فضيلة الشيخ الدكتور عيني سناني: نهر الحكمة وصوت الحوار
“قراءة تحليلية في السيرة والفكر والخطاب والهوية”
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
مدخل: حين يلتقي نور الشرق بحكمة البلقان… وتتشكل سرديات الهوية من جديد
ليس من السهل أن تتحدث عن شخصية تجمع في ملامحها بين عمق التقاليد الدينية ودفء التجربة الإنسانية واتساع الأفق الفكري. وحين نتأمل مسيرة الأمم، ندرك أن حضور العلماء فيها ليس مجرد إضافة معرفية، بل هو جزء من بنية الوعي العام، وصوت يعيد ترتيب علاقة الإنسان بالعالم من حوله. في هذا الأفق الرحب تبرز شخصية فضيلة الشيخ الدكتور عيني سناني بوصفها واحداً من العلامات الفارقة التي استطاعت أن تُنتج خطاباً دينياً وفكرياً، يجمع بين جذور البلقان ورحاب الأزهر، بين لغة الروح ولغة العقل، وبين رصانة التقليد وضرورات التجديد.
وُلد الشيخ سناني في فضاء بلقاني مضطرب، لكنه كان مهيّأً ليكون جسراً، لا مجرد شاهد. جسراً بين كوسوفا وسائر العالم الإسلامي، وبين ثقافة محلية تحمل جروح التاريخ وثقافة إسلامية واسعة تحمل تعددية الأزمنة والمعاني. ومع انتقاله بين دمشق وسراييفو والقاهرة، تشكلت لديه بنية معرفية ذات طبقات متداخلة:
طبقة تربطه بفقه المنطقة وروحها، وأخرى تربطه بالتراث الأزهري ومناهجه، وثالثة تربطه بالقضايا الكبرى للأمّة، من فلسطين إلى الهوية الإسلامية في أوروبا والبلقان.
ومع مرور الزمن، لم يعد الدكتور سناني مجرد داعية أو باحث، بل تحوّل إلى نموذج ثقافي وأخلاقي؛ شخصية تُقرأ لا لذاتها فقط، بل بوصفها مفتاحاً لقراءة مساحات أوسع: دور العلماء في بناء الوعي، علاقة الدين بالسياسة، تجدد الخطاب الإسلامي، وصياغة الهويات الوطنية في فضاءات متعددة.
أولاً: سيرةٌ تنبض بالرحلة الأكاديمية والالتزام الرسالي
ولد الدكتور عيني سناني في بريزرن عام 1962، مدينة العلم والفكر، وكأن ميلاده كان وعداً بأن هذه الأرض ستظل تُنجب رجالاً يحملون مشاعل النور. لم تكن رحلته العلمية مجرد تحصيل أكاديمي، بل كانت أشبه برحلة الطيور المهاجرة طلباً للزاد المعرفي العميق:
• دمشق وسراييفو: محطتان أوليتان غرستا فيه الرصانة الشرعية والفهم العميق للقضايا الإقليمية.
• القاهرة (الأزهر): كانت محطة فارقة، حيث نهل من المنهج الأزهري الأصيل، الذي يجمع بين التخصص الشرعي والشمولية الثقافية، ليجمع بذلك بين الفقه والواقع.
• بريشتينا: مثّلت العودة التي تحولت إلى انطلاق لخدمة أمته.
لم تكن دراساته العليا مجرد أوراق جامعية، بل كانت شهادة على التزامه بقضايا الأمة الكبرى: من قضية فلسطين إلى قضايا المحاكم الإسلامية، وصولاً إلى تعميق الهوية الدينية لشعوب البلقان في زمن التحديات. هذا التراكم العلمي المُتجذّر هو الذي شكّل قاعدة صلبة لأثره المتشعب.
ثانياً: الأثر الشامل (الفكري، الدعوي، الأدبي، العلمي، الثقافي)
يتجسد الأثر الحقيقي للدكتور سناني في كونه جسراً يربط بين مختلف الميادين، مقدماً نموذجاً للداعية المُنظّر والمثقف الفاعل:
1. الأثر في الحياة الفكرية والعلمية: مدرسة التحقيق والشمول
أسس الدكتور سناني مدرسة فكرية تقوم على التحقيق والتدقيق، وعلى النظر الشامل لا الجزئي. هو المفكر الحر الذي لا يرضى أن يكون أسيرًا للجزئيات الفقهية المعزولة أو القضايا السطحية، بل يغوص في الكليات ليكشف المعنى العميق للنص والمقصد. في كتاباته وإشرافه، كان يشدد على الرصانة الأكاديمية، فكان كمن يزرع شجرة خضراء في أرض عطشى من خلال إشرافه على طباعة المصحف الشريف، لتظل تُثمر أجيالاً بعد أجيال بالمعرفة الموثقة.
2. الأثر في الحياة الدعوية: صوت الحكمة وحوار البناء
في خطبه ومقالاته، يتحدث الدكتور سناني بلسانٍ يزن الكلمات كما يزن الذهب، فلا يترك حرفاً إلا وهو في مكانه. منهجه الدعوي يقوم على رؤية مفادها: “الإسلام ليس صراعاً، بل حواراً، وأن الحق لا يُفرض بالقوة بل يُكشف بالنور”. لقد جعل من المنابر صوتاً للحكمة، لا ساحة للصراع، داعياً إلى الوسطية والاعتدال، ومؤمناً بأن الإسلام يُعرّف نفسه بالسلام قبل أن يُعرّف نفسه بالقوة.
3. الأثر في الحياة الأدبية والثقافية: لغة الجسر وروح الجزالة
يمتلك الدكتور سناني ملكة أدبية رفيعة، فهو الأديب البليغ الذي يجعل من اللغة جسداً حياً، يرقص بين يديه برصانة وهدوء. وقد أضفى على كتاباته روحاً من الجزالة والرصانة، حتى غدت كأنها نصوص تُقرأ بالقلوب قبل العيون. وفي المجال الثقافي، مارس دوراً محورياً في الترجمة والإشراف على أعمال ثقافية، مما جعل الثقافة الإسلامية تتحدث بلغة الألبان والبوسنيين، ويكون الإسلام حاضراً في الإعلام والوعي الشعبي، كجسر معرفي بين الحضارات.
ثالثاً: الأثر في السياسة والدبلوماسية: صوت العقل في زمن الضجيج
على الرغم من عمقه الديني والفكري، لم ينأَ الدكتور سناني بنفسه عن قضايا وطنه وأمته، بل مارس دوراً هادئاً ومؤثراً في السياسة والدبلوماسية غير الرسمية. يتجلى دوره في:
• الموازنة الحكيمة: استطاع أن يوازن ببراعة بين الانتماء الديني العميق وضرورات الواقع السياسي والدبلوماسي المعقد في منطقة البلقان.
• صوت العقل: كان ولا يزال صوتاً للعقل والحكمة في زمن الضجيج والصراعات، يسعى لتوحيد الصفوف وتوجيه البوصلة نحو الاستقرار والبناء.
رابعاً: السمات الأسلوبية الدعوية: الرصانة، الحوار، والتركيز على الكليات
يمكن تلخيص السمات الأسلوبية للدكتور عيني سناني في الدعوة بثلاث ركائز أساسية:
1. الرصانة الأسلوبية والوزن اللغوي: في خطبه ومقالاته، يتسم أسلوبه بـالجزالة والاحتراس اللغوي. كلماته ليست عشوائية، بل هي موزونة ومقنعة، تخاطب العقل قبل العاطفة، مما يمنحه ثقة المستمع وقبول القارئ.
2. منهجية الحوار لا الصراع: بدلاً من أسلوب الإقصاء والمواجهة، يتبنى أسلوب الحوار الهادئ والاستدلال المنطقي. هو داعية يفتح أبواب النقاش ويسعى للتعريف بالإسلام عبر فضيلة السلام الداخلي والخارجي.
3. التركيز على كليات المقاصد: يتميز بأسلوبه الذي يتجاوز الخلافات الجزئية ليؤسس على مقاصد الشريعة الكبرى وقيم الإسلام الأساسية (العدل، الرحمة، البناء). هذا التركيز يمنح دعوته بُعداً تجديدياً وعمقاً فكرياً.
خامسا: مصر في عيون العالم: الخطاب الديني وسياسة الهوية في رواية الدكتور عيني سناني
تشكل مصر مركزًا ثقافيًا ودينيًا بارزًا في الخيال الجمعي للعالمين العربي والإسلامي. لا يقتصر هذا التمركز على الجوانب الجغرافية أو التاريخية فحسب، بل يمتد ليشكل أداة خطابية وفكرية تُستخدم في صياغة الهوية وتأكيد الشرعية. يأتي السرد المنسوب إلى الدكتور عيني سناني ليعبر عن هذه الرؤية بمزيج من الإيمان الجازم والرومانسية السياسية. يقدم هذا النص، رغم قصره، نموذجًا مكثفًا لخطاب يربط بين القداسة الدينية والمركزية الحضارية لمصر. من خلال تحليل هذا السرد تحليلاً نقديًا شاملاً، يمكن الكشف عن الطبقات المتعددة المختبئة وراء هذه العبارات الظاهرية البسيطة، سواء على المستوى الأدبي البلاغي أو على المستوى السياسي الأيديولوجي.
تحليل نقدي أدبي:
1. البناء البلاغي والاستعارات المؤسسة:
• الاستعارة الأساسية (القلب): يفتتح النص باستعارة “مصر قلب العالم العربي والإسلامي”. القلب ليس مجرد عضو، بل هو مركز الحياة ومصدر النبض والحيوية. هذه الاستعارة تمنح مصر موقعًا وجوديًا لا مجرد موقع جغرافي؛ فهي مصدر القوة والحياة للأمة، وبدونها تتعطل الدورة الحضارية.
• الاستعارة التكميلية (المهد): “مصر مهد القرآن الكريم”. “المهد” هو مكان الطفولة الأولى، حيث الرعاية والأمان والنشأة. بربط “مصر” بـ “مهد القرآن”، يخلق النص علاقة حميمية بين الأرض والنص المقدس. لا يقتصر الأمر على أن مصر تحفظ القرآن، بل هي مكان “ولادته” الرمزية في الوعي الجمعي عبر القراء والحفاظ.
• الاستعارة المؤسسية (المعمل): “جامعة الأزهر الشريف… معملًا لعلماء الأمة”. كلمة “معمل” تستدعي عالم العلم التجريبي والدقة والإنتاج المنظم. هذه الاستعارة تحول الأزهر من مؤسسة تعليمية تقليدية إلى مصنع حديث لإنتاج “علماء الأمة”، مما يضفي عليها صفة الحداثة والكفاءة مع الاحتفاظ بقدسيتها.
2. النسيج اللغوي والتراكم التأكيدي:
• يستخدم النص أسلوبًا تراكميًا يؤكد الفكرة نفسها من زوايا مختلفة: (القلب -> المهد -> المسابقات -> الأزهر -> الخيرة). هذا التكرار ليس حشوًا، بل هو أسلوب بلاغي يهدف إلى ترسيخ الفكرة في ذهن المتلقي وجعلها بديهية لا تقبل الجدل.
• استخدام صيغ التفضيل والتفرد: “مميزة”، “خيرة”، “تُعتبر”، مما يخلق هالة من التميز والاستثناء حول مصر.
3. الخطاب كسردية كبرى:
• يمكن قراءة هذا النص باعتباره جزءًا من “سردية كبرى” تروي قصة أمة ذات مركز ثابت ومقدس. فهو لا يصف واقعًا بقدر ما يؤسس لرواية معينة عن الواقع. هذه السردية تتعامل مع التاريخ والجغرافيا والدين ككتلة واحدة متجانسة، تخدم فكرة الوحدة والقيادة.
تحليل نقدي سياسي واسع النطاق:
1. الدين كأداة لبناء الشرعية السياسية:
• يقدم الخطاب مصر ليس كدولة ذات سيادة فحسب، بل ككيان رسالي. هذا الارتفاع بالدور المصري من المستوى السياسي إلى المستوى الرسالي يمنح النظام السياسي (الحاكم بصفة ضمنية) شرعية تتجاوز الانتخابات والدستور لتستمد من السماء. حماية هذا “القلب” وذاك “المهد” تصبح مهمة مصيرية.
2. توظيف الرأسمال الرمزي:
• تستثمر هذه العبارات في “الرأسمال الرمزي” لمصر. الأزهر والقراء هم رأسمال رمزي هائل. بتحويل هذا الرأسمال إلى خطاب سياسي، يتم تعزيز المكانة الدولية لمصر ودورها الإقليمي. الدول والمنظمات تتنافس ليس فقط على الموارد المادية، بل وعلى الرأسمال الرمزي والديني.
3. الخطاب والهوية الوطنية:
• يلعب هذا النص دورًا في تشكيل الهوية الوطنية المصرية. فهو يقدم للمواطن المصري صورة عن ذاته تجعله محورًا للأمة. هذه الصورة يمكن أن تكون مصدر فخر وطني.
وأخيرا، يمكننا أن نقول إن سرد الدكتور عيني سناني، في ظاهره البسيط المباشر، هو في حقيقته عينة غنية ومعقدة لخطاب متشابك الخيوط. فهو خطاب ديني بثوب سياسي، وسياسي بثوب ديني. يعمل على مستويين: مستوى أدبي بلاغي يبني صورة مجازية قوية لمصر كقلب ومهد ومعمل، ومستوى سياسي أيديولوجي يؤسس لشرعية ومركزية ويصوغ هوية. تحليل هذا الخطاب لا يهدف إلى نفي الدور التاريخي والحضاري لمصر، الذي لا يمكن إنكاره، بل إلى تفكيك الآليات التي يتم من خلالها توظيف هذا الدور خطابيًا. الفهم النقدي لمثل هذه الخطابات يعد ضروريًا لفك شفرة العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة والهوية في عالمنا المعاصر، ولفهم كيف تتحول الجغرافيا إلى تاريخ، وكيف يتحول التاريخ إلى أسطورة، وكيف تتحول الأسطورة بدورها إلى أداة للفعل السياسي في الحاضر.
خاتمة: من الحكمة الفردية إلى السردية الجماعية… ومن صوت العالم إلى صوت الأمة
عند التأمل في سيرة وفكر وخطاب الدكتور عيني سناني، ندرك أننا أمام شخصية لا تُختصر في أدوارها التقليدية: باحث، داعية، أديب، أكاديمي، أو حتى مصلح اجتماعي. بل نحن أمام نموذج فكري مركّب يجمع بين كل هذه الأدوار ويضيف إليها بعداً آخر: الذي ينشئ خطاباً، والجسر الذي يصل بين فضاءات متباعدة، والذاكرة التي تحفظ للأمة توازنها في زمن الاضطراب.
لقد أظهر هذا المقال – بمحاوره الخمسة – أن أثر الدكتور سناني يمتد في مسارات متوازية:
1. في الفكر: قدّم نموذجاً للتجديد الهادئ، القائم على التحقيق والتدقيق واستحضار الكليات.
2. في الدعوة: جعل من المنابر فضاء للحكمة، لا للصراع، ومن الدين لغة للحوار لا للإقصاء.
3. في الأدب والثقافة: صاغ عالماً لغوياً يتميّز بالجزالة والعمق، وأسهم في تبيئة الثقافة الإسلامية في الوعي الألباني والبوسني.
4. في السياسة والدبلوماسية غير الرسمية: قدّم خطاباً معتدلاً يسعى إلى ترميم العلاقات لا تعميق الشقاق.
5. وفي الخطاب الهوياتي: كما ظهر في حديثه عن مصر والأزهر، كشف عن بنية رمزية واسعة تتجاوز المحلي إلى الكوني، تربط الهوية بالدين، والدين بالثقافة، والثقافة بالشرعية الحضارية.
وعبر مناقشة المحور الخامس، اتضح أن الشيخ سناني ليس مجرد مستهلك للرموز الكبرى (مثل مصر والأزهر)، بل هو منتجٌ لخطاب يستخدم الرموز لإسناد هوية أوسع للأمة، ويعيد توزيع المركزيات داخل العالم الإسلامي بطريقة تُسهم في بناء وعي جماعي جديد.
إن تناول شخصيته في هذا النص لم يكن مجرد احتفاء، بل محاولة لفهم كيف يتحول العالمُ الفرد إلى سردية جماعية، وكيف يمكن لصوت واحد متزن أن يصبح مرآة لأمة كاملة تبحث عن توازن بين الدين والسياسة، بين الأصالة والمعاصرة، وبين الانتماء المحلي والانفتاح العالمي.
نسأل الله أن يبارك في علم فضيلة الشيخ الدكتورعيني سناني، وأن يجعل جهده ذخراً لأمته، وأن يبقى نهر الحكمة الذي يروي أرض البلقان وينير طرق الباحثين والدارسين.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]


















