متعبٌ وجه الوطن بين الحقيقة والمجاز
للعنوان دلالة واضحة على ما يحتويه الديوان، لأنه يثير توقعات المتلقي ولايجهده في معرفة ما بداخل الديوان، ويربط القصائد بعضها ببعض لتصبح كالحلقة الواحدة، وكلما كان العنوان مختصرًا، كانت قوته أعمق. والشعر المعاصر تجاوز المتن الشعري بمراحل، وصارت حلقته أوسع، بداية من العنوان أوما يسمى (عتبات النص) لأنها جعلت الديوان وحدة واحدة أو وحدة موضوعية بلغة البلاغيين؛ فصار الديوان كلوحة فنية، لها مفاتيح وضعت على العتبات، ولا سبيل للدخول سوى بفتح معاليق الديوان من خلال المفاتيح، وكأنها باب يتوصل منه إلى غيره، للوصول إلى المراد. ولأن الشعر في الأساس مبني على المجاز الذي هو: نقل المعنى الأصلي إلى معنى خيالي مناسب له، والشعر مبني على ذلك، لكننا في ديوان (متعب وجه الوطن) نجد الحقيقة امتزجت بالخيال، فلا حقيقة ولا خيال، ولا خيال ولا حقيقة، إنما واقع مرير هو واقع لبنان. والشاعر الحقيقي هو مرآة عصره ومجتمعه أوتي من اللغة والإحساس والرهافة والإلهام ما يجعله يعبر عما يراه، فإنه إذًا صيرورة العصر وضميره الحي، والرقيب الذي لا ينام ولا يعرف الجور، هو القاضي العدل، والسلطان الحكيم. والشاعرة هنا تفصح عما يفصح عنه الجميع لكن بصورة أدبية ولغة عذبه وتصوير بديع وايجاز بليغ وإحساس مرهف وهذا هو الشعر: إفصاح وتطهير، ونوع من (التنفيس) أو كما يقال “إنه البديل للانتحار في زمن كل ما فيه يبعث على القلق”:
أَأُفصحُ أم أموتُ بِما أعانِي
وَأَمضِـي بيـن تيـار الزمانِ
وَفِـي قلبي أناشيد عِـذابٌ
وفي الـوجدان أبـكار المعانِي
الشعر حالة وجدانية امتزج فيها الواقع بالخيال والعام بالخاص، لكنه في النهاية ذاتي بامتياز لأنه يترجم خفقات القلب، ويصور ما يراه من حسن، هو حالة من الأنس في الزمن النحس:
يَا شعرُ أنتَ الأُنس
في دنيا الشقاء الغامرِ
أنتَ الحياةُ وروحها
السـارِي بكون دائـرِ
في ديوان (متعب وجه الوطن) كل ما سبق، فكّون الديوان لوحة فنية غنية بالمشاهد وبالعام، وبالخاص، ولأن الشاعرة مهندسة، ودرست الفنون الجميلة، فهي إذًا فنانة بروح شاعرة، وشاعرة بروح فنانة، والشعر أبو الفنون من ملكه ملك الفن كله، والجمال كله، واللغة كلها، والشاعر فنان يقتنص روح المعاني ويرسم لوحته بلغته العذبه الندية المرفرفة المحلقة؛ ليصنع بقلمة وشعره لوحة تسر الناظرين.
في ديوان (متعب وجه الوطن) امتزجت الحقيقة بالخيال، وإن صح التعبير فالبلوى هي السبب، وهي الأساس فهي التي فجرت على لسانها الإبداع ، وجعلت قلمها متعب:
كَوَجه لبنان الحزين
متعبٌ وجهي أنا
متعبٌ وجه الوطن.
إنه مزج بين الحقيقة والخيال، والخيال أعمق لدى الشعر، وفي حالة لبنان صار الواقع أشد درامية من الخيال، وصار المتلقي في حيرة، هل وجهها هو المتعب أو وجه لبنان، انها الحقيقة التي تكون احيانا أقوى من أي خيال:
ضَاع مِني كل شيء
فِي مَتَاهات الزمَن
إنه ضياع الوطن
في صوت يبعث على الألم، ويحرك الصورة الشعرية حركة خفيفة دون أن تفقد المتلقي وعيه، لتجعله يدخل إلى عالم الوجع دون أن يفقد اتزانه، رغم الألم. إنه صوت الضياع الباعث على استنهاض الهمم، فالدخول في هذا العالم المرعب، ليس المقصود منه سوى دفع المتلقي إلى تحطيم الخوف والدعوة للبناء:
فَلا مَجَال للأمانِي
وَالأَمانِي والعَطَايا
لا تجر سوى الشجن
(متعبٌ وجه الوطن)، لوحة فنية حوت كل شيء، خاصة فيما يتعلق بلبنان، بداية من تفجير مرفأ بيروت، والانهيار الاقتصادي والبطالة، وتدني الأخلاق، وانهيار المجتمع، وهو فعل طبيعي بسبب عامل الاقتصاد، وتحول النهار إلى ليل. إنه الشعر المعبر والمصور لوضع مأزوم، تدخل الشاعرة فيه دون إذن مسبق لتجد لبنان بلا دواء ولا كهرباء في عصر الفضاء الذي نسمع فيه من أقاصي الشرق الهمس والنداء ونبصر الأحداث فور وقوعها عبر الفضاء صارت للأسف لبنان:
الـدواء بِـلَا دواء
والطابُور بِلا انتهاء
وكَأنَّما عَصر البلاء
عَاد يأجُوج ومأجوج
دونمـا أدنى حـياء
في تناص مع قوله تعالى [حتَّىٰ إِذَا فُتِحَتْ يَأجُوجُ ومَأجُوجُ وَهُم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ] واستدعاء لعلامة من علامات الساعة، ويأجوج ومأجوج من تأجج الشيء أي زاد عن حده وطغى وأصلها من النار التي تغلي وتفور وتأجج، وهي مجاز عن كثرة التجاوزات والفجور والظلم والطغيان، وكأن ما يحدث في لبنان بداية قيامة، إما أن يفيق الشعب أو يضيع، ويستسلم ليأجوج مأجوج. (متعبٌ وجه الوطن)، صرخة شاعرة في وجه الواقع لعله يتغير ويعود إلى رشده ويقدم العام على الخاص، وإذا كانت وظيفة الشعر الإمتاع، فليس معنى ذلك أنه يخلو من حمل القضايا والتعبير عنها، فالشعر فكر وقضية أيضًا إلى جانب الإمتاع لاسيما إذا استدعى الأمر ذلك. ومن هنا كانت الشاعرة في ديوانها تحمل قضية وطنها وأمتها، وترجع ضياع لبنان إلى تخلي العرب عنها، وتنادي على الأمة تستنهضها:
يَا أُمـتـي ضَاعَ الوطَن
وغدت شريعتهع َلىٰ كَفِ الوثن
وَالشعب يفترش الرصيف
عَلىٰ مَحطاتِ الوهن
وهي لا تلقي باللوم على الأمة التي تخلت فقط عن لبنان، بل أيضًا تستحضر الفساد، فهو المحرك الأساسي للخراب، وهو السبب في انبعاث روح الطائفية، والشاعرة تستدعي رائحة لبنان التي تشتاق إليها وتحن، وتشتاق لأغانيها الجميلة، ولصوت فيروز:
كنت متوج بالآخضر
خبرني ليش مغير؟
وين زهرك؟
وين سحرك؟ خبرني وين الكانوا احراش صنوبر
شو قولك صاروا ذكرى
ما في أقسى من انك تقعد تتذكر
متعب وجه الوطن) شاعرية مفعمة بالألم والإبداع وهذا هو الشعر يجوب أنحاء الوجود على جناح طائر ويصور ما يراه، ويفتح للناس الطريق قبل فوات الآوان، هو نورهم في الدياجي، وعاصمهم إذا انتكس وارتكس الشعور، ولأن الشعر من وظائفة أنه يبعث على الأمل، ويحمل مشعل الأجمل والأعدل، لم تنس الشاعرة في رحلتها الماتعة، وديوانها العابق، أن تبث روح الأمل من خلال نصوص:
- لو نلتقي .
- الصبح أقبل.
-إلى ابنتي تالا. - ما زلت أنتظر اللقاء.
وكأنها تقول رغم الألم هناك أمل وثم طوق للنجاة. (متعب وجه الوطن)، مزيح من الحقيقة والمجاز، الألم والأمل، الموت والحياة، الحرب والسلام، المتعة والشجن، أستطيع أن أكتب عشرات الصفحات في هذا الديوان الماتع لغة وجمالًا، لكنني أترك المتلقي كي يغوص هو بنفسه ليخرج المحار من جوف البحار. في النهاية أتمنى للشاعرة أن تكمل المسيرة وتخلص للشعر وتمتع القارئ العربي بشعرها العذب وحرفها الأنيق، وهي تردد مع الشاعر الكبير صان الدين:
تَرددَ بأسـمَاع الزمَــانِ رخِيـمَا
ورفـرف عَلىٰ وجـه الحـياة َنسِـيمَا
وَطـَوف بِأفاقِ الـوجُود مـُـصـورًا
وتَرجــم أحاسِيس القلُوب نظيمَا
ولـــوّح بِرايـات السلَام عَلىٰ الورىٰ
وكُن لِي صَديقًا في الحياة حميمَا
ـ*أحراش صنوبر :المكان الذي تنبت فيه أشجار الصنوبر
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي