فَن التقريب في ترجمة الشعر دون المساس بجوهر النص الأصلي
مصطفى عبدالملك الصميدي/اليمن
باحث أكاديمي
تُعدّ ترجمةُ الشَّعر رحلة مُتفَرِّدة تُشبه كثيراً محاولة الإمساك بالنسيم قبل أن يختفي سليلهُ بين فروج الأصابع، بل وأكثر من أن تكون رسماً خَرائِطياً لألوانٍ لا تُرى بين نَدأَةِ الشروق وشفق الغروب، وما يتشكل من خلال المسافة بينهما، هو ما نسميه بحياكة الظلال؛ أي برسم لوحة المعاني الكامنه وراء النص بقالبه السطحي، إذ لا تتراءى لنا هذه اللوحة ما لم نتمتع بقدرات لغوية وثقافية ومهارات إبداعية وشاعرية على حد سواء. لذا ترجمة الشعر – إن صَحَّ التعبير – لا تكمن في الكلمات وقوالب الجمل وحدها، بل في الصدى الكامن لها، في الصور التي تنبثق من بين السطور كشعاع ضوء نافذ، وفي الإيقاع الذي ينبض بين الحروف كعزفِ مقامٍ هادئ. وعلى ضوء هذا، يتجلَّى فنٌ سمَّاهُ المُنظِّرون بفَنّ التقريب، الذي يجعل النص مألوفاً للقارئ في لغته وثقافته دون أن يفقِد جوهره ورمزيته ومُوسِيقاه الداخلية.
التقريب في ترجمة الشعر أشبه ما يكون بنسخِ ظلٍّ دون مسّ الجسد؛ أن تمنح النص في لغته الأصل ظِلاً آخر سواء قَصُر في رسمهِ أو كَبُر مع الحفاظ على ماهية الجسد بُنيةً وملامحا. فالظل الجديد ليس تِكراراً آخر لنصٍ مكتوب، بل ثمرة ضوء ينساب شفِيفاً على جسد ثابت في جوهره وأصالته؛ جسد يبقى راسخاً، بينما يتحرك الظل بحرِّية داخل حدود اللغة الهدف، حرية تمنح القارئ مساحة من اللاشعور بالتغريب والامتزاج اللاواعي بالتقريب، حتى ليبدو وكأنه يقرأ نصاً أصيلاً لم يُنقل عن لغةٍ أخرى. بهذا المعنى، يغدو المترجم من يمسك المعنى من ضوئهِ لا من مادته؛ ينقل وهجه ولونه ورمزيته، ليولَد بعد ذلك نصٌّ جديد له مناخ آخر، وطقوس تعبيرية أخرى، نصٌّ يحيا في لغته الجديدة دون أن يتنكر لملامحه الأولى.
إنَّ مترجم الشعر حين يقارب اللغتين والثقافتين يقف وسيطاً نبِيهاً، وشاعراً لا ناقلاً، ينتقي مفردته بعنايةٍ كمن ينتقي الجمر من بين الرماد، ويزن رمزه وصمته وإيقاعه كي يظل النص حياً نابضاً مؤثراً. إنه لا يترجم المعنى فحسب، بل يغوص وراء جماله، عميقاً في لُجّتِه ليخرجه لؤلؤة تُسِرُّ الناظرين بعيون قلوبهم. وهكذا يكون قد أعاد تشكيله بلغة جديدة، محافظاً على نبضه وسحره، لتكتمل في النهاية مادَّته كنص أصيل.
إذاً، عملية التقريب تبدأ بالقراءة المتأنِّية للنص الأصلي، وما وراءه من عالم خفي قبل أن يهِمّ المترجم بوضع الحروف على السطور. لقد حالفني الحظ – أنا شخصياً – بترجمة نص جميل للشاعر الأمريكي روبرت فروست، فوجدت في نهاية المطاف أنني أتقنت هذا الفن المسمى بالتقريب إلى حدٍّ كبير، لأخرُج بترجمة يستسيغها القارئ كما يستسيغ لغته الأم وإن كان هناك بعض من التصرف المجازي والإبداعي. وجدتني وأنا أسبر أغوار النص كمن يقرأ خارطة متواشجة الألوان لاكتشاف المسارات الخفية وراء صِبغتها الأولى. فالشعر بمعناه العميق غالباً ما يخفي أكثر من معنى وراء بساطة ما يطفو على السطح: الأوراق التي تتفتح، الفجر الذي يطل، الذهب الذي يزول، كلها رموز تتطلب شعوراً دقيقاً لفهمها وإعادة إنتاجها بلغة جديدة. إنّه ليس مجرد سرد للوقائع، بل لوحة متحركة من الانفعالات والسياقات الأخرى، صور طبيعية، وتأملات فلسفية تتشابك فيها الألوان والنور والظلال.
في هذه القصيدة الشهيرة “Nothing Gold Can Stay” مثال حي على هذا الرقي الرمزي، حيث يخفي النص هشاشة الجمال والزوال السريع وراء بساطة الطبيعة: الأخضر يصبح ذهباً، الورقة زهرة، والفجر يختفي كما تغرب الشمس. يقول فروست:
Nothing Gold Can Stay
Nature’s first green is gold,
Her hardest hue to hold.
Her early leaf’s a flower;
But only so an hour.
Then leaf subsides to leaf.
So Eden sank to grief,
So dawn goes down to day.
Nothing gold can stay.
فترجمتي لهذه الصور إلى العربية كانت رحلة دقيقة بين الإحساس بالموسيقى الداخلية للكلمات، والفلسفة الخفية التي يحملها النص، فصغتها بلغة عربية تحمل نفس جسد المعنى برقته ورمزيته وأصالته، لكن بظل آخر له حجمه ولونه الخاص.
__ لا شيء يبقى جميلاً ورافاً نضِرا
بِدءُ اخْضَـرَار الطـبـيـعـة يُرْتَأىَ ذَهَــبَـا
حتى إذا ما اَسْتَوَى سُـرعَان مَـا ذَهَـبَـا
طَـلْــعُ الـوريـقـات زَهْـــرٌ وارفٌ نَـضِــرٌ
يوْمـاً سيغـدو كما يغـدو الـرَّدى سَــبَبَا
يهوي “كأهل الخطـيئة” حينـما هَبَطوا
أرضــاً فـمَــا وَجَــدُوا إِلاَّهَــا مُـنْـقَـلَـبَــا
كالـفـجــر يطـلــع وَضَّـــاءً بِـعَـسْـجَـدِهِ
ويختفي مثل وجـه الشمس إنْ غَـرَبَـا
لا شـيء فـي هـذه الـدُّنـيــا يـدوم ولاَ
حُسْـن البَـوَاكِـير، أو مَـنْ ذَا بـِهِ وُهِــبَـا
خلاصةً، في هذه الترجمة يظهر فن التقريب في أبهى صوره: الكلمات مألوفة للقارئ العربي، الصور حية، الإيقاع موزون، والرمزية محفوظة كما أرادها الشاعر الأصل. لِذا يمكننا القول أن فن التقريب في ترجمة الشعر ليس مجرد تبسيط أو ملاءمة ثقافية، بل هو فن الحفاظ على جوهر النص، نقله دون أن يفقد نبضه أو موسيقاه الداخلية أو رمزيته العميقة. إنه كنسمة تحمل عبق وردة من حديقة إلى أخرى، أو كمرآة تعكس ضوء الشمس على صفحة ماء ساكن، لكنها تحتفظ بوميض كل شعاع. وكمترجم، كان لي أن أصبح وسيطاً بين عالمين شعريين، إذ جعلت النص حياً ومؤثراً كما لو أنه وُلِد من جديد، محافظاً على صورته وموسيقاه وروحه الخفية.


















