حرب الباسوس
الصعيد، ذلك الجزء المنسي في زحمة العاصمة، والعمل الذي لا ينتهي، لكن جيناته تجري في دمي، وأحمل عناده وإصراره على البقاء، ولدت في العاصمة وأتحدث لهجتها، لكني صعيدي الطباع و التفكير، وأظن أنه آن الآوان لزيارته.
نظر المدير إلى عيني الزائغتين، فوافق على الإجازة، وأمرني أن أخبر زميلي محمود بأن يرافق الفوج البريطاني خلال فترة إجازتي، فوائد قوم عند قوم مصائب، حتمًا ذلك سيشكل عبئًا عليه، وسوف يسب ويلعن طوال الخمسة أيام المقبلة حتى أعود.
آه…! إجازة … خمسة أيام مدة لا بأس بها، يوم للذهاب، ويوم للعودة، وثلاثة أيام للراحة والاستجمام تحت أشعة شمس الصعيد الدافئة شتاء، واستنشاق الهواء النقي، والتمتع بدفء الأسرة الكبيرة، والحكايات والحواديت، وأساطير الجنوب التي لا تنتهي.
فضلت الباص على القطار، كوني أحب الهدوء وأتجنب الضوضاء، لكن للأسف مقعدي كان على الممر في منتصف الباص، لم يكن في وسعي التأجيل حتى أحصل على ما أريد، عامة لايوجد ما يرى سوى الرمال على الجانبين.
الجالس إلى جواري ما إن تحرك الباص حتى شرع في سيمفونية عزف منفردة شاذة النغم، وضعت سماعة الموبايل في أذني وبدأت أستمع إلى الأغاني التي قمت بتحميلها سلفًا، وللمصادفة كانت أولى الأغاني أغنية (Roar) أي زئير للمغنية “كايتي بيري”، والتي كانت تناسب اللحن الذي يعزفه ذلك النائم.
بدأ عرض الفيلم في الشاشات المثبتة على الجانبين، ويبدو أن الفيلم كان شيقًا، فطلب أحد الجالسين في الخلف من السائق أن يرفع الصوت، فامتثل، فاعترض بعض الجالسين في الأمام الذين فضلوا النوم، وكان من بين المعترضين الجالس بجواري الذي أيقظه صوت إطلاق النار في الفيلم.
فامتثل السائق، وقام بخفض الصوت، فعاد الشخص نفسه الجالس في الخلف واعترض، لكن هذه المرة تولى مؤونة الرد عن السائق الراكب الجالس خلفه بعد تحفيز الباسوس –الجالسة بجواره- له وتحميسها إياه، لقد أثارت فيه نخوة جساس، فقام للدفاع عن حقوق الشاعرين بالنعاس في الصفوف الأمامية، وقال بنبرات يملؤها اليقين:
- هذا باص، وليس سينما، نريد أن ننام.
فرد المدافع عن حقوق المؤرقين في الصفوف الخلفية: - نعم، هذا باص لكنه ليس لوكاندة للنوم أيضًا.
فضحك الناس……………،
هنا قام الجالس بجواري ليلعب دور هرم بن سنان ليتدارك الأمر، فقال بهدوء: - ليس سينما ولا لوكاندة، لكن يا اخوانا الوقت ليلاً ونريد أن نستريح قليلاً، وعلينا مراعاة مشاعر بعضنا بعضا، ثم توجه إلى السائق بالحديث:
- يا اسطى اجعل الصوت بين بين!!
فامتثل السائق وعاد الناس إلى الجلوس، لكن جساسًا لم ينس شعوره بالإهانة عندما ضحك عليه الناس، نظرت إليه الباسوس نظرة تحريض، فصرخ في السائق: - مازال الصوت مرتفعًا، فلتطفئ هذا المخروب، أنا سوف أجعل الباص لوكاندة ومن لا يعجبه فليشرب من البحر.
فأغاظت تلك الكلمات الزير سالم المدافع عن حقوق المؤرقين، وبدا في الأفق شبح حرب الباسوس، فتبادلا السباب، وتناوبا سب الأب والأم، وتشكلت الأحلاف، فلكلٍ منهم قريب بالباص، ذلك فضلاً عن الذين انضموا لهذا أو ذاك بناء على المصلحة و الهوى، وعجز الجالس بجواري هذه المرة عن لعب دور هرم بن سنان في غياب الحارث بن عوف، والسائق لا يدري أيلتفت إلى الطريق، أم يوقف الباص، أم يقوم، أم يجلس ويتجاهل ما يحدث.
فكان جساس يدافع عن كرامته التي أريقت عندما ضحك عليه الناس، وأبى الزير سالم إلا أن يثأر من استهزاء جساس به، وكان كل فريق يهاوش ويناوش الآخر على سبيل جس النبض، ثم بدأ إلقاء الأسلحة من بيض وفاكهة وخلافه، وقف هرم بن سنان مندهشًا لايدري ماذا يفعل، مرة يتحدث إلى فريق جساس يطلب منهم الصلاة على النبي، يصلون على النبي ويواصلون العراك، ثم يوجه حديثه إلى فريق الزير سالم، يصلون على النبي أيضًا وهم يلقون بما لديهم من أسلحة.
وأنا مستمتع بعالم الأغاني الذي أعيش فيه، أعشق صوت ريحانه جدًا، وإحساسها في أغنية (Russian roulette) وفي لحظة الضغط على الزناد قام أحد جنود جيش جساس باستهداف هرم بن سنان ليسكته، لكن يبدوا أنه مصاب بالحول، فقذيفته أدمت جبهتي، وبدأت قطرات من دمي تتساقط، فهدأوا وتوقف القتال.
والتف الفريقان حولي وأنا أشعر بدوار من أثر قذيفة الأحول، وضعتْ يد رقيقة منديلاً على الجرح، وقالت: أنا طبيبة، ضع يدك على المنديل حتى أعود لك بالمطهر واللصقة الطبية، فتطوع هرم بن سنان بالمهمة فوضع يده على المنديل لكن يده لم تكن تلك اليد البشرية التي نعرفها، بل كانت خف جمل بالمعنى الحرفي للكلمة.
صوتها لم يكن يحمل لهجة صعيدية كان صوتًا أنثويًّا رقيقًا، لم أتبين ملامحها، فالمنديل يغطي جبهتي وعيني، وأريج عطرها الآخاذ أسكرني وزادني دوارًا، لكني خفت أن يكون عطر “منشم” الذي يسبق التناحر، بعد دقائق عادت وعاد الأريج، أخذت تزيل آثار الدماء عن جبهتي وعيني، حاولت أن أرفع رأسي لأراها لكن خف الجمل الذي مازال على رأسي منعني الحركة، قال صاحب الخف للطبيبة: - ما رأيك ؟ هل سيعيش
هنا تدخلت وأنا أزيح يده عن رأسي: - أعتقد أنني سأعيش، لكن إن أزحت هذا الخف/اليد عن رأسي
فابتسمت، وقالت: - الجرح سطحي، ستتكفل اللصقة الطبية بالأمر، وعامة لم نسمع عن أحد مات جراء ضربة ببيضة مسلوقة.
رفعت عيني لآراها، ويا ليتني لم أفعل، أبصرت القمر بوجهه الذي ينير الظلام، وزرقة عينيها التي فاقت عيون “كايتي بيري” جمالاً، أعطتني حبة مسكن وتطوع هرم بن سنان بالماء، وبعد أن أنزلت زجاجة المياه عن فمي كانت قد ذهبت، ذهبت بعد أن داوت جرح رأسي، وتركت جرحًا في قلبي، سألت هرم بن سنان: - أين ذهبت؟
- استرح أنت مصاب.
- إذن هل حرزت سلاح الجريمة؟
- نعم، لكنني أكلته!
- أي نوع من البيض هذا؟
- بيض بح.
- هااا؟!
- بط يعني، بيضة بط مسلوقة.
وتفرق الناس بعد أن تعاتبوا وتراضوا، ولم يفت هرم بن سنان طبعًا أن يلقي بعضًا من حكمه، وجمله الرصينة ليتصدر المشهد: - هل يعقل هذا؟! أنتقاتل من أجل فيلم؟!، الرجل أصيب ولم يكن له دخل بالموضوع.
لكن أحًدا لم يلق له بالأ، فجذبته من ذراعه لأجلسه وأسأله: - ما الذي أتى بك إلى هنا، لماذا تركت حرب داعس والغبراء دائرة وأتيت؟!
جلس وهو لا يفهم، أطفأ السائق الأنوار والشاشات، فأملت رأسي إلى الوراء وأغمضت عيني.
لم أنتبه إلا وهرم بن سنان يوقظني:
- قم يا جريح! وصلنا آخر الخط … وصلنا قنا
- ماذا؟! قنا، هل نمت إلى هذا الحد، أين زرقاء؟!
- نعم هاااه! آه… لقد نمت حتى أنني لم أستطع النوم من شخيرك.
بحثت عنها وسط المغادرين، تفحصت الوجوه لعلي أرى زرقاء اليمامة التي طببت جرحي، لكني لم أوفق، فغادرت الباص و “جلوريا جينور” تردد:
Kept trying hard to mend the pieces of my broken heart.
ومضت أيام الإجازة وأنا أحاول بجهد لملة قطع قلبي المحطم، على أية حال سوف أنجو، ثم عدت إلى القاهرة وأنا بين الضحك على ماحدث في الباص، وألم الجرح الغائر في قلبي، وفي يدي منديل زرقاء اليمامة الملطخ بدمي.
تمت
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي