إحياء الكلمات في الترجمة الأدبية
المترجم الحق لا يكرر النص بل يُعيد اكتشافه
بقلم: مصطفى عبدالملك الصميدي
* باحث أكاديمي
لا ينبغي أن ننظر إلى الترجمة الأدبية كجسر من لغةٍ إلى أخرى فحسب، بل كعبورٍ روحي بين عالمين مختلفين، ومنطلقٍ لإحياء النص في بيئةٍ جديدةٍ دون أن يفقد نبضه الجوهري. إنها فعل انبعاث، تُولد فيه الكلمات من جديد، ككائنٍ يخلع جلده اللغوي ليرتدي جِلداً آخرَ مختلفَ الألوان، لكنه يقوم على جسد واحد ويحيا على روح واحدة. في هذا الفعل العجيب، يتجلّى المترجم لا بوصفه تابعاً للنص، بل شريكاً في خلقه، إذ عليه أن يحفظ روحه ويمنحه حياةً أخرى في فضاء مختلف تماماً.
إن مهمة المترجم الأدبي تكمن في الجمع بين نقيضين: الأمانة والإبداع. فلا يكتفي بأن يكون ناقلاً أميناً، ولا يُسمح له أن يكون مؤلفاً جديداً بالكامل؛ بل يقف على شفا المسافة الدقيقة بين النقيضين معاً، تلك التي تتيح له التعبير عن جوهر النص دون أن يطفئ وهجه الأصيل؛ فالترجمة الأدبية – بحد ذاتها – تقتضي وعياً مزدوجاً ليس فقط باللغتين، بل بالعالمين اللذين تنبثق منهما.
الترجمة الحقيقية لا تكتفي بالكلمة، بل تُعيد خلق الإحساس الإبداعي القائم على الفروق الثقافية الكامنة خلف مفاد الكلمات، ولن تكون خالدة ما لم يُقوَّم بناؤها على ثلاثة محاور أساسية: الصورة والعاطفة، والنغمة والأسلوب، والجوهر الثقافي. فالأول يمنح النص بريقه الإنساني دون الاتِّكاء على الآلة، والثاني يعكس نَفَس الكاتب وروحه، أما الأخير فهو الجذر الذي يربط النص ببيئته الأولى ويمنحه هويته الحقيقية. وتتصل هذه المحاور ببعضها عبر اللغة والإيقاع، وصوت الكاتب الداخلي، والدلالات الرمزية والاستعارات، إضافة إلى السياقات التاريخية والاجتماعية، والتأثيرات النفسية والعاطفية التي توقظ المشاعر في القارئ الجديد كما في القارئ الأصلي، فإذا غاب أيٌّ منها، غابت الحياة عن النص، وتحول إلى نص باهتٍ لا ظلّ له ولا روح. ومع أن الحرفية المفرطة تُفقد الترجمة روحها، فإن المبالغة في الحرية تفقدها هويتها أيضاً. إن الترجمة الأدبية ليست عمليةً ميكانيكية بل تذوّق وفهم عميق، فيها يذوب المترجم داخل النص ليعيد صياغته من داخله، لا من خارجه. ومن هنا تأتي صعوبة هذا الفن الذي يقتضي الإبداع، إذ يتطلب حساً شعرياً، ولغوياً رفيعاً إلى جانب معرفةٍ واسعة بالثقافتين.
في الشعر على وجه الخصوص، يكون التحدي أعظم بكثير. فالإيقاع والصوت والصورة والاستعارة ليست مكونات شكلية، بل هي بنية المعنى نفسه. ولذلك، يحق للمترجم أحياناً أن يمارس حريته الإبداعية حفاظاً على روح النص، لا على حرفه. ولعلّ أبرز مثالٍ على ذلك ما فعله إدوارد فيتزجيرالد في ترجمته لـ رباعيات عمر الخيام، إذ لم يقدّم ترجمةً حرفيةً، بل رؤيةً شعريةً موازيةً أعادت إلى الخيام حياةً جديدة في الوجدان الغربي، دون أن تفقده صوته الفلسفي أو نزعته الوجودية.
غير أن كثيراً من الترجمات تسقط حين تفتقد إلى هذا التوازن. فحين يطغى الحرف على الروح، يُقتل الشعر في الترجمة، وحين تسيطر الحرية على الأمانة، تُطمس هوية الأصل بريشة التحسين والتأويل، فتصبح الترجمة تقريراً إنشائياً أكثر من كونها فناً إبداعياً. فالنجاح الحقيقي هو أن تُبنى الترجمة على خيطٍ دقيق يجمع بين الوفاء والإبداع، بين حفظ الأصل وخلق الجديد.
الترجمة، في جوهرها، فعلُ حبٍّ للغة وللإنسان، لأنها تمنح النص حياةً ثانية، وتمنح القارئ نافذةً على عوالم لم يكن ليبلغها بلغته الأم. المترجم، في هذا السياق، ليس مجرد وسيط، بل هو شاعر من نوعٍ آخر، يكتب بنورٍ مستعار ويضيف إليه بصيرته، كما لو أنه الحارس الذي يحمي جوهر النص، والخلاّق الذي يزرع فيه حياة جديدة.
وعندما تكتمل الترجمة الحقة، تقف بذاتها، كما تقف النجوم في فضاء الليل: مستقلةً في بريقها، لكنها متصلة بنورها الأول. لذلك، يجب أن تثير الترجمة في القارئ الجديد ذات المشاعر التي أيقظها النص الأصلي في قارئه الأول، وأن تتحدث بصوتها الخاص دون أن تخون أصولها.
وهكذا، لا تكون الترجمة الأدبية مجرد انعكاس للغة، بل بعثاً للروح، واستمراراً للدهشة التي بدأها المؤلف الأول. فالمترجم الحقّ لا يُكرر النص، بل يُعيد اكتشافه. وبين سطوره تنبعث الكلمات من جمودها، لتولد من جديد في فضاء آخر أكثر رحابةً وجمالاً.



















