✍️
✍️تأملات في قصيدة :«لستَ بريئاً»؛للشاعرة :ناهدة شبيب
بقلم:محمد سلطان الأمير.
-النص:-
أموتُ ولا أبريكَ……. إنك قاتلي
ولو حكّموني فيك ماكنت أرحم
…..
واشكو إلى مولاي فيك مصيبتي
فلا كنت أفشيها ولا هي تُكتَم ُ
…..
فإن فاض دمعي والدموع
سخية
عليك يمين الله………. للعين ترحم
……..
وإن متّ في حُمّى هواك عليلة
فلا تفضحنّ السر ّوالناس تظلم
وحسبي من الأصحاب أنك صاحبي
وحسبي من الدنيا بحبك أنعم
ولولا انشغال الروح ما تعب الفتى
ولا كان من فرط الصبابة يأثم
وتعمى عيون المرء إن طال شوقه
أنين احتراق الوجد كالصمت أبكم
فمن أي حرفٍ يستعيد نشيده
ومن أي حبرٍ لايراق له دم ؟!
فلا الليل يدري أين تغفو نجومه
ولا الصبح أدرى كيفما الليل يُظلم
وتصحو الأماني مثل من يعشق الكرى
تمر به الساعات والعين تحلم
وأخشى من الأغراب حين يرونني
ويسأل عن أمري الذي ليس يعلم
ويظهر ماأخفيه من فرط لهفتي
فيدرك مافي القلب من ليس يفهم
ُأبادلْه النظْرات سراً وجهرة
ويخفق في صدري فؤادي والدم
ولائمتي في الحب أنكرت نصحها
وأمعنتها بعدا وماكنت أحجم
فبالله يامن لست أعلم ماالذي
له شاغل عني وقد بت أسأم !
لك الله باعد بين داري وداركم
وفارق فلا عنك الخلائق تعلم
وإن ساءلوني عنك قلت مهاجراً
الى أين ؟! قلت القلب .. والله أعلم
-التأملات:
-مدخل:-
كان الشعر ومازال على مرِّ الأزمنة تصويراً للأحاسيس القلبية ؛والعواطف الكامنة في الوجدان، وهو حديثٌ إيمائي مؤثر؛ يسري إلى قلب ومشاعر المتلقي ؛وينقله بأجنحته الحريرية إلى جوّه صافياً كان ملبداً بالغيوم الداكنة ؛وفي رسم ملامحه تتآزر التشبيهات والمجازات ملتحمةً بالطاقة الفنية المبدعة؛وأدائها وفقاً لقدرات الشاعر والفنيات المتاحة له.
وتتطلب -كما يشير النقاد- صناعة التعبيرات المشحونة بالإيحاءات ؛والمتساوقة مع التجربة الإبداعية تماماً؛كالخيال والموسيقى والتوازن والتناسب وماإلى ذلك من عناصر فنية؛ تتطلبُ قدرات غير يسيرة من المبدع الملهم ؛وهو بصدد إحكام صياغة تجربته؛والسعي إلى تجويدها ؛لتبلغ في نهاية المطاف مرتبةَ ما اصطلح عليه قديماً وحديثاً “جودة السبك “..
ومن الخطورة بمكان أن يقع الشاعر في تجربته تحت أسر الألفاظ الغريبة المعقدة ؛مُغْرقاً في التيه والتخيلات السقيمة؛ والإسراف في تجسيم الأحداث إسرافاً بعيداً عن دائرة الواقع؛إذ من شأن ذلك أن يفسد مافي الشعر من فكرة وعاطفة ؛ويجعل روحه الرفَّافةَ الطليقةَ تحت إسارالمغالطة القبيحة؛والفتور الباهت..
ولإمام العربية «المُبرِّد» في هذا الشأن كلمة لامعة مازال صداها مدوياً في الآفاق ؛إذ يقول:-” وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب فيه الحقيقة، ونبه بفطنته على ما يخفى عن غيره، وساقه برصفٍ قوي، واختصار قريب “
-جو القصيدة:
قصيدة شاعرتنا الكريمة؛اختارت لها
عنوان: “لست بريئاً”؛ وهو عنوانٌ ملتهبُ حاد؛ قام على نفي البراءة نفياً مطلقاً عن الطرف الآخر “المخاطب”؛ في النص؛بواسطة ليس النافية؛وهي بهذا التعبير تضعنا أمام موقفٍ مفصلي حاسم ؛أثار غضبَها واستياءها ؛وفرض عليها أن تشهدَ حلبة المواجهة بشموخٍ واعتداد؛ مزودةً بالعديد من البراهين والدلائل تبعاً لاستنتاجاتها ونظرتها البنائية للتجربة التي خاضتها .
-في جو النص:
تبدو ثورة الشاعرة من المطلع؛”أموت ولاأبريك”؛ فهي ترى أنّ الموتَ أيسر عليها من التماس البراءة لقاتلها الأثيم ؛وتمعن في الإصرار على ردّة فعلها مستخدمة الأداة “لو” ؛فيما لوطلب إليها الفصل القضائي في أمره ؛مشيرةً إلى أنها ستتخلى عن نزعتها الحانية المشفقة تجاه فعلته المُبهمة تلك ؛وسيكون وقع قرارها عليه عنيفاً مزلزلاً.
وتستهلُّ بيتها الثاني بالفعل “أشكو”؛المضارع المتجدد ؛متوجهةً إلى الله في بثّ مصيبتها الفادحة المستعصية على البوح والكتمان؛ومنصهرةً في معنى مع الشاعر الحكيم القائل: –
إلى الديَّان يوم العَرض نمضي
وعندالله تجتمع الخصوم!
ولوأنَّ دموع العين-على حد مارأتْ- حاولتْ منعها من الانتقام الفعلي ؛ فلن تذعن لنداء عبراتها ورجاءات عاطفتها ؛ولن يكون للرحمةِ من مكانٍ في خطتها..
وفي خضمّ هذه الحدة؛ يبرز للشاعرة موقف آخر ؛فيه انعطافةُ أناةٍ إلى ذاتها هي وقدرٌ -كبصيص الضوء- من الاستعطاف الهادىء ؛يوحي لنا أننا أمام مسلك عاطفيٍّ مغاير لما كانت بدأت به بقولها المشروط “بإن”؛ وسنلاحظ مايشبه التراجع عن نيَّاتها الأولى؛كما في:
وإنْ متُّ في حُمَّى هواك عليلةً
فلا تفضحنَّ السرَّ والناسُ تظلم
وحسبي من الأصحابِ أنَّكَ صاحبي
وحسبي من الدنيا بحبك أنعمُ..
وتتابع شاعرتنا رصد سلسلة من الإيماءات المتصلة بطبيعة الحياة الوجدانية ؛متكئة على أداة الشرط “لولا”؛ في المقطع التالي:
ولولا انشغالُ الروح ما تعب الفتى
ولا كان من فرط الصبابة يأثم
وتعمى عيونُ المرء إن طال شوقه
أنين احتراق الوجد كالصمت أبكم
فمن أي حرفٍ يستعيد نشيده
ومن أي حبرٍ لايراق له دم ؟!
فهي ترى من منظار عقلاني صرف أنَّ لصوارف الحياة ؛وتعدد شواغل الإنسان دوراً معيناً في التأثير على قراراته على حد قول الآخر:
ولولاانشغالُ الروح ماتعب الفتى
وتعمى عيون المرء لوطال شوقه!
تجنحُ بعد ذلك شاعرتنا إلى استحضار مشهد حلول الليل بطريقة تشخيصية؛-على سبيل التمثيل؛ والبرهنة على تصورها العقلي الآنف ذكره- ؛مسندةً إليه الفعل “يدري”؛والنجوم الزُّهر المرافقة له؛المذعنة لسلطانه ؛ وقد يحدث لها أن تغور وتتوارى عن الأنظار ؛فلايحفل بها الليل ؛ ولايحيد عن مساره المنوط به؛ كما هو الحال بالنسبة للصبح؛ وعلاقته بالليل ؛ فهما ثنائيان يتعاقبان في إدارة الكون الواسع وفقاً لمشيئة الله تعالى؛ كلُّ منهما يسير في فلكه المخصوص به ؛ولايعادي أحدهما الآخر؛ فلايترصد خطواته بالشر ؛ولايضمرله المكر؛على هذا النحو:
فلا الليلُ يدري أين تغفو نجومهُ
ولاالصبحُ أدرى كيفما الليل يظلم!
ثمّ نلاحظ الشاعرة وقد عاودتها موجةٌ الانفعال كرَّةً أُخرى ؛في مشهد مستقبلي مليء بالمخاوف والقلق ؛ وذلك حين تتكشفُ أسرارها الوجدانية ؛ولواعجها الغرامية ؛لأعين الغرباء والفضوليين ؛ومن على شاكلتهم من الشامتين؛والحانقين؛ وأصحاب الأفهام السقيمة؛فهم بالتأكيد سيخوضون في تأويلات كاذبة لاآخر لها ؛ومزاعم خاطئة ذات انعكاسات سلبية تضيقُ بها ذرعاً ؛ ولاتريد لها المساسَ بحياتها؛أوالتعرَّض لإشكالاتها؛ لامن قريب؛ ولامن بعيد ؛على حدّ قولها:
وأخشى من الأغرابِ حين يرونني
ويسألُ عن أمري الذي ليس يعلم
كذلك نجد شاعرتنا تضرب صفحاً عن اللائمة التي تمحضها النصح والإرشاد ؛فهي -على حدّ رأيها- تجهل معنى الحبِّ وأعرافه والقيم الجوهرية .
وفي ختام القصيدة تعود الشاعرة إلى ثورتها الأولى العارمة في نبرة عالية ؛مستنكرةً هذه التحولات المريبة في محبها الأثير؛ والشواغلَ التي أطفأتْ حرارة اللقاء بينهما ؛ وفيها يلاحظ طلبُ القسم ؛وتفاقم حيرتها المضطرمة ؛وبلوغها مرحلة السأم؛والسخط الكلي.
في ظلّ هذا التوتر الذي تمرُّ به؛ أفصحتْ عن قرارها النهائي؛ وهو قرارٌ بطولي من شأنه أنْ يضع حدَّاً للترهات والأكاذيب؛ بقولها:”باعدْ” ؛ الذي يحمل معنى البعد الجسدي والمكاني شاملاً لديارهما ؛وتعزز مطلبها هذا بقولها:”فارق”؛من المفارقة بما يؤكد أنّ قرارها هذا لا رجعة فيه ؛ولاجدوى من التماس الحيل لإقصائها عما عزمتْ عليه؛ولنا أن نرهف السمع إلى قولها النغمي الشفاف :
فبالله يامنْ لستُ أدري ما الذي
له شاغلٌ عني وقد بتُّ أسأمُ!
لك اللهُ باعدْ بين داري وداركم
وفارقْ فلاعنك الخلائق تعلم!
وإن ساءلوني عنك قلتُ مهاجراً
إلى أينَ قلتُ القلب والله أعلمُ
-بعضُ سمات النص الفنية(باختصار):
-القصيدة بوجهٍ عام غنائية رومانسية ائتلق فيها العنصر الدرامي ؛ واتشحتْ مضامينها بسربال معاناةٍ أليمة كابدتها الشاعرة بيد أنَّها ظلَّتْ محتفظة ببوصلة بصيرتها المستمدة من الله أولاً ؛ثمَّ معرفتها الإدراكية بالطبائع الإنسانية ؛واختلاف الأزمة ؛من واقع رؤيتها الكونية الصافية الخالية من التشنج ؛والمزايدات الفارغة؛ تجلَّى ذلك كله في القصيدة من ألفها إلى يائها.
- على مستوى البناء المعماري امتازت بحلاوة الرونق ؛وتماسك الأجزاء؛ومتانة التراكيب؛والوحدة العضوية.
-امتاز أسلوبها بالسلاسة العذبة؛واتسم باللطف والرقة ؛والعديد من اللمحات الموحية.
-كما بدت فيها العاطفةُ الجيَّاشةُ نبعاً دفاقاً بالحنان ؛والوعي ؛وصدقِ المودة ؛ووضوح المنحى ؛والدعوة إلى الترفع عن الانكسارات؛والسفاسف؛ وماشابهها ؛وفيها أيضاً مسحةُ حزن تحاولُ جاهدةً كتمانه؛ والتنحية عن أمواجه النفسية الهدَّارة ..
-تمظهرتْ في النص شحناتٌ انفعالية متمازجة قائمة على :الأمل؛ والألم ؛ الرجاء؛ والفرح؛التوجس؛الاستغراب؛التماس الأعذار ؛وما إلى ذلك من العذابات النفسية الكامنة؛
ولعلَّ أكثر العناصر بروزاً عنصر المفارقات؛وعمادها الذي قامت عليه هو :”الحب النقي الخالص “.
-شيوع بعض معاني الحكمة المستمدة من بعد نظرها للأشياء كما في قولها:
ولولاانشغالُ الروح ماتعب الفتى
ولاكان من فرط الصبابة يأثمُ
وقولها:
وتعمى عيون المرء لو طال شوقه
أنين احتراق الوجد كالصمت أبكم
-المقابلة:
فلا الليل يدري أين تغفو نجومه
ولاالصبح أدرى كيفما الليل يظلم
-الصور امتزجت بالنص ؛ كقولها:
وتصحو الأماني مثل من يعشق الكرى
تمرُّ به الساعاتُ والعينُ تحلم
-إيقاع القصيدة:
امتاز بالرنين الموسيقي؛ ممثلاً في تفعيلات بحرها الطويل؛وهو بحر يمتاز بالرصانة والجلال في نغماته وذبذباته المنسابة الهادئة.
كذلك جاء رويُّ الميم غنياً بالرنَّات الموسيقية العذبة.
-كلمة أخيرة؛من قبيل الشيء بالشيء يُذكر.
ذكرتني قصيدة شاعرتنا بمعزوفة أبي فراس الحمداني التي استهلها بقوله:-
لذيذ الكرى حتى أراك محرم
ونار الأسى بين الحشا تتضرمُ
وإنَّ جفوني إن ونت للئيمة
وإني وإن طاوعتهن لألأمُ
وإني وإياه لعين وأختها
وإني وإياه لكف ومعصم
تحية لك أيتها الشاعرة القديرة؛على هذا الحضور الشعري؛والتألق البديع وإلى المزيد من التجلِّي في عالم الشعر وفراديسه المونقة.
خاصية التعليق غير مفعلة - يمكنك المشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي