تمكّنت الكاتبة جنان خشّوف، عبر رواياتها ودواوينها، أن تترك مساحة خاصة لها في المشهد الأدبي، وأن تقدّم رؤية تلامس القلب والعقل معًا. في هذا الحوار نسلّط الضوء على أبرز أعمالها الأدبيّة والقضايا التي تطرحها
حاورتها من لبنان د. جيهان الفغالي، محرّرة في مجلّة أزهار الحرف، عضو في ملتقى الشعراء العرب
1. تتناولين قضايا التمييز والنسوية والوطن… ما القضية الأقرب إلى قلبك ولماذا؟
-بالرغم من أنّ كتاباتي تتناول قضايا متعدّدة مثل التمييز والنسوية والوطن، تبقى “الإنسانيّة” هي قضيتي الأصدق والأكثر إلحاحاً.
أكتب عن المرأة تحديداً لأنني أراها إنسانًا تُسحب منه إنسانيته وتُطلب منه القداسة. وأكتب عن التمييز لأنّ أي ظلم يحلّ بالفرد يصيب المجتمع كاملاً، مهما بدا صغيرًا أو محصورًا.
أكتب عن ضرورة خروجنا، نساءً ورجالاً، من القوالب الجاهزة ومن السجون المجتمعية المصنوعة من قطن وحرير؛ تلك التي تبدو ناعمة في ظاهرها لكنها خانقة في عمقها.
قضيتي المحورية هي حقّنا في إعادة النظر، في مراجعة أنفسنا ومسلماتنا، مهما تأخرنا في ذلك. الركود هو الموت نفسه
2. عندما تتناولين في كتاباتك الألم أو القسوة، هل تستندين غالباً إلى تجربة شخصية عشتِها، أم تعتمدين على مراقبة الآخرين وتخيّل عوالمهم؟
-لأكون صادقة، قليلٌ من الاثنين. جزء من القسوة في كتبي هو من تجاربي الشخصية، لكن الجزء الأكبر يأتي من تجارب من حولي؛ ذكريات، أو ملاحظات متناثرة أتأمل عمقها ووقعها ثم أُعيد تكريسها حكايات. معظم ما كتبته هو جسورٌ بين ما أعرفه وما أستشعره، بين ما عشته وما قد يعيشه غيري.
ألمنا جميعاً مشترك، مع فروقات بسيطة لا تغيّر الكثير في الصورة الكلّية. فنحن جميعاً نبحث عن الأمان ونهرب من الخوف؛ ما يختلف فقط هو الوسائل والطرق التي نسلكها لمواجهته.
عندما أكتب، لا أفكر بعُريي ولا بعُري الآخرين. أستعرض جراحي كاملة، وجراحاً أخرى لآخرين حدث أن فهمتها. أفردها على الصفحة كي تخفّ وحدة بعض القرّاء، ويزداد تعاطف البعض الآخر ممن لم يرتطم بألمنا ليفهمه.
3. هل ترين أن الكتابة في جوهرها موهبة فطرية تولد مع الإنسان، أم مهارة تُكتسَب وتتطوّر بالممارسة والتجربة؟
-يميل العلم إلى النظر إلى الكتابة بوصفها مهارة معقّدة تكتسب، لا موهبة تُهدى كاملة. فالدراسات في علم النفس المعرفي تقول إن الدماغ يتعلّم أن يصوغ أفكاره بوضوح وجمال كلما انغمس في القراءة والكتابة واعتاد التمرين الطويل.
ومع ذلك، يعترف العلم، ولو على استحياء، أن ثمة موهوبون يُولدون بحسّ لغوي أرهف أو بخيال أوسع، وكأنهم يبدأون الطريق من المنتصف وليس من البداية، مما يجعل العبور أسرع عند المحاولة.
4. ما أكثر كتاب قرأته وترك أثرًا عميقًا فيك ولماذا؟
-أولاً، السؤال ليس عادلاً، لأن في رأسي الآن مجموعة من الكتب تتزاحم لتحتلّ الصدارة. لكن أكثرها تأثيراً في نفسي كانت رواية “عزازيل” ليوسف زيدان.
أحببتها لا لأنها مكتوبة ببراعة آسرة فحسب، بل لأنها صادقة، وحميمة، ووقحة في تسليط الضوء على هشاشتنا البشرية. سحرتني الطريقة التي يصوغ بها زيدان صراع الإنسان مع ذاته، ومع تاريخه، ومع ما يرثه من أفكار ومعتقدات، وأدهشتني قدرته على الدخول إلى الفلسفة من بابها العميق بأسلوب بسيط وأحداث سلسة.
أحببت عزازيل لأنها رسّخت قناعتي بأن كلٍّ منا يحمل “عزازيله” الخاصة، تلك الأصوات التي تشكّكه، وتحرّضه، وتعيد تشكيله باستمرار.
5. يميل بعض الكتّاب إلى العزلة كمساحة للتأمل، فيما يجد آخرون إلهامهم في الاختلاط بالناس. أين يقف
الكاتب برأيك بين هذين الخيارين؟
-أرى أن الكاتب يقف تمامًا في المنتصف؛ فهو يحتاج إلى صوته الداخلي وتحليله الشخصي بقدر ما يحتاج إلى رصد هموم الناس وأحلامهم واحتياجاتهم، وإلى أن يكسو شخصياته بتفاصيلهم ونزعاتهم.
شخصيًا، أعتقد أن الكاتب يشبه العالم: يجمع القصص والتجارب عبر تواصله الحثيث مع الناس، ثم يعود إلى عزلته ليحلّلها ويعيد بلورتها بصوته الخاص،تماماً كما يحلل العالم بياناته في مختبره.
الكتابة، في جوهرها، هي رقصة هشّة بين العزلة والانفتاح، بين الإصغاء للذات والإنصات للعالم
6. .أيّ قصيدة هي الأقرب إلى قلبك في ديوانك السادسة والربع ولماذا؟
الأقرب إلى قلبي هي قصيدة “دمي أصبح سماء”، لأنها كُتبت لإبني، ولأنها تحمل وجع الأمهات حين يمرض أولادهن، ذلك الشعور بالعجز وقلة الحيلة، حين يصبح الكون كله معلّقًا بمصير صغير واحد. هذه القصيدة هي اعتراف صريح بأننا كأمهات لسنا قديسات، بل بشر ينهكنا الخوف، ويصيبنا الإحباط والوهن، وتترك الجروح أثرها في أعماقنا حتى تغيّرنا من الداخل. كتبتها وأنا أشعر أن دمي نفسه يتنازل عن لونه، قطرة قطرة…
7. ما الأعمال الجديدة التي تعملين عليها حالياً، وإلى ماذا تطمحين في مشروعك الأدبي القادم؟
-أنا الآن في “استراحة المحارب” … لحظة تأمل أستعيد فيها أنفاسي، وأعيد ترتيب أولوياتي وصوتي ورسالتي. أفتح نوافذي على احتمالات كثيرة أستكشفها بشغف:
• خيار يأخذني نحو رواية ثالثة كنت قد بدأت العمل عليها قبل العودة إلى الناي. ولا يزال نداؤها يرافقني في الخلفية، يطالبني بأن أعود إليه.
• وخيار ثانٍ يستدرجني نحو كتابة تأملية جديدة؛ فقد منحتني العودة إلى الناي متعة خاصة، وامتلأ قلبي امتناناً من صدى القرّاء وتغذيتهم الراجعة، ما يشجعني على كتابة أكثر هدوءاً وعمقاً.
• أما الخيار الأكثر احتمالاً فهو المغامرة: تجربة أدبية جديدة تماماً، لم أخضها من قبل، وأشعر أنها قد تحملني إلى منطقة أبعد مما أعرف.
لكني مهما كان الطريق الذي سأختاره، سيبقى نصّي وفياً لذاتي… وصادقاً مع قضايا الناس المنسيين في زحمة هذا العالم المجنون. سيبقى صوتي ودوداً، صادقاً، حقيقياً؛ سواء علا أو همس.
8. ما الشخصية التي ترغبين في تناولها في أعمالك الروائية القادمة؟
-كل شخصية تستحق أن تُروى، لكنني أجد نفسي مرآة للمهمشين، لأولئك غير الواضحين، الضائعين بين الحشود في رحلة البحث عن لقمة العيش. هؤلاء هم أبطال حكاياتي الحقيقية؛ أناس عاديون في الظاهر، لكنهم يحملون في أعماقهم قصصًا عظيمة عن الصبر، والخذلان، والأمل، وأحياناً الحقد، الذكاء، الأمانة، الكسل…. أكتب عنهم لأنني أؤمن أن تفاصيلهم الصغيرة هي مرآة أسئلتنا الكبرى.
9. ما التحديات التي تواجهينها كامرأة كاتبة في مجتمعات تتفاوت نظرتها إلى المرأة المبدعة؟ وكيف تتعاملين معها؟
-أواجه تحديات كثيرة، لكن أكثرها هزلية هو هذا الاتهام المستمر بأنني “جميع الشخصيات النسائية” في نصوصي… وأنني عشت كل قصص الحب مع أبطالها. أكون في نظر بعض القرّاء الزوجة المخدوعة والعشيقة، الأم والابنة، المرأة المكسورة والمرأة الجريئة… كلّها في الوقت نفسه! كيف يحدث ذلك؟ لا أدري. يبدو أن فكرة أنّ الكاتب يكتب من خياله غير ناضجة بعد.
أما التحدّي الحقيقي، والذي يلامس خوفي فعلاً، فهو نظرة المجتمع لجرأتي في تناول المواضيع، وعدم اختبائي وراء كلمات مواربة أو عناوين خجولة، كابتذال. اختياري أن أكتب بصدق يُقرأ أحياناً كتمرّد، وقولي للحقيقة كما أراها يُفهم وكأنه خروج عن المألوف.
وأكثر ما آلمني يوماً…كان حين لمّحت إحدى معلمات ابنتي لها بأنني “جريئة أكثر من اللازم”. كانت ابنتي حينها في عمرٍ ترى فيه معلمتها نصف إله، وكلمتها حقيقة مطلقة. ذلك الجرح لم يصبني ككاتبة فقط، بل كأم أيضاً، لأن المجتمع لا يحاسب نصي فقط… بل يحاسبني ومن يحبّني أيضاً.
ومع ذلك، أواصل الكتابة كما أؤمن بها: بلا أقنعة، وبلا خوف، وبلا اعتذار عن صوتٍ لم يُخلق ليختبئ.
10. في كتابك العودة إلى الأنا وإلى الناي كما يظهر التزواج في العنوان بين الأنا والناي هل ذلك كان مقصودا؟
-نعم، كان ذلك التزاوج مقصوداً تماماً. فالناي لم يكن يوماً مجازاً عابراً في حياتي، بل كان جزءاً من تكويني، من أيامي، ومن هويتي، من صوتي الداخلي، كنت كلّما عزفت وجدت فسحتي النقية…
ثم انشغلت بالحياة وضجيجها، وابتلعتني مسؤولياتها، فتراجع الناي إلى الخلفية… نسيت الجزء الألطف من نفسي على جانب الطريق فيما حفرت طريقاً لي ولأسرتي . لم تكن عودتي عودة عازف لآلة موسيقية، بل التفاتاً مني أن أناي الأولى ما زالت حيّة ، عدت إلى مساحة خاصة ألوذ بها كلّما اشتدّت الريح
أردت للعنوان أن يقول إننا لا نستعيد ذواتنا دائماً بالكلمات، بل أحياناً بنبرةٍ قديمة تعود، بعادةٍ أهملناها، بصوتٍ كان يوماً خيطاً يربطنا بأنفسنا.
11. هل الكتابة تحت وطأة المرض لها وقع مختلف؟
-للحقيقة التفكير نفسه، تحت وطأة المرض يختلف! فحين يقترب المرض ،تعيد النفس ترتيب طاولتها الداخلية: تتبدّل الأولويات، يهدأ الضجيج، ويعلو ما كان مهملاً. الامتنان يصبح حاضراً، واللهو يفقد سطوته مع تراجع عوامل التشتت.
كأن المرض، رغم قسوته، يمنحنا بصيرةً لا نملكها في العافية، ويعيد إلينا تلك القدرة على رؤية ما هو جوهري، وعلى سماع ما كنا نهمله في الأيام العادية.
قلمنا، كما عقلنا، عند المرض يصبح أصدق، أكثر تواضعاً، وأكثر قرباً من قيمنا الشخصية.
12. .لماذا تعمدت في كتابك الأخير العودة إلى الناي؟
-لا بالعكس تماماً، كتابي نفسه كان مشروع عودة… عودة إلى الأصوات التي فقدتها، وإلى الأعماق التي كنت أخشى الاقتراب منها.
هذا الكتاب كان وعداً شخصياً قطعته على نفسي: أن أصبر، وأتأمل، أن أكتب، وأن أعزف…
مئة يوم كاملة بلا انقطاع.
مئة يوم من النزول إلى قعر الألم، لا لمصافحته، بل لاقتلاعه.
مئة يوم أواجه فيها كل ما تراكم داخلي من وجع وصمت وعتب، وأحاول إعادة تشكيل نفسي ببطء، بنَفَسٍ طويل، وبصدق لا يسمح لي بالهروب، هذا الكتاب كان رحلة شفاء.
13. الجمع بين الشعر والنثر والسيرة الذاتية واليوميات هل ذلك كان متعمدا أم جاء عفو الخاطر؟
-المزج بين الشعر والنثر واليوميات لم يكن مخططاً بشكلٍ واعٍ، بقدر ما كان نتيجة طبيعية لصدق التجربة نفسها. هذا الكتاب كان أصدق ما كتبت، لذلك تركت نصوصه كما جاءت: لم أعدّل حرفاً ولم أحذف سطراً رغم شعوري أحياناً بانكشاف غير مريح.
أردت للتجربة أن تبقى شفافة كما عشتها، لأن القارئ ذكي، ولأني أدين له بالصدق الذي أطلبه منه. ولهذا جاء الشكل هجيناً بطبيعته… كما كانت روحي خلال الكتابة.
14. رأيك بالملتقيات الأدبيّة وتحديدًا ملتقى الشعراء
العرب ومجلّة أزهار الحرف؟
-رأيي بملتقى الشعراء العرب ومجلّة أزهار الحرف قوامه الامتنان قبل أي شيء.
في أزهار الحرف كتبتُ كثيراً، وتعرّفت إلى قرّاء وكتّاب تركوا أثراً جميلاً في تجربتي وساهموا في رحلتي نحو النضج.
أما ملتقى الشعراء العرب فما زال حتى اليوم يمنحني، ولأقراني من الكتّاب، تلك الرفقة الأدبية التي نحتاجها، والاحتضان المهني المتّزن الذي يتيح للكلمة أن تنمو في مكانٍ آمن ومهذّب.
أمّا رأيي بالمنتديات الأدبية فهي فضاءات ضرورية، تمنع الكاتب من الكتابة في عزلةٍ كاملة، وتتيح له الدخول في حوارات نقدية وحسية يحتاجها لتطوّره الشخصي والأدبي.



















