: الفكرة المركزية: الهوية المتعدّدة والصمود الوجودي
تتأسس القصيدة على فكرة مركزية هي: الهوية الجامعة التي تتشكّل عبر المنفى والاختلاف. فالشاعرة لا تنتمي إلى مكان واحد، بل إلى فضاءات متعددة (لبنان، كوسوفا، البلقان)، تجعل منها كائناً كونياً. هذه الهوية لا تذوب في بوتقة الانصهار، بل تتعزّز بالاختلاف وتتجدّد من خلال المحن (“أحلّق فوق الرماد الذي أنجبني”). الصمود هنا ليس مجرد ثبات، بل هو حركة دؤوبة نحو الخلود (“سيرة الإنسان الذي لا يموت”).
ثالثاً: السمات الأسلوبية والبناء الفني
1. توظيف الرمزية المتعدّدة المستويات:
• الرمز الأسطوري (العنقاء) للتجدّد والخلود.
• الرمز الطبيعي (الجبل، الأرزة، السهول) لتمثيل ثنائيات الصمود والانفتاح.
• الرمز الديني (“تصلّي في صمتها”) الذي يضفي بعداً روحياً على المقاومة.
2. تقنية التماهي بين الذات والموضوع:
تذوب الفواصل بين الشاعرة والعنقاء، بين الإنسان والطبيعة، بين الوطن والمنفى. “أنا العنقاء” ليست استعارة بل هي حالة من التماهي الوجودي.
3. المفارقة الدرامية:
• “الضيق قد يلد اتساعاً”
• “الأرض القليلة قد تنبت أثراً لا يزول”
• “لُعِنتُ بالجغرافيا… لكن لعنتها وشمٌ على جبيني”
هذه المفارقات تحوّل المحنة إلى منحة، والضعف إلى قوة.
4. اللغة المتعالية:
تستخدم الشاعرة لغة تهجينية تجمع بين البساطة والعمق، مستفيدة من:
• الانزياحات الدلالية (“عذرية السهول والقمم”)
• الصور الحسية المتجاورة (“رائحة الأرز”، “وجْعهم في المنافي”)
• الإيقاع الداخلي المتناغم مع حالات الوجدان
رابعاً: الأبعاد والتأثيرات المتعددة للقصيدة
1. البعد الفكري: تطرح القصيدة إشكالية الهوية في عصر العولمة، مقدمة نموذجاً للهوية المرنة التي تتعزز بالتنوع لا بالانغلاق.
2. البعد الأدبي: تمثل إضافة نوعية للقصيدة العربية المعاصرة التي تتناول قضايا الوجود والهوية، باستخدام رمزية مبدعة تخلق مساحات تأويلية واسعة.
3. البعد الديني: تقدم رؤية صوفية متسامحة، حيث تتحول الصلاة إلى صمت تواصلي مع الذات والكون (“جبال تصلّي في صمتها”).
4. البعد الثقاف: تؤسس لثقافة الحوار بين الحضارات، من خلال الربط بين ثقافات متباعدة جغرافياً (لبنان والبلقان).
5. البعد العلمي: يمكن قراءة استعارة “التجدّد من الرماد” كاستبصار بالمرونة النفسية وقدرة الإنسان على النمو بعد الصدمات.
6. البعد السياسي: تقدم نموذجاً للمقاومة الوجودية التي تتجاوز السلاح إلى الصمود الثقافي والحضاري.
7. البعد الدبلوماسي: تمثل جسراً ثقافياً بين لبنان وكوسوفا، مقدمة الدبلوماسية الشعبية كبديل للدبلوماسية الرسمية.
8. البعد النضالي: تقدم مفهوماً جديداً للنضال لا يعتمد على القوة بل على الصمود والإبداع والذاكرة (“زرعوا وجعهم في المنافي، فأنبت المنفى جذوراً من لبنان”).
سيرة الإنسان الذي لا يموت
تتجاوز قصيدة “العنقاء بين جبلٍ وأرزة” حدود الشعر التقليدي لتصبح بياناً إنسانياً شاملاً. لقد نجحت الشاعرة رحاب خطّار في تحويل السيرة الشخصية إلى سيرة جمعية، والهم المحلي إلى قضية إنسانية. القصيدة ليست مجرد تعبير عن الحنين إلى الوطن، بل هي احتفاء بالهوية المتعددة والقدرة الإنسانية على الخلق من رحم المعاناة.
هذا النص لا يكتفي بتوثيق اللحظة التاريخية، بل يقدم رؤية مستقبلية للإنسان القادر على تحويل لعنة الجغرافيا إلى وسام شرف، والضيق إلى اتساع، والرماد إلى ولادة جديدة. وهو ما يجعل من القصيدة مشروعاً ثقافياً متكاملاً، وأداةً لفهم تحولات الإنسان المعاصر في عالم يتسم بالترحال والهجرات والبحث عن هويات جديدة.
خاتمة
تمثل مسيرة الشاعرة والأديبة رحاب هاني خطّار نموذجاً مكتملاً للمثقف العضوي في الواقع العربي المعاصر، حيث تلتزم برسالة الثقافة كخيار وجودي ومشروع تنموي متكامل. لقد نجحت، من خلال مشروعها الحياتي والفكري، في تحويل السيرة الفردية إلى مادة إبداعية وجمعية، تثري الحقلين الأدبي والنقدي معاً. فسيرتها الشخصية التي تزاوج بين الجذور العميقة والانفتاح الكوني، وبين التخصص الأكاديمي والحس الإبداعي، تقدم أنموذجاً للمثقف الشامل القادر على توظيف أدوات العصر لنشر قيم الجمال والوعي والانتماء.
ويظل مشروعها الثقافي، المتمثل في كتاباتها وأنشطتها ومقارباتها النقدية، مشروعاً قائماً على ركائز فكرية واضحة، تضع الإنسان في القلب، وترى في الأدب وسيلة للكشف عن أعماق الوجود الإنساني، وفي الثقافة أداة لبناء الإنسان وتمكينه. وقد تجسّدت هذه الرؤية بأعلى درجات الكثافة الشعرية والرمزية في قصيدتها “العنقاء بين جبلٍ وأرزة”، التي مثلت بياناً جمالياً وفكرياً يلخّص قناعاتها وهمومها الإنسانية.
إن الإصدار القادم للشاعرة “خطى العبور” ليس إلا محطة جديدة في مسارها الإبداعي المتواصل، يؤكد أن “خطاها” لم تتوقف عن العبور من الذاتي إلى الجمعي، ومن المحلي إلى الكوني، محققةً بذلك واحدة من أهم وظائف المثقف: صناعة الأمل وتجديد الإيمان بإمكانية الخلق والانبعاث من رحم التحديات، تماماً كالعنقاء الأسطورية التي تخلق من رمادها حياة جديدة.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]



















