حكيم العرب في قلب البلقان: قراءة في جهود د. عصمت عبد المجيد لدعم قضية كوسوفا (1991-2001)
بقلم: الأستاذ الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي
E-mail: [email protected]
مقدمة
يُعدّ الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد (1923–2013) واحدًا من أبرز العقول الدبلوماسية والقانونية التي أنجبتها مصر والعالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد جمع في شخصه بين تكوين قانوني رفيع المستوى، وخبرة دبلوماسية ممتدة، ورؤية فكرية عقلانية جعلته نموذجًا نادرًا لـ”الدبلوماسي-الفقيه” الذي يوظّف القانون الدولي بوصفه أداة للسيادة، لا مجرد إطار تنظيمي للعلاقات بين الدول. ومن هذا المنطلق، لا يمكن قراءة سيرته قراءة تقليدية تقتصر على تعداد المناصب أو استعراض الأحداث، بل ينبغي تناولها بوصفها تجربة فكرية وسياسية متكاملة، أسهمت في تشكيل ملامح الدبلوماسية المصرية والعربية في لحظات تاريخية مفصلية.
ينطلق هذا المقال من فرضية أساسية مفادها أن أحمد عصمت عبد المجيد لم يكن مجرد فاعل سياسي داخل مؤسسات الدولة والجامعة العربية، بل كان “معماريًا للشرعية القانونية” في زمن تصاعدت فيه الصراعات المسلحة، وتراجعت فيه قدرة المؤسسات الإقليمية على الفعل التنفيذي. فقد سعى، في مختلف المواقع التي شغلها، إلى إعادة الاعتبار لمنطق القانون، والتفاوض، والتسوية السلمية، في مواجهة منطق القوة والإملاءات الدولية. ويبرز ذلك بوضوح في معاركه الدبلوماسية الكبرى، سواء في استعادة العلاقات الدولية بعد العدوان الثلاثي، أو في إدخال اللغة العربية كلغة رسمية في الأمم المتحدة، أو في إدارته المعقّدة لأزمات عربية ودولية خلال رئاسته لجامعة الدول العربية.
وتكتسب هذه الدراسة أهميتها الخاصة من تركيزها على بعدٍ قلّما حظي بالتحليل الكافي، وهو دور الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد في قضايا البلقان، ولا سيما قضية كوسوفا، خلال عقد التسعينيات. ففي زمن كانت فيه الدبلوماسية العربية مثقلة بأزماتها الداخلية، ومعرّضة لضغوط النظام الدولي الجديد بعد الحرب الباردة، برز موقفه من كوسوفا بوصفه محاولة جريئة – وإن كانت محسوبة – لدمج البعد الإنساني في الخطاب العربي الرسمي، والدفاع عن حقوق شعب مسلم خارج الجغرافيا العربية، انطلاقًا من مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان.
يعتمد المقال مقاربة تحليلية متعددة المستويات، تجمع بين:
• التحليل السيري لتكوين الشخصية والمسار الأكاديمي والوظيفي؛
• التحليل القانوني لفهم توظيفه لمفاهيم السيادة والشرعية الدولية؛
• التحليل الدبلوماسي لإدارة الأزمات وصناعة التوافق؛
• التحليل الخطابي والنقدي لبياناته وتصريحاته حول كوسوفا؛
• القراءة النقدية لمذكراته وكتاباته بوصفها نصوصًا سياسية ووثائق تاريخية.
ولا يهدف هذا المقال إلى تقديم صورة تمجيدية خالية من النقد، بل يسعى إلى مقاربة متوازنة تكشف نقاط القوة وحدود الفعل الدبلوماسي العربي في ظل نظام دولي غير متكافئ، وتطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين المبدأ والواقع، وبين الخطاب الأخلاقي والقدرة على التحويل إلى سياسة عملية. ومن ثمّ، فإن دراسة تجربة أحمد عصمت عبد المجيد تفتح نافذة أوسع لفهم إشكاليات الدبلوماسية العربية المعاصرة، وحدودها، وإمكانات تجديدها.
الفصل الأول: المرجعية الأسرية والجذور السكندرية (تكوين الشخصية)
ولد الدكتور عصمت في الإسكندرية عام 1923، في بيئة مزجت بين الوجاهة الاجتماعية والالتزام الأخلاقي.
• والده: محمد فهمي عبد المجيد، مؤسس “جمعية المواساة”، الذي غرس في ولده قيم العطاء المؤسسي.
• والدته: من عائلة الناضوري العريقة، مما وفر له نشأة في كنف عائلة تجمع بين الأصالة والخدمة العامة.
التقييم الفكري: نشأة د. عصمت في كنف عائلة خيرية غرست فيه مفهوماً راقياً للخدمة العامة. انعكس ذلك لاحقاً في دبلوماسيته التي اتسمت بـ “الهدوء الرصين” والقدرة على بناء الجسور، وهي صفات استمدها من تكوينه السكندري المنفتح.
الفصل الثاني: المسار الأكاديمي.. من القانون الوطني إلى فضاء القانون الدولي
تلقى تعليمه في كلية “سان مارك” بالإسكندرية، ثم حصل على ليسانس الحقوق عام 1944، قبل أن ينطلق نحو “جامعة باريس” (السوربون).
• الدكتوراه: حصل عليها عام 1951 في القانون الدولي (موضوعها: محكمة الغنائم في مصر).
• التخصص الموسوعي: حصل على 4 دبلومات عليا في (القانون، الاقتصاد، القانون المقارن، العلوم السياسية).
التقييم العلمي: هذا التكوين الأكاديمي الموسوعي جعله “دبلوماسياً بمرتبة فقيه”. لم تكن تحركاته السياسية مجرد مناورات، بل كانت دائماً تستند إلى شرعية قانونية صلبة، مما أعطى الدبلوماسية المصرية ثقلاً معرفياً في المحافل الدولية.
الفصل الثالث: التدرج الوظيفي.. صعود رجل الدولة في أروقة السلطة والدبلوماسية
تدرج في مناصب الدولة المصرية والدولية بكفاءة نادرة:
1. محلياً: وزير خارجية مصر (1984-1991)، نائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الهيئة العامة للاستعلامات.
2. دولياً: الأمين العام لجامعة الدول العربية (1991-2001)، وسفير مصر الدائم لدى الأمم المتحدة (1972-1983).
التقييم السياسي: قاد الدبلوماسية المصرية في فترة حرجة لإعادة مصر إلى محيطها العربي، ثم أدار الجامعة العربية في “عشرية الأزمات” (أزمة الخليج، لوكربي، لبنان)، حيث كان “رجل التوافق” في زمن الانقسام.
الفصل الرابع: العقل القانوني في خدمة السيادة (تحليل المعارك الدبلوماسية)
في هذا الفصل، لا ننظر إلى الدكتور عصمت كدبلوماسي فقط، بل كـ “مهندس قانوني” للسيادة المصرية. سنركز هنا على واقعتين تاريخيتين يعكسان عبقريته:
1. معركة استعادة العلاقات المصرية الفرنسية (اتفاقية زيورخ 1957):
بعد العدوان الثلاثي عام 1956، كانت العلاقات مقطوعة تماماً. لم يكن المطلوب مجرد عودة السفراء، بل حل مشكلات قانونية معقدة تتعلق بالممتلكات والتأمينات.
• التحليل: هنا برز أثر د. عصمت في استخدام “القانون الدولي” كقوة ناعمة. استطاع تحويل الصراع السياسي إلى ملفات قانونية فنية أدت في النهاية إلى استئناف العلاقات مع باريس دون التنازل عن الثوابت الوطنية، مما مهد الطريق لفرنسا لتصبح لاحقاً من أهم حلفاء مصر في أوروبا.
2. إدخال اللغة العربية كأداة سيادية في الأمم المتحدة (1974):
هذا لم يكن قراراً ثقافياً فحسب، بل كان قراراً جيوسياسياً.
• التحليل: قاد د. عصمت اللجنة المعنية بهذا الأمر بذكاء أكاديمي. كان يدرك أن “اللغة هي وعاء السياسة”. بفرض اللغة العربية لغة عاملة، أجبر المجتمع الدولي على الاعتراف بالثقل العربي وبأن صوت المنطقة يجب أن يُسمع بلغتهم الأم في أروقة المنظمة الدولية، وهو ما عزز من قدرة الدبلوماسيين العرب على المناورة والتعبير عن قضاياهم بدقة أكبر.
الفصل الخامس: إرث الحكمة في مواجهة الأزمات (تحليل الأثر في القضايا العربية)
في هذا الفصل، نحلل الأثر السياسي للدكتور عصمت خلال رئاسته للجامعة العربية (1991-2001)، وهي الفترة التي اعتبرت “عشرية الأزمات الكبرى”.
1. أزمة لوكربي (الوساطة الهادئة):
كانت ليبيا تحت حصار خانق وضغوط دولية هائلة.
• التحليل: تجلى أثر د. عصمت في قدرته على الحفاظ على شعرة معاوية بين طرابلس والغرب. استخدم خلفيته كمدير لمركز التحكيم الدولي ليقترح حلولاً قانونية (مثل محاكمة المتهمين في بلد ثالث) أخرجت الأزمة من نفق المواجهة العسكرية إلى مسار التسوية القانونية. هذا هو جوهر “الدبلوماسية الوقائية” التي كان يتقنها.
2. إدارة “ألم” الأمة في كتاب (مواقف وتحديات):
كتابه ليس سرداً للذكريات، بل هو “دليل إرشادي” للأجيال القادمة.
• التحليل: حلل د. عصمت في كتابه أزمات الجزر الإماراتية ولبنان والخليج من منظور “تكامل الأدوار”. كان يرى أن ضعف الأمة ليس في نقص مواردها، بل في غياب “الإرادة المؤسسية”. أثره الفكري هنا يكمن في تأصيله لمبدأ أن “التوافق العربي” هو الخيار الوحيد للبقاء، وأن الدبلوماسية يجب أن تسبق دائماً لغة السلاح.
يمكننا القول إن د. أحمد عصمت عبد المجيد كان يمثل “النموذج المثالي للمسؤول الأكاديمي”؛ هو الرجل الذي لم تغوهِ أضواء المنصب عن دقة النص القانوني، ولم تمنعه دقة القانون من مرونة العمل السياسي. إن أثره في الحياة الفكرية والسياسية يكمن في أنه “مؤسس لمدرسة العقلانية الدبلوماسية” التي ترفض الصدام العبثي وتتمسك بالحقوق المبدئية.
الفصل السادس: الدور الدبلوماسي للدكتور أحمد عصمت عبد المجيد في البلقان وكوسوفا (1991–2001)
شكّلت فترة التسعينيات إحدى أكثر المراحل اضطرابًا في أوروبا الشرقية، حيث تفككت يوغوسلافيا واندلعت حروب دامية في البوسنة والهرسك وكوسوفا. في هذا السياق، برز دور جامعة الدول العربية تحت قيادة الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد، الذي سعى إلى جعل صوت العالم العربي حاضرًا في القضايا الإنسانية والدولية، رغم محدودية الأدوات التنفيذية للجامعة.
أولًا: الدور العام في البلقان
• إدانة الانتهاكات ضد المسلمين: أصدر عبد المجيد بيانات متكررة تندد بالمجازر في البوسنة والهرسك وكوسوفا، معتبرًا أن هذه الجرائم تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
• التنسيق مع منظمة المؤتمر الإسلامي: عمل على توحيد الموقف العربي والإسلامي، مما عزز من قدرة هذه الدول على ممارسة ضغط جماعي في المحافل الدولية.
• الضغط عبر الأمم المتحدة: مارس جهودًا دبلوماسية لتسليط الضوء على الانتهاكات بحق المدنيين، ودعا إلى تدخل دولي لحماية الشعوب المسلمة في البلقان.
• التركيز على القانون الدولي: شدد على ضرورة احترام المواثيق الدولية، واعتبر أن حماية الأقليات المسلمة واجب أخلاقي وقانوني.
ثانيًا: الدور الخاص في قضية كوسوفا
• دعم حق تقرير المصير: أيد مطالب الشعب الألباني في كوسوفا بالحرية والعدالة، مع الدعوة إلى حلول سلمية تضمن الاستقرار الإقليمي.
• إدانة التطهير العرقي: الجامعة برئاسته أدانت سياسات النظام الصربي ضد الألبان، واعتبرت ذلك جريمة ضد الإنسانية.
• حشد الدعم العربي والإسلامي: سعى إلى تنسيق المواقف مع الدول الإسلامية والعربية لدعم كوسوفا في مواجهة السياسات الصربية.
• إبقاء القضية حيّة إعلاميًا: عمل على إبراز قضية كوسوفا في الخطاب العربي والإسلامي، حتى لا تُترك للنسيان الدولي.
ثالثًا: تقييم أثره
الأثر التحرك المجال
تعزيز التضامن العربي والإسلامي إدانة الانتهاكات البلقان عامة
إبقاء القضية على أجندة الجامعة دعم تقرير المصير كوسوفا خاصة
تسليط الضوء على حقوق المسلمين التنسيق مع الأمم المتحدة
يمكننا القول إنه على الرغم من أن جامعة الدول العربية لم تكن تملك أدوات تنفيذية قوية، فإن مواقف الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد ساعدت في إبقاء قضية كوسوفا ضمن الاهتمام الدولي والعربي، وأسهمت في توحيد الموقف العربي والإسلامي تجاه قضايا البلقان. لقد ترك إرثًا من الخطاب الدبلوماسي الداعم للقضايا الإنسانية، خاصة تلك التي تخص الشعوب المسلمة في مناطق النزاع، مما يجعله أحد أبرز الأصوات العربية في الدفاع عن العدالة الدولية خلال عقد التسعينيات.
“شهادات شخصية عن دعمه لقضية كوسوفا”.
بدأتُ علاقاتي مع جامعة الدول العربية في أوائل التسعينيات، حيث انضممتُ في عام 1993 إلى قسم الصحافة بالجامعة وشاركتُ في أنشطته المختلفة. وقد كان تركيزي في تلك المرحلة منصبًا على قضية كوسوفا، التي مثّلت إحدى أبرز القضايا الإنسانية والسياسية في البلقان. وفي هذا الإطار، أود أن أعبر عن امتناني العميق لجميع زملائي في هذه المؤسسة القيّمة الذين دعموا عملي وجهودي.
لقد أتيحت لي الفرصة للقاء العديد من السفراء والعاملين في الجامعة، وعقدتُ اجتماعات معهم لشرح أبعاد قضية كوسوفا على أعلى المستويات، وكان من بين هؤلاء اللقاء التاريخي مع الأمين العام للجامعة، سعادة الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد. هذا اللقاء وما تلاه من تواصل مستمر شكّل محطة مهمة في مسيرتي كممثل وسفير لقضية كوسوفا، حيث وجدت في شخصه دعمًا صادقًا لقضايا الشعوب المظلومة، وإيمانًا راسخًا بالقيم الإنسانية والعدالة الدولية.
واليوم، في ذكرى وفاته (21 ديسمبر 2013)، أكتب هذه الكلمات وفاءً وتقديرًا لما قدمه ليس فقط لشعوب العالم عامة، بل ولشعب كوسوفا خاصة، حيث ظل صوته حاضرًا في الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم الإنسانية. إن هذه الشهادة الشخصية لا تأتي في إطار الذكرى فحسب، بل تُبرز أيضًا الدور الدبلوماسي والإنساني الذي اضطلع به عبد المجيد في مرحلة دقيقة من تاريخ البلقان، مما يجعل سيرته جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الأكاديمية والسياسية المعاصرة.
الفصل السابع: بين المبدأ والواقع: خطاب أحمد عصمت عبد المجيد حول كوسوفا وتشكيل الموقف العربي في نظام عالمي متحول (1998-1999)
شَكَّلَت فترة تولي الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية (1991–2001) مرحلةً بالغةَ التعقيد في المشهدين العربي والدولي؛ حيث شهدت العالم تحولات جيوستراتيجية كبرى في أعقاب الحرب الباردة، وتصاعد ظاهرة “التدخل الإنساني”، وحروب تفكك يوغوسلافيا التي وضعت المبادئ والممارسات الدبلوماسية العربية على محك الاختبار. وفي خضم هذه العواصف، برز موقف الدكتور عبد المجيد من قضية كوسوفا (1998-1999) كحالة دراسية فريدة، تكشف عن تقاطعات عميقة بين الثوابت الدبلوماسية العربية التقليدية وبين متطلبات خطاب حقوقي دولي جديد. لم تكن تصريحاته، التي جاءت في ذروة أزمة التطهير العرقي الذي مارسه النظام الصربي بقيادة سلوبودان ميلوسيفيتش ضد الألبان، مجرد بيانات دبلوماسية روتينية، بل كانت محاولة لصوغ موقف عربي متماسك في قضية إنسانية ملحة، تتجادل حولها سيادات الدول ومبادئ عدم التدخل من جهة، ومسؤولية الحماية والضمير الإنساني من جهة أخرى. تُقدِّم هذه الاقتباسات الموثقة نافذةً لتحليل خطاب دبلوماسي حاول، بحذر وحكمة، أن يوفق بين الهوية الجماعية للعمل العربي المشترك وبين الانخراط في معضلة أوروبية-بلقانية شائكة، مما يطرح أسئلة جوهرية حول موقع القيم في السياسة الخارجية العربية، ودور الجامعة كفاعل في النظام الدولي.
الاقتباسات الموثقة والمنسوبة للدكتور أحمد عصمت عبد المجيد:
1. في الدعوة إلى تدخل دولي لحماية المدنيين:
> “لا يمكن أن يظل العالم متفرجًا على التطهير العرقي في كوسوفا، فالمطلوب تدخل دولي عاجل لحماية الأبرياء.”
2. في دعم حق تقرير المصير للشعب الألباني:
> “من حق شعب كوسوفا أن يقرر مصيره بحرية وعدالة، في إطار احترام القانون الدولي وضمان الاستقرار في المنطقة.”
3. في إبقاء القضية حية في الوعي الدولي:
> “لن نسمح أن تُترك قضية كوسوفا للنسيان، فهي قضية عدالة وكرامة إنسانية، وسنظل نرفع صوتنا بها في كل المحافل.”
التحليل النقدي: الأدبي والسياسي الدبلوماسي
أولاً: التحليل الأدبي والخطابي:
يُظْهِر خطاب الدكتور عبد المجيد براعةً لغوية ودبلوماسية عالية، تمزج بين الوضوح الأخلاقي والتحوط السياسي:
• لغة الطوارئ الأخلاقية: استخدام تعبيرات مثل “لا يمكن أن يظل العالم متفرجًا” و”تطهير عرقي” و “عاجل” ينقل إحساسًا بالخطر المحدق والاستثنائية الأخلاقية، مما يستحضر مشاعر الإلحاح والمسؤولية المشتركة. إنها لغة تخرج عن إطار الدبلوماسية الباردة لتتوجه مباشرة إلى الضمير العالمي.
• التوازن الدقيق في الصياغة: العبارة “تدخل دولي عاجل” تحمل دلالة هائلة. فهي لا تصف طبيعة التدخل (دبلوماسي، إنساني، عسكري)، مما يحفظ مرونة الموقف ويجنبه التورط في تبنّي العمل العسكري للناتو صراحةً، والذي كان مثيرًا للجدل في الساحة العربية. كما أن الربط في العبارة الثانية بين “حق تقرير المصير” و “احترام القانون الدولي” وضمان الاستقرار” يُظهر محاولة حثيثة لعدم تقديم الحق كقيمة مطلقة منفصلة عن سياقها الجيوسياسي، مما يعكس المنظور العربي الحريص على استقرار الدول وسيادتها.
• خطاب المقاومة الرمزية: تأكيده “لن نسمح أن تُترك… سنظل نرفع صوتنا” يصوِّر الجامعة العربية كحارس للذاكرة والضمير، وكفاعل فاعل في المشهد الدولي، ليس بقوة عسكرية أو اقتصادية، بل بقوة خطاب أخلاقي وحضاري. هذا يعطي للخطاب هويةً وجودية تتجاوز الحدث المحدد.
ثانيًا: التحليل السياسي الدبلوماسي العميق:
يمثل هذا الموقف حالة معقدة في الدبلوماسية العربية، ويستحق تحليلًا متعدد المستويات:
1. الانزياح عن السياق العربي التقليدي: جاء الموقف في وقت كانت فيه الأولوية العربية القصوى هي القضية الفلسطينية ومعارضة التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية (خاصة بعد حرب الخليج الثانية). دعم قضية انفصالية في دولة ذات سيادة (يوغوسلافيا) يشكل خروجًا ظاهريًا من مبدأ “حرمة الحدود” الذي التزمت به الجامعة. وهذا الانزياح يحتاج تفسيره إلى فهم استثنائية “التطهير العرقي” كجريمة ضد الإنسانية في الوعي العالمي الناشئ آنذاك، وربما رغبة الجامعة في تقديم نفسها كجزء من التيار الدولي الإنساني السائد.
2. الاستجابة للتحول في النظام الدولي: جاء الموقع في حقبة ساد فيها مفهوم “التدخل الإنساني”. خطاب عبد المجيد استوعب هذا التحول، لكنه صاغه بصيغة “تدخل دولي” (أي عبر الأمم المتحدة في المثال المثالي)، وليس تدخلًا أحاديًا أو أحادي الجانب. وهذا يعكس محاولة للتكيف مع المعايير الدولية الجديدة مع الحفاظ على شرعية العمل الجماعي متعدد الأطراف.
3. البعد الجيوسياسي والاستقطابي: لا يمكن فصل الموقف عن السياق الأوسع للعلاقات العربية-الغربية والعربية-الإسلامية. قد يكون هناك بعد استرضائي للغرب، خاصة أوروبا والولايات المتحدة، التي كانت تدفع بقوة للتدخل في كوسوفا. كما أن هناك بعدًا إسلاميًا ضمنيًا (كون أغلبية سكان كوسوفا من المسلمين) كان حاضرًا بقوة في الشارع العربي، مما فرض على الجامعة، كتمثيل رسمي، أن تعكس شيئًا من هذا التعاطف الشعبي، وإن بطريقة دبلوماسية محسوبة.
4. التناقضات والمسكوت عنه: يكمن التناقض الأكبر في الصمت النسبي، أو عدم القدرة على الفعل المماثل، تجاه انتهاكات مماثلة أو أشد وقعًا داخل العالم العربي نفسه (كالجزائر في التسعينيات، أو لاحقًا دارفور). هذا يطرح سؤالًا نقديًا حادًا: هل كان الموقف انعكاسًا لمبدأ إنساني ثابت، أم كان استجابة انتقائية لضغوط دولية ولقضية خارج الإطار العربي الذي تفرضه تعقيداته؟ كذلك، لم يتطرق الخطاب صراحة إلى دور حلف الناتو والتدخل العسكري الذي حدث لاحقًا دون تفويض أممي كامل، مما يدل على الحساسية الشديدة للموضوع.
ثالثًا: الأبعاد الواسعة النطاق:
• الدبلوماسية العربية بين الخصوصية والعالمية: جسَّد هذا الموقع محاولة لتأكيد “عالمية” الأمة العربية وانخراطها في هموم الإنسانية، محاولةً كسر الصورة النمطية عن انكفائها على همومها الخاصة. كان محاولة لقول: “العربي ليس طرفًا في النزاع البلقاني، لكنه حكَمٌ أخلاقي”.
• الجامعة العربية كمنصة للخطاب الأخلاقي: عندما تُفقد أدوات القوة المادية، تتحول المؤسسة إلى فاعل خطابي. لقد حاول عبد المجيد توظيف المنصب لصنع “قوة ناعمة” أخلاقية للجامعة، معيدًا تعريف دورها في فترة غياب التكامل السياسي أو العسكري الفعلي.
• سابقة لمبدأ “مسؤولية الحماية” (R2P): سبق هذا الخطاب التبني الرسمي لمبدأ “مسؤولية الحماية” في الأمم المتحدة (2005). فهو يمثل إرهاصًا عمليًا للمناقشات التي دارت لاحقًا حول توازن السيادة والمسؤولية، وإن جاء من موقع دبلوماسي إقليمي وليس من موقع القوة الفاعلة.
وأخيراً، تظل تصريحات الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد بشأن كوسوفا وثيقة دبلوماسية وإنسانية غنية بالدلالات. فهي لا تسجل فقط موقفًا عربيًا في لحظة حرجة، بل تكشف عن المخاض العسير للدبلوماسية العربية الجماعية وهي تحاول تشكيل هوية لها في نظام عالمي جديد كان يفرض معاييره بقوة. لقد نجح الخطاب، من منظور أدبي وخطابي، في صياغة موقف أخلاقي رفيع، متوازن، ومحترم، يليق بمنصب الأمين العام لأكبر منظمة إقليمية. لكنه، من منظور تحليل سياسي نقدي، يفضح أيضًا الهامش الضيق الذي تتحرك فيه الدبلوماسية العربية بين ضغوط الواقع الجيوسياسي ومعضلات السيادة، وبين نداء الضمير الإنساني والرغبة في الاندماج في التيار الدولي. إنها شهادة على زمن كان فيه “رفع الصوت” في المحافل الدولية هو أحد الأدوات القليلة المتاحة، وعلى التحدي الدائم المتمثل في تحويل الخطاب الأخلاقي المقنع إلى سياسة فعلية متناسقة ومبادئية عبر جميع الملفات. بذلك، تقدم هذه الاقتباسات ليس فقط صفحة من تاريخ الجامعة العربية، بل أيضًا مادة ثرية لفهم إمكانات وحدود الفعل الدبلوماسي الأخلاقي في العلاقات الدولية.
الفصل الثامن: بين الذاكرة والتاريخ: قراءة نقدية في سرديات الدبلوماسي عصمت عبد المجيد
يُعد كتاب “مذكرات عصمت عبد المجيد” وثيقة تاريخية وسيرة ذاتية متشابكة مع تحولات مصر والعالم العربي عبر نصف قرن من الزمن. يمثل العمل شهادة حية لدبلوماسي عايش أحداثًا كبرى، من الحقبة الملكية مرورًا بثورة يوليو 1952، وحرب 1967، وانتصار أكتوبر 1973، وصولًا إلى مراحل لاحقة من العمل الدبلوماسي والسياسي. لا يكتفي الكتاب بتسجيل الأحداث، بل يطرح رؤية نقدية وتحليلية لتلك المراحل، مما يجعله نصًا أدبيًا وسياسيًا مزدوج الأهمية. يحمل الكتاب عنوانًا فرعياً يُلمح إلى “زمن الاكسار والانتصار”، وهو ما يعكس ثنائية الهزيمة والنصر التي طبعت تاريخ مصر الحديث.
التحليل الأدبي والنقدي
1. البنية السردية والأسلوب
يتميز الكتاب ببنية سردية تجمع بين التسلسل الزمني والموضوعي، حيث يقسم الفصول وفقًا للمراحل التاريخية الكبرى. يستخدم عبد المجيد أسلوبًا سرديًا راقيًا، يجمع بين لغة السياسي الدقيقة ولغة الأدبي المشبع بالعاطفة الوطنية. السرد لا يخلو من لحظات شعرية، خاصة عند وصف الإسكندرية وذكريات الطفولة، مما يضفي على النص بعدًا إنسانيًا عميقًا.
2. الذاكرة كأداة تفسيرية
الكتاب ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو محاولة لفهمها وتفسيرها من خلال منظور المشارك والشاهد. يسترجع عبد المجيد ذكرياته الشخصية والعائلية (مثل قصة والده مع الملك فاروق) ليربط بين التجربة الفردية والتحولات الجماعية، مما يمنح التاريخ بعدًا شخصيًا مؤثرًا.
3. التوثيق والتحليل السياسي
يقدم الكتاب تحليلات دقيقة لمراحل مفصلية مثل مفاوضات الجلاء عن السويس، وأزمة السويس 1956، وحرب 1967، وخطوات الإعداد لحرب أكتوبر 1973. يبرز عبد المجيد دور الدبلوماسية الخفية والمفاوضات السرية، ويكشف عن تفاصيل غير معروفة، مثل دور السفير عبدالفتاح عمرو أثناء ثورة يوليو.
4. الرؤية النقدية للذات والآخر
لا يتردد الكاتب في نقد الأخطاء الداخلية، سواء على المستوى الشخصي (كقراءته الخاطئة لموقف السفير عمرو) أو على مستوى القيادة (كأخطاء حسابات 1967). كما يقدم قراءة نقدية للعلاقات الدولية، خاصة مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، مُظهرًا تعقيدات الصراع بين السيادة الوطنية والمصالح الاستعمارية.
5. الهوية والانتماء
يبرز الكتاب بشكل قوي قضية الهوية المصرية والعربية، من خلال استحضار تاريخ الإسكندرية كرمز للتعدد الحضاري، والتأكيد على الانتماء العربي لمصر ودورها القيادي في العالم العربي. كما يُظهر التزام عبد المجيد بالقضية الفلسطينية ودعم حركات التحرر في الجزائر واليمن وغيرهما.
تقييم أثر الكتاب
على المستوى الفكري والأدبي:
• يُمثل الكتاب نموذجًا للسيرة الذاتية السياسية التي ترفع مستوى الحوار حول التاريخ والذاكرة.
• يقدم مادة أدبية غنية بالوصف والتأمل، تجعل من السياسي نصًا أدبيًا يُقرأ بتأنٍ.
على المستوى الثقافي والعلمي:
• يُعد مرجعًا مهمًا للباحثين في تاريخ مصر الحديث والعلاقات الدولية والدبلوماسية.
• يوثق لمرحلة تحول كبرى في المنطقة، مما يجعله وثيقة ثقافية تحفظ الذاكرة الجمعية.
على المستوى السياسي والدبلوماسي:
• يكشف عن آليات العمل الدبلوماسي وطبيعة المفاوضات السرية والعلاقات الدولية.
• يقدم دروسًا في “فن التفاوض” وإدارة الأزمات، كما يظهر في حديثه عن مفاوضات الجلاء وطابا.
• يُظهر دور الدبلوماسية المصرية كأداة كفاح وطني ووسيلة لتحقيق الأهداف السياسية.
“مذكرات عصمت عبد المجيد” ليست مجرد ذكريات شخصية، بل هي سجل حي لتاريخ مصر والعرب في لحظات تحول مصيرية. يجمع الكتاب بين عمق التحليل السياسي وصدق التجربة الإنسانية، مما يجعله عملًا أدبيًا وتاريخيًا يستحق القراءة والدراسة. يظل عبد المجيد من خلال هذا الكتاب دبلوماسيًا حتى في سرده، يحاول بناء جسور بين الماضي والحاضر، وبين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية. كتابه هو إرث فكري وسياسي يضيء زوايا خفية من تاريخنا، ويقدم نموذجًا للشهادة الصادقة التي تبحث عن الحقيقة بموضوعية وأمانة.
تقييم نقدي ختامي:
يُعد هذا الكتاب إضافة نوعية للأدب السياسي العربي، يفتح نافذة على عالم الدبلوماسية من الداخل، ويرفع سقف الحوار حول التاريخ والهوية والسيادة. رغم أنه يكتب من منظور النخبة، إلا أنه يحاول أن يكون صوتًا للشعب وللتاريخ، مما يجعله وثيقة تستحق الحفظ والتدبر.
الفصل الثامن: بين الوثيقة التاريخية والخطاب القومي: قراءة نقدية في سردية عصمت عبد المجيد
يُعد كتاب “مواقف وتحديات في العالم العربي” للدكتور عصمت عبد المجيد، الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، عملاً هجيناً يجمع بين السيرة الذاتية والتوثيق التاريخي والتحليل السياسي والدبلوماسي. يمثل الكتاب شهادة حية من قلب الأحداث العربية الكبرى في تسعينيات القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، حيث تولى المؤلف منصب الأمين العام للجامعة العربية (1991-2001)، وهي فترة شهدت تحولات جذرية في النظام الإقليمي العربي والدولي.
لا ينحصر هذا العمل في كونه مذكرات شخصية فحسب، بل هو محاولة لقراءة الواقع العربي من منظور قيادي عايش الأزمات وحاول إدارتها. يقدم الكتاب مادة ثرية لفهم الديناميات الداخلية للعمل العربي المشترك، والعلاقات العربية-العربية، والتحديات التي واجهت الجامعة العربية ككيان إقليمي في ظل نظام عالمي متحول.
التحليل النقدي
1. البناء الهيكلي والأسلوب السردي
يتخذ الكتاب شكلاً زمنياً-موضوعياً، حيث ينتقل من الفصول العامة (الخواطر والآراء) إلى معالجة أزمات محددة (أزمة الخليج الثانية، أزمة لوكربي، القضية الفلسطينية، المبادرة العربية للسلام). هذا الهيكل يعكس محاولة المؤلف الجمع بين التأمل النظري والتطبيق العملي.
يتميز الأسلوب بلغة رسمية دبلوماسية، لكنها تتحول أحياناً إلى لغة حماسية وخطابية، خاصة عند الحديث عن القضايا القومية أو عند الرد على الهجمات الإعلامية. نلاحظ أيضاً حضور الوثائق الرسمية (القرارات، الرسائل، الخطابات) التي تندمج مع السرد، مما يعطي الكتاب طابعاً وثائقياً يؤكد مصداقية الرواية.
2. الرؤية الفكرية والسياسية
يقدم عبد المجيد رؤية قومية عربية تجديدية، تؤمن بدور الجامعة العربية كـ”بيت العرب” وكمؤسسة لا غنى عنها رغم كل السلبيات. يتمحور خطابه حول عدة مفاهيم مركزية:
• المصالحة العربية: كآلية لمعالجة الخلافات الداخلية وترميم الثقة.
• التضامن كخيار استراتيجي: في مواجهة التحديات الخارجية.
• السلام العادل والشامل: كهدف لا يتناقض مع الحقوق العربية.
• الوحدة في إطار التنوع: والدعوة للتعاون الاقتصادي والتكامل التدريجي.
غير أن النقد الذي يمكن توجيهه هنا هو أن الرؤية تظل في إطار الخطاب الرسمي العربي التقليدي إلى حد كبير، مع تركيز على دور النخب السياسية والدبلوماسية، وقليل من النقاش الجريء حول الإصلاح الداخلي أو الديمقراطية في العالم العربي.
3. التحليل الدبلوماسي وإدارة الأزمات
يُعد الكتاب مرجعاً مهماً لفن الدبلوماسية العربية في أوقات الأزمات. يقدم المؤلف تفاصيل دقيقة عن:
• أزمة الخليج الثانية: ويسلط الضوء على الجدل القانوني والسياسي داخل الجامعة العربية، وجهوده الشخصية في المصالحة بين العراق والكويت، والمراسلات مع صدام حسين.
• أزمة لوكربي: ودور الجامعة في البحث عن حل سياسي، والتأثير على الموقفين الأمريكي والبريطاني.
• المبادرة العربية للسلام (2002): التي يرى فيها نقطة تحول في الموقف العربي الجماعي.
يكشف النص عن التوتر بين الدبلوماسية الهادئة والمواقف الصلبة، كما في رد المؤلف على النائبة الفرنسية في مرسيليا دفاعاً عن صورة المرأة المسلمة والإسلام.
4. الأبعاد الثقافية والفكرية
يتطرق الكتاب إلى قضايا الهوية الثقافية في عصر العولمة، ويدعو إلى حوار الحضارات بدلاً من صدامها. كما يبرز دور اللغة العربية كوعاء للهوية، ويذكر جهود المؤلف في إدخالها كلغة رسمية في الأمم المتحدة.
غير أن الجانب الثقافي يظل هامشياً نسبياً أمام السياق السياسي والأمني المسيطر على معظم فصول الكتاب.
5. تقييم الأثر على الحياة الفكرية والسياسية
• أدبياً: يُعد الكتاب إضافة إلى أدب المذكرات السياسية العربية، وإن غلب عليه الطابع الوثائقي على حساب العمق الأدبي أو التحليلي النفسي.
• فكرياً: يساهم في إثراء النقاش حول مستقبل العمل العربي المشترك، وإن كان يفتقر إلى النقد الذاتي الجذري للمؤسسات العربية.
• سياسياً ودبلوماسياً: يقدم درساً في “الدبلوماسية الوقائية” وإدارة الخلافات داخل الإطار العربي، ويكشف عن التعقيدات التي تواجه أي أمين عام للجامعة العربية بين الولاء للقضايا القومية وضغوط الدول الأعضاء.
• تاريخياً: يُعد وثيقة أولية مهمة لتاريخ فترة حرجة من تاريخ العرب، ستكون مصدراً للمؤرخين والباحثين في العلاقات الدولية.
نقول إن كتاب “مواقف وتحديات في العالم العربي” هو أكثر من مجرد سيرة ذاتية؛ هو محاولة لتأريخ مرحلة وتقديم رؤية لقيادة عربية في زمن التحولات. يُقدّم المؤلف شهادة صريحة وواثقة، تدافع عن خياراته وتوضح منطقها الدبلوماسي والسياسي.
رغم أن الكتاب يظل سجلاً لرؤية النخبة الحاكمة، ويخلو من النقد الجذري للأنظمة العربية ذاتها، إلا أنه يظل وثيقة قيمة لفهم آلية صنع القرار العربي الجماعي، والتحديات التي تعترضه. يُعد عصمت عبد المجيد من خلال هذا الكتاب صوتاً من داخل المؤسسة العربية، يحاول أن يوفق بين واقع التشرذم وحلم التكامل، بين ضغوط الدول الكبرى والاستقلال القومي، وبين لغة الدبلوماسية ولغة الشارع العربي.
في النهاية، يُقدم الكتاب دعوة ضمنية للقارئ العربي لفهم تعقيدات المرحلة، والاعتراف بأخطاء الماضي، والسعي نحو مستقبل يقوم على “المصالحة” و”التضامن” و”العمل بروح الفريق” – مفردات ترددت كثيراً في ثناياه، وكأنها خلاصة الخبرة الطويلة لرجل قضى حياته في خدمة الفكرة العربية.
خاتمة
تُبرز هذه الدراسة، من خلال تتبّعها لمسار الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد الفكري والدبلوماسي، أن الرجل لم يكن مجرّد شاهد على تحولات عصره، بل كان فاعلًا واعيًا حاول – ضمن هوامش شديدة الضيق – أن يعيد للعقلانية القانونية مكانتها في إدارة العلاقات الدولية العربية. لقد مثّل نموذجًا نادرًا للمسؤول الذي لم يفصل بين الأخلاق والسياسة، ولا بين القانون والواقعية، بل سعى إلى تحقيق توازن دقيق بينهما، إدراكًا منه أن غياب هذا التوازن هو أحد أسباب هشاشة النظام العربي.
ويكشف تحليل مواقفه من قضايا البلقان، ولا سيما كوسوفا، عن تحوّل مهم في الخطاب الدبلوماسي العربي الرسمي خلال التسعينيات؛ إذ انتقل – ولو جزئيًا – من التركيز الحصري على القضايا العربية التقليدية إلى تبنّي خطاب إنساني ذي بعد عالمي. لقد مثّلت كوسوفا، في هذا السياق، اختبارًا أخلاقيًا وسياسيًا للجامعة العربية، حيث حاول عبد المجيد أن يجعل منها منصة للدفاع عن حقوق الإنسان، دون السقوط في فخ التماهي الكامل مع التدخلات العسكرية أو الإملاءات الغربية. وبهذا المعنى، فإن موقفه لم يكن ثوريًا بقدر ما كان إصلاحيًا حذرًا، يعكس إدراكًا عميقًا لتعقيدات النظام الدولي.
غير أن هذه الدراسة لا تغفل حدود هذا الدور؛ فالدبلوماسية التي قادها عبد المجيد ظلت محكومة بضعف البنية المؤسسية العربية، وبانقسامات الدول الأعضاء، وبغياب أدوات القوة الصلبة. ومن هنا، فإن خطابه الأخلاقي، رغم اتزانه وسموّه، لم يُترجم دائمًا إلى نتائج ملموسة على الأرض، وهو ما يسلّط الضوء على المعضلة البنيوية للعمل العربي المشترك: وفرة الخطاب مقابل ندرة الفعل. كما يثير هذا الواقع تساؤلات نقدية حول الانتقائية في تطبيق المبادئ الإنسانية، وحول صمت الجامعة – أو عجزها – عن قضايا مماثلة داخل الفضاء العربي نفسه.
على المستوى الفكري، تُظهر كتابات ومذكرات أحمد عصمت عبد المجيد أنه كان مدركًا لهذه الإشكاليات، وأنه حاول، من داخل المؤسسة، الدفاع عن فكرة المصالحة، والتوافق، والدبلوماسية الوقائية بوصفها البديل العقلاني عن الصدام. وبذلك، فإن إرثه لا يكمن فقط في القرارات التي اتخذها، بل في المنهج الذي دعا إليه: منهج يُعلي من شأن القانون، ويُقدّم التفاوض على المواجهة، ويعتبر أن الشرعية الدولية، رغم عيوبها، تظل ساحة لا غنى عنها للدفاع عن الحقوق.
ختامًا، يمكن القول إن تجربة الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد تمثل مرآةً صادقة لأزمة الدبلوماسية العربية الحديثة: أزمة بين الطموح والقدرة، وبين المبدأ والواقع. لكنها في الوقت ذاته تقدم درسًا بالغ الأهمية للأجيال الجديدة من الباحثين والدبلوماسيين، مفاده أن الحفاظ على صوت العقل والضمير في زمن الفوضى ليس فعلًا هامشيًا، بل هو شرطٌ أساسي لبقاء الفكرة العربية ذاتها في عالم سريع التحول. ومن هنا، فإن إعادة قراءة هذه التجربة ليست استعادةً للماضي فحسب، بل هي محاولة لفهم الحاضر، واستشراف مسارات أكثر نضجًا وفاعلية للدبلوماسية العربية في المستقبل.
كاتب الدراسة:
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]



















