بين الهندسة الدقيقة والخيال الأدبي، استطاعت الكاتبة السورية ربى منصور أن تحقّق حضورًا إبداعيًّا في مجال اللغة العربيّة. مهندسة مدنية وعضوة في اتحاد الكتّاب العرب وملتقى الشعراء العرب، تمكّنت من أن توازنَ بين عقل تحليليّ وروح أدبيّة، فتنوّعت نتاجاتها الأدبيّة بين قصّة قصيرة وروايات. في هذا الحوار نتعرّف إلى تجربة ربى منصور الإبداعيّة ورؤيتها الفكريّة، حاورتها من لبنان د. جيهان الفغالي
1ـ متى بدأت تشعرين بانجذابك إلى اللغة العربية رغم تخصصك الهندسي؟.
ـ علاقتي باللغة العربية تمتد إلى طفولتي. حين تمكنت من القراءة في الصف الأول الابتدائي قرأت بشغف رواية “البؤساء” في حجمها الكبير. و عمومًا في المرحلة الثانوية كنت أستمتع بالإصغاء إلى معلمة اللغة العربية و أشتري بعض الكتب التي كانت تذكرها في الحصة لأقرأها لاحقًا.. لسبب ما كنت متميزة في مادة التعبير والنحو. ربما أثّرت دراستي الهندسية بعض الشيء على بناء رواياتي. بالنسبة لي اللغة و التأليف بناء و إيقاع ومحتوى يعزز ما نطمح إليه من جمال وتناغم وسلام وبحث دائم عن الحقيقة.
2ـ بما أنك مهندسة مدنية, هل ترين تعارضًا أو انسجامًا بين العقل الهندسي والخيال الأدبي؟.
ـ الهندسة تصميم وتحليل و إنشاء وهدم وإعادة بناء من جديد. و في الخيال هناك فرص وافرة لدى الكاتب كي يجرب ويركب ويهدم وقد يبني مجددًا ما أفرزه الخيال من صور ومواقف. أما في الهندسة فالأمر يتطلب الدقة والحذر أكثر.
الخيال الأدبي لديه الإمكانيات الهائلة للتجريب والمغامرة في التأليف, كذلك العقل الهندسي يبدع أيضًا بما يتاح أمامه من إمكانيات مادية. هناك تقاطع نسبي بين الهندسة والأدب؛ قد يلتقيان في الإبداع, وقد يفترقان في مساحة ضيقة من الإمكانيات.
3ـ ما الذي أضافته دراستك الهندسة المدنية في رؤيتك الأدبية؟.
ـ الدراسة الهندسية تعتمد على الديناميكية والمغامرة والتنظيم والتعاون وتقدير المسؤولية. كذلك مزاولة المهنة أفرزت لدي مواقف وتحديات ما كنت لأجربها لولا العمل في الهندسة. كل ذلك أثّر ـ ربما ـ في دواخلي دون أن أدري. مثلما يبدأ البنّاء بوضع حجر لبناء جدار, قد أكون بدأتُ إحدى رواياتي بفكرة وضعتُ لها مخططًا مسبقًا اندمجت به تجربة العمل على نحو ما في اللاوعي خلال الكتابة, ولكنْ, سرعان ما انحرف البناء السردي عما خططتُ له, و ذهبت الأحداث إلى مسار مختلف. قد تكون الهندسة منحتني القدرة على الابتكار والبناء و إمكانية الهدم أيضًا.
4ـ هل من انعكاس للتجربة الحياتية على شخصياتك الروائية, كونك زوجة و أمًا؟.
ـ لم يكن الأمر انعكاسًا بقدر ما كان انسلالًا لمشاعر عشتها واختلطت بأحداث خلقها خيالي. الأمومة والزواج ثراء حقيقي للمشاعر وصقل للشخصية. تجربة الأمومة تجعلك تتعاطفين مع أطفال الأرض كلهم. بالطبع لا ينفي العقم أو العزوبية ذلك, فالمرأة عاطفية غالبًا. كذلك تجربة الزواج تعرفك على العالم الداخلي للرجل وتفهمينه عن قرب. كل ذلك قد يؤثر أثناء السرد, فيظهر بلفتات ولمحات وسط حكايات خيالية لا تخص حكايتي الحقيقية في الواقع.
5ـ من منظور هندسي قائم على التحليل والبناء, كيف تقيمين واقع النقد الأدبي العربي؟.
ـ نظريًا يُفترض أن يجري النقد متوازيًا مع الإصدارات للتعريف بها, ومن جهة أخرى يأتي التحليل والنقد من أجل تقويم إبداعات أخرى قد تصدر لاحقًا. مع تراجع القراءة الورقية في الوطن العربي قلّتِ الدراسات النقدية عدا تلك الأكاديمية المتعلقة بالكليات الأدبية في الجامعات. بالطبع لا يخلو الأمر من دراسة هنا أو هناك. وربما الأفضل هو التزام بعض الجهات المعنية بالثقافة بهذا الأمر وإدراجه ضمن برامجها السنوية, ليغطي شريحة واسعة من الكتاب.
ملتقى الشعراء العرب هو مثال يحتذى في هذا المجال, إذ يناقش الإصدارات الجديدة وينقدها ويدرسها باستمرار وينشرها الكترونيًا عبر “زوم”.
6ـ ما رأيك بالكتابات الرقمية, و كيف ترين تأثيرها في اللغة العربية؟.
الهاتف الذكي بات في متناول الجميع لأهداف متعددة. هذا التدفق للمعلومات و الأخبار والنصوص الأدبية والفلسفية و الصور, جعل اللغة صيدًا سهلًا للشغوفين بها. وربما صار التركيز أمرًا صعبًا أيضًا. إذ بإمكانك قراءة كتاب رقمي, ولكنْ, لن تستطيع كبح جماح تلك الإشعارات التي تأتي من كل حدب وصوب, وتشوش عليك متعة تأمل المعاني. قد تجد نصًا مذهلًا وبلحظة قد يختفي خطأ من لمسة. وقد تقرأ ومضات ساحرة, أو صفحة لا تمت للأدب بصلة. الغث والثمين من الأدب متاح رقميًا ويعبر أمامك وللقارئ حرية الاختيار فيما يتابعه في العالم الافتراضي. هناك صفحات تعرض نصوصًا باللغة العامية وتلقى رواجًا. وأخرى تقدم أعمالًا بالفصحى وتمجدّها ولا يتابعها إلّا قلة. يبقى التأثير الرقمي على اللغة العربية مبهما تارة وسيئًا طورًا, ويتعلق بالمتابعين ومستوى ثقافتهم.
7ـ أي أعمالك الأقرب إلى قلبك ولماذا؟.
ـ ربما لأنّ رواية “على بالي” ارتبطت بمرحلة صعبة من حياتي كان لها وقع خاص في قلبي. ولقد استطعت اجتيازها بالكتابة والإيمان والامتنان. إنها تتحدث عن امرأة عاشت معاناةً و حكت عن التقمص ثم عولجت بالتنويم المغناطيسي. من خلال تلك المرأة وتداعيات أفكاري حاولت فهم ما يحدث في النفس البشرية, سوى أنّ خيالي كان قاصرًا عن فهم ذلك اللغز المحير وهو ماهية الحياة والموت. رغم ذلك كانت الرواية مغامرة فكرية جميلة استمتعت أثناء تأليفها, وحين صدرتْ, طويتُ رحلتي معها, و انطلقت أبحث عن مغامرة جديدة في التأليف.
8ـ ما هي برأيك مسؤوليات الكاتب تجاه مجتمعه؟.
ـ حين يؤدي الكاتب مسؤوليته الأخلاقية إزاء أسرته وأبنائه ومحيطه القريب بأمانة وصدق وعطاء, يقدّم لمجتمعه أشخاصًا فعّالين ينخرطون بدورهم في المجتمع, ويؤدون أفضل ما لديهم. أيضًا الإبداع بالكلمة التي تهدف إلى المحبة والخير والتناغم والعطاء والسلام هو أحد السبل لتعزيز مجتمع متعاون يفهم مواطنوه حقوقهم وواجباتهم وينبذون العنف و يحترمون القانون و يؤمنون بالتسامح والعدل.
9ـ لديك عدة أعمال روائية, كيف تنظرين إلى مستقبل الرواية العربية؟.
ـ مستقبل الرواية يرتبط بإرهاصات المجتمع ومشاكله وتطوره أو تخلفه. ستظل الرواية مرآة المجتمع في أي بلد في العالم. وستبقى ملجأ لأي إنسان يعاني و يفرح ويعيش و يهوى اللغة.. أمام التناقضات والنفاق قد ينسحب الكاتب لفترة ويفرغ همومه عبر القلم, أو ربما هروبًا يعيش مغامرة في الخيال عجز عن قطفها من الحياة. الرواية هي الوسيلة الأبهى للتعبير عن العوالم الداخلية للإنسان في بعض بلداننا العربية المتناقضة حد الوجع.
10ـ هل من معايير تعتمدينها لاختيار النصوص القابلة للنشر؟ ماهي؟.
ـ ليس هناك معايير محددة أفكر فيها خلال الكتابة. الفكرة والخيال يقودانني, وعلى الأغلب أنتقل من حالة فوضى انفعالية بداية, و ما يلبث أن يسود السلام دواخلي وربما ينعكس ذلك على أفكاري, حقيقة لا أعلم كيف ينتظم الأمر لاحقًا. في العموم لابد أن تظهر طبيعة الكاتب في مكان ما من النص, وترين نبذًا لكراهية في جملة ما, أو تمجيدًا لمحبة و صدق في سطر آخر. ما يؤخذ بعين الاعتبار أحيانًا جمال اللغة و المحتوى وعنصر التشويق أيضًا.
11ـ ناقشت في روايتك “طبعة جوري” و “شوق” الذكاء الاصطناعي والشريحة الالكترونية هل كان ذلك استشرافًا للغيب أم قراءة من باب الخوارزميات؟.
ـ عالم الذكاء الاصطناعي يثير فضولي, وأتابع قدر استطاعتي أي جديد يأتينا به العلماء في هذا الحقل. خطرت ببالي فجأة فكرة رواية “طبعة جوري” وفكرت بالتداخل المعنوي للشيخوخة بالصبا الذي يحصل عادة لدى بعض عاشقي الحياة. من هنا جاء ببالي احتمال أن تتبادل صبية و امرأة مسنة طبعتيهما الانفعالية عبر الطب الرقمي. في الواقع لا أذكر تمامًا كيف التقطتُ الفكرة و بدأت غزل الرواية التي راحت تنمو وتنمو شيئًا فشيئًا ثم اكتملت و أصبحت ناضجة للطبع والنشر.
ما أسعدني حقًا, بأن الطب توصل مؤخرًا ـ بعيدًا عن خيالي ـ إلى فكرة قريبة تتعلق بشريحة, و نفذها لتحسين حياة بعض المرضى المعاقين بحادث ما, وذلك عن طريق زرع شريحة الكترونية في أدمغتهم, تحدث تنبيهات فتحرك الأطراف مثلًا. قد تكون تلك الرواية استشرافًا, و قد تكون تشابهًا في طرق التفكير ليس إلّا, وربما كانت كتابتها متعلقة بغواية الابتكار لا أكثر.
12ـ شاركت في موسوعات مشتركة مع ملتقى الشعراء العرب و كتاب العراب عن الأديب ناصر رمضان عبد الحميد ماذا أضافت لك هذه المشاركات؟.
ـ أي مشاركة ضمن فريق يحتفي بالأدب ويسوده الاحترام والمحبة كملتقى الشعراء العرب برئاسة المبدع الأستاذ ناصر رمضان يسر القلب ويضفي البهجة بحضور مبدعين ومبدعات طيبين. لقد بذل الأستاذ ناصر جهودًا أثمرت و أعاد للكلمة المبدعة ألقها و ما تستحقه من احترام ورعاية, واحتفى بالإصدارات الجديدة. لذلك, كان لابد من رد الجميل والاحتفاء به أيضًا لكثرة إبداعاته و جمالها وتنوعها بين نثر وشعر ونقد ودراسات أيضًا و جهوده المتواصلة في رعاية المبدعين و مؤلفاتهم.
13ـ ما رأيك بالملتقيات الأدبية و خصوصًا ملتقى الشعراء العرب الذي يرأسه الأستاذ الشاعر ناصر رمضان؟.
ـ الملتقيات الأدبية مساحة رحبة للمبدعين والمبدعات كي يلتقوا ويتعرفوا على تجاربهم المختلفة في الإبداع.
من الجميل أن تتواجدي ضمن فريق مبدع ومحب كملتقى الشعراء العرب برئاسة الأستاذ ناصر رمضان. الاحتفاء بالكلمة ـ عبر ملتقى ثقافي كالذي شكّله الأستاذ ناصر رمضان ـ في زمن التفاهة والصورة البعيدة عن الحقيقة أحيانًا قد يعيدك إلى إنسانيتك بعيدًا عن التوحش السائد الحالي. وبالطبع تتألق الكلمة بجهود أعضاء الملتقى المحترمين كنجم يضيء رغم خمود الكتاب الورقي إلى حد كبير.


















