قدسية الضوء وتحوّلات الأمومة في ديوان
«قبلة على جبين الضوء» للشاعرة السعودية نازك الخنيزي
يقدّم ديوان قبلة على جبين الضوء للشاعرة السعودية نازك الخنيزي تجربة شعرية تستبطن عمق علاقة الإنسان بالأم، بما تحمله من حب وتضحية وحنين وفقد. وهو ديوان يقوم على وحدة موضوعية متكاملة، فالأم فيه ليست موضوعًا عابرًا، بل هي جوهر الوجود وروح القصائد جميعها، مما يمنح العمل بناءً دلاليًا متماسكًا، ورؤيةً شعرية متصلة لا تنفصل.
دلالة العنوان وانبثاق النور
يحمل عنوان الديوان بُعدًا تقديسيًا؛ «قبلة» فعل حنان وتكريم، و«جبين الضوء» استعارة ترفع الأم إلى مقام الإشراق السماوي. العنوان يُعلن منذ البداية أنّ الأم هي النور الأول الذي يمنح الوجود معناه، وهي اليقين الذي لا يبهت مهما اشتدّ الظلام.
يحمل الديوان وحدة موضوعية متكاملة حول الأم
ويتأسس الديوان على محور واحد هو الأمومة بكامل أبعادها:
— الأم أصل الوجود
— الأم الحصن الأول وحارسة الروح
— الأم يقينٌ يطرد الوحشة
— الأم التي تستمرّ في الحياة رغم الفقد
وتأتي القصائد لتشكّل نسيجًا متماسكًا لا ينفصم، يقدّم صورة الأم من لحظة الولادة إلى لحظة الغياب وما بعده.
ولأن الديوان برمته يدور حول وحدة موضوعية واحدة كما قلت سوف أكتفي هنا بتحليل نصاً واحداً من نصوص الديوان
نص : «ولادة الوجود»
لأمي
تعجنين الغيم بيدين من قمح
كلما اختبأ الوقت في جيب المخيلة
تخرج يداك من كتاب الخريف
لتخبزا من أسئلة الطفولة ضوءًا
وتزخرفان المائدة بالهمس
قولي
ولا تنسي الحليب
كأن الحليب صلاة بيضاء
تحرس أحلام الطفولة من عطش العمر
حين تترنم الحنايا على شفتيك
أعرف أنّ الريح سرقت أهازيجك
لتدرّب الغيوم على المقامات
فتمطر الأرض أمًا
تغسل جراحها كلما ضاعت الفصول
أمي
أنتِ التي تسهرين على أطراف الليل
كي لا يجفّ الريق على جبيني
تتدلّين في حقول النوم
تحتضنين أوراقي المتساقطة
من تحت وسادتي، تخفينها في صدرك
قبل أن يرويها القلب
أمي
الصمت على وجهك صلاة
يرتّلها البيت كل صباح
كأنها تهمس للجدران برفق
لا تقرعوا أجراس القلب
الندى لم يذبح نعاسه بعد
يتهجّى خطواته الأولى
أمي
ما زلت تحملين المدينة على ظهرك
كأنها طفل لم يتعلم المشي بعد
وما زلت تشبهين زهرة الياسمين
حين تجيبين الدهر بالصبر
لن أخرج من حديقة أولادي
حتى يكتمل الربيع في أرواحهم …
تحليل النص وبنائه الدلالي
يفتح النص أبواب الذاكرة على الأم بوصفها أصل النور:
— «تعجنين الغيم» فعل الخلق والإنبات
— «من قمح» مصدر الرزق
— «لتخبزا ضوءًا» امتزاج الحياة بالنور
يتحوّل البيت إلى فضاء مقدّس، والأم كاهنة الحب الأولى:
— «الحليب صلاة بيضاء»
— «الصمت على وجهك صلاة»
تعمل الاستعارات على جعل الأم قوة كونية تروي الأرض وتغسل جراحها:
— «فتمطر الأرض أمًا»
الحضور الإنساني لا ينفصل عن الحضور الرمزي؛ فالأم سند الحياة وستر الأحلام:
— «كي لا يجفّ الريق على جبيني»
— «تحتضنين أوراقي المتساقطة»
ثم تتجلى صورة الأم كشهيدة الصبر:
— «تحملين المدينة على ظهرك»
— «لن أخرج من حديقة أولادي حتى يكتمل الربيع»
لتصبح الأم هي التضحية المطلقة والربيع الأخير الذي يؤجل الذبول.
اللغة والإيقاع
لغة الشاعرة مشحونة بالعاطفة، تتكئ على معجم الطبيعة (الغيم ـ الحليب ـ الريح ـ الندى ـ الياسمين) لتجعل الأم هي الطبيعة ذاتها. الإيقاع هادئ شفيف، يمزج الحزن بالأمل، ويستعيد نبضًا طفوليًا يزداد سكينة كلما اشتدّ الشوق.
في النهاية :
إن ديوان قبلة على جبين الضوء يقدّم صورة للأم لا بوصفها فردًا في العائلة، بل كونًا كاملاً يتوزع بين الضوء والحياة والصلاة. تجربة شعرية ترفع الأم إلى مرتبة الوجود الأول، وتُعيد للذاكرة دفئها، وللحب قدسيته. عمل تعبق صفحاته بالعرفان، ويتوّج الأم تاجًا من نور لا ينطفئ. كل التوفيق للشاعرة نازك الخنيزي وإلى مزيد من الجمال والإبداع.


















